الطفلُ الذي بكى

أيمن يوسف أبو لبن
قاص أردني
يستذكرُ آدمُ ذكرياته الشائكة مع والده، وهو طفلٌ صغير، تلك الذكريات التي يغلبُ عليها الندرةُ، واختلاط المشاعر، والحيرة التي كانت تتلبسه، وما زالت تتلبسه كلّما استرجع تلك الذكريات.
عاش آدمُ طفولةً معقدةً بعض الشيء، انطباعه الأوّلي كان الغضب العارم على غياب والده المتكرر، والذي لم يكن يسمح ببناء علاقة تناغم وتواصل قوية ومستمرة بينهما، فقد كانت متقطّعة ومتخبّطة.
والدهُ الذي اغترب لفترة طويلة، لم يكن متواجدًا في أغلب الأوقات لمشاركة طفله لحظاته المميزة، ومناسباته الخاصة، عيد ميلاده، احتفالية انتهاء العام الدراسي، فوزه بميدالية بطولة الشطرنج، مشاركته في اللعب بالثلج، أو حتى اصطحابه إلى السينما في عطلة نهاية الأسبوع.
كانت هذه الفترة في حياة آدم، مخدوشةً دومًا، ومدعاةً للشعور بالنقص، نقص الأبوّة، ونقص العاطفة.
ولكنَّها كانت فترة مُرضيةً من ناحية أخرى، فقد نال فيها آدمُ الكثير من الهدايا الثمينة، واستحوذ خلالها على العديد من الألعاب باهظة الثمن، وتمكّن من الانتساب إلى نادي الشطرنج للناشئين.
ومن هنا كان آدمُ حائرًا في المفاضلة بين حميميّة المشاعر، وبين ما يمكن أن يجنيه من غيابها، وهي لا شكَّ معادلةٌ صعبة!
أمّا الفترة التي تلتها، فتلك التي لم تأتِ بمفيدٍ له، فقد عاد أبيه من الخليج إثر غزو الكويت بخفّي حنين، وعانى الأمرّين للحصول على وظيفةٍ بعد الكساد الذي شهده السوق، وهو ما أدّى إلى انخفاضٍ ملحوظ في مستوى المعيشة للعائلة، نتج عنه تحويل آدم إلى مدرسة حكوميّة، وانفصاله عن ترف العيش الطفوليّ.
لم يتوقف الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل أصبح تواجدُ والدِه في المنزل نادرًا جدًّا، حيث اضطُر أن يعملَ سائق "تاكسي" بعد الوظيفة الحكوميّة لسد احتياجات الأسرة، ما أدى إلى اختصار تواصل آدم مع والده إلى ساعات قليلة في الأسبوع، محصورة في يوم الجمعة.
عاش آدمُ حالةً نفسيّةً مزرية، ولكنّه لم يصرّح لأحد، حتى لأمه، أقرب الناس إليه، وجسّر المحبة بينه وبين أبيه، بل بينه وبين العالم.
هذا الكبْتُ الذي عاشه، أدى إلى حالة فريدة من احتباس الدموع؛ لم يكن آدمُ قادرًا على البكاء، حتى لو تعرّض لأقسى عقاب من مُدرّسيه، أو تعنيفٍ من زملائه الذين يتنمرّون عليه كونه من أولاد الطبقة الارستقراطية وأهل الخليج. لم يكن قادرًا على البكاء، حتى لو شعر بالرغبة في ذلك!
استمرت هذه الحالة معه لسنوات، ولم يشعر بها سوى والدته، التي حاولت علاجه وعرضه على الأطباء، بل وعلى جارتها التي تعمل بالحُجُب، دون أي جدوى!
وفي يوم من الأيام، قرّر آدمُ مواجهة واقعه، والتحدّث إلى والده، كان يريد أن يصرخ في وجهه، أن يتخلّص من كلِّ الأعباء الجاثمة على صدره ويلقي بها عليه، كان يريد أن يقول له بأنّه تسبّب بتراجع مستواه الأكاديميّ، وتحصيله العلميّ، وأنّه خسر أصدقاءه وزملاءه في المدرسة القديمة بسببه، وأنَّه حُرم من حلم العمر بأن يكون بطلًا دوليًّا في الشطرنج يومًا ما، بل إنّه حُرم من طفولته ومن حقّه في البكاء...
كان والده، في هذه اللحظة، يمثّلُ له كل المعوّقات التي تمنعه من النجاح، كان مُقصّرا في حقّه، وفي حقِّ والدته، وربما في حقّ نفسه، ولكن آدم لم يكن مُباليًا بذلك، ما يهمّه هو حقّه هو، فوالده ووالدته ناضجان يتحمّلان مسؤولية نفسيهما، أمّا هو فلا.
وفي تلك الليلة، لم ينم آدمُ، اصطنع النعاس، واندس تحت الفراش في غرفته، أغلق عينيه وأبقى الباب مفتوحًا، مُرخيًا السمع. مرّت الساعة تلو الساعة، حتى اقترب الليلُ من الانتصاف، وإذ بدقّاتٍ خفيفةٍ على باب الشقّة، تحركت والدته بخفّة إثرها لتشق الباب بهدوء وتعانق والده مرحّبةً به.
فتح آدم عينيه، وبقي متيقّظًا، متحيّنًا الفرصة للخروج.
سألته زوجته عن يومه، شرح لها معاناته دون أن تسقط الابتسامة عن وجهه، حدّثها عن بخل ذلك الزبون ثم ألقى النكات متندرًا عليه. حدّثها عن العجوز المسنّة التي رفض أن يأخذ منها الأجرة، وشاركها الضحك على نصيبه الناقص في الدنيا!.
وبينما كان يتناول طعام العشاء المتأخر، قال:
-جاءني أحد المُراجعين صباح اليوم، يبدو عليه أنَّه أديبٌ أو صحفيّ، كان يريد استخراج شهادة وفاة لأبيه، وما إن تبادلت معه أطراف الحديث، حتى فتح لي قلبه، وقال بضع كلمات حفظتها أو لعلّي حفظت معناها، قال: "عندما يموت أبوك تُدركُ أنَّه كان رجلًا عاديًّا لم يكن بإمكانه أن يفعل أكثر مما كان، تتصوره بطلًا وتتوقع منه المعجزات، ولكنّه في النهاية مجرد إنسان قد هزمه الزمن. ثم تتمنى بعد أن تُدرك ذلك، لو أنّك عقلتَ ذلك باكرًا، وبادلته الحب بدل العتاب"!
ساد الصمتُ المكانَ، وحشرج صوته، بينما ابتلعت الصدمةُ لسان الأم وتجمّدت تعابيرها، شعرت أنَّ الكلام هذا نابعٌ من قلبٍ مكلوم، وحزن مكتوم، أو لعلّها أدركت في تلك اللحظة، أنّها هي ذاتها لم تكن تتصوّر أنَّ الزمن يُمكن أن يهزم هذا الشخص الذي أحبته وعاشت معه في السرّاء والضرّاء، بل إنَّها لربما لم يخطر في بالها أنَّ الموت نفسه قادرٌ على أن يهزمه!
وأكمل:
- آدم، آدمُ كان أولَ من خطر على بالي تلك اللحظة، وظللتُ مشغولاً بالتفكير به طوال اليوم، هل هو نائم؟!.
لم تجب؛ كانت غارقة في التفكير.
وتتمتم بكلمات غير مفهومة، مسك بيديها وهزّها:
- ما بكِ!
قالت ببطء وبصوت متهدّج:
- إنّني أختارُ الحياةَ، سأحيا لأنَّ ثمّة أناساً قليلين أحبُّ أن أبقى معهم أطول وقتٍ ممكن، ... لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى!.
ثم أردفت:
- تذكّرت هذه الكلمات من رواية "الطيب صالح"، كنت أقرأها هذا الصباح!.
كان الكلامُ مؤثرًا، ووصل إلى قلب والد آدم كما أرادت بالضبط. قال متلعثمًا محاولًا تغيير الحديث:
- آدم، كنت أسألك عن آدم !!.
ردّت:
- لا تزعجه، بالكاد نام، شعرتُ به وهو يقاومُ النومَ في فراشه.
انسل الوالد بخفّةٍ ودخل غرفة آدم، وقف قبالةَ السرير، كان آدمُ قد أغلق عينيه، ورسم على محيّاه ملامح الهدوء والسكينة، بعد أن ابتلع كلَّ كلام العتاب ولم ينبس ببنت شفة. ابتسم والده، تفحّصه مليًّا، كان قلبه يراوده أن يوقظه من نومه، كي يحتضنه، كي يشتمَّ رائحته، ويقبّل جبينه، ولكنّه لم يفعل، غادر الغرفةَ كما دخلها بخفّةٍ وأغلق البابَ وراءه بهدوء.
فتح آدمُ عينيه، في تلك اللحظة شعر بحاجةٍ ملحّةٍ للبكاء...