شواء الظل

فوزي صالح
قاص مصري.

طرقَ ابنُ يوسف البابَ ودخل، صدفةً كنتُ أتهيأ للغوص، ورأسي بعد طول مكابدةٍ منضبطٌ على بوصلة البدء، إذِ احتمالان ولا ثالث، صدفة! لكنه دخل ولم يسلّم، لم يحتضنِّي ويقبلني أربعًا كدأبه، أزاحني عن مقعدي، وجلس.. غرفةٌ بمقعدٍ ومنضدةٍ وسريرٍ مهجَّنٍ، اقتنصته من حوالة برسمِ الصدقة، وبضعة كتيبات أتهجَّى بها الطفو، طأطأتُ رأسي مستسلمًا وارتكنت إلى المنضدة أبحث عن مخرج، قال أبي ذات صفاءٍ نادر: يا ابني، صحبة الليل أُفونة، كُنْ صحبَك حين يجن، وتملَّ كائناته بعمق، تدخلْك الدهشةُ، والدهشةُ تلدُ الأسئلةَ، مفتاحَ بابِ المعرفة.
قلتُ: يا أبي، لليلِ رهبةٌ لا يكسرها إلَّا اللغو، واللغوُ لا يكون بمُفْرَدْ.
أشار بإصبعه المطرزة بمواسم القحط: اكسرْ رهبته بهذا. لاحَ عصفورٌ أزغبُ يعافر الهواء بجناحين هشّين، في مناوشاتٍ دائبةٍ للفكاك، أطلَّ الجعفريُّ بوجهه المدبوغ، وعينيه الطيبتين كعيني تمساحٍ نيليٍّ مقعد:
سلنا عنه يا عم.. فردناه طاولة، ونقشنا عليه كؤوسًا وأنهارًا من شفقٍ مصفَّى.
أشاح أبي بوجهه وتمتم: يأتيك بلسان زلق.. يشعلك بشمع ومضاته، فتظنه الثُّريَّا، لكنَّه والزقُّومَ صنوان.
- وابن يوسف؟؟
- شقوةٌ مجسمةٌ، ما اقتربت من غريرٍ إلَّا مسَّتُه بريحها.. خليطانِ من سفهٍ وعشى.
- ذهب الأزغب يا أبي.. أكله القط قبل أن يلجم الهواء!
- لكنَّه برغمِ الوهنِ أخلصَ المحاولة.
ارتكنتُ إلى المنضدة أبحثُ عن مخرج.. لم يُسعفني رأسي.. تجمدت الإشارات على الأحمر، فتوقفت الحركة، وابتدأ الغليانُ؛ غليانُ الأبخرةِ والغازاتِ المتصاعدةِ في الحيِّزِ الضيِّقِ حتى صارت أتونًا، انحرفت عيناي صدفةً وتوقفت عليه.
كانَ لمَّا يأتي
يُمْطِرُني بالضَّجيجْ
يجولُ بلسانه الحريرِ في عوالم الدخان، ويهمي أقاصيصَ بلا ذيلٍ، ينقشها في ذاكرتي حقائقَ لا تحتمل الجدل، فأتسربُ في نسيجِ مجازاتِه، سندباد، وحينَ أنكصُ معبًّأ بالمحاراتِ والقواقع، يعيدُني!!
هالني اصفرارُه وشرودُه، شَرَك الموت يضفِّرُ وجنتيه الناتئتين.. هممت بالكلام، فبادرني:
- كم الساعةُ يا ابن أخي؟
- تمامُ الواحدةِ صباحًا.
انقلبت صفرته إلى زرقة، وانكفأ يلطم خديه، ويشق جلبابه، ويعوي عواءً متقطّعًا، حتى أضحت حنجرته بوقًا خربًا، وعيناه جمرتين:
- ما الحكايةُ يا إبراهيم؟
أرعبتني بُحَّته، ولسانه البندول.. قال وصوته مشدودٌ إلى أحباله بجذْرٍ طاغٍ:
- ويلك يا إبراهيم.. ويلك يا ابنَ يوسف.. ليتها خنقتك في سرِّها.. ليت الكوليرا حصدتك فاسترحت..
- ماذا أفعل يا ابنَ أخي؟ أشرْ عليَّ.
وأخذَ يخمشُ وجهه، ويعضُّ أطرافه حتى شرَّ الدمُ، ورقَّشَ جلبابه ببقعٍ برتقاليةٍ، تمدَّدَ متشنجًا بين المقعد والمنضدة!
كنت أتهيأ للغوصِ، إمَّا نجمٌ، وإمَّا هاويةٌ! لكنَّ إبراهيمَ أحبطَ خططي، وأفسدَ المحاولة!
سال الزبدُ من زاويتيْ فمِه مكوِّنًا كراتٍ صغيرةً لامعةً، راحت تتطاير مع تقلُّصات شدقيه وتنفجر في الفراغ المحيط برأسيْنَا، زفرَ زوبعةً، فامتلأ وجهي ببقايا زبده، تقيَّأ قصاصات ورقٍ، وأحجبةً قطنيةً، ومدادًا متجمّدًا، وخرائطَ مبهمةً، سكن جسده لثواني، وحين فتح عينيه الليمونيتين، حملق فيَّ بدهشةٍ ورعبٍ، ثم اندفع يقبِّلُ قدميَّ، ودموعه السيل تنحتُ بين مجامعِ الأصابعِ شقوقًا مالحةً، صعد أثرُها القابضُ، فأومأَ اليافوخُ بالقرف.
اعتادني الغثيان من طول الرفقة، واستوطن المعدة، فلم تستجبْ سوى عضلاتِ الوجه.
- السماحَ يا أهلَ السماح.
همستُ والخوفُ يشلني: ماذا بكَ؟ تكلم.
- العفوَ يا سيِّدي.. زلةَّ، سأمسحها إن شئت بدمي.
التبس لساني، واشتبكَ في سوايَ. المكانُ براحٌ، والمدى زيتوني، ثمةَ إشاراتٌ بارقةٌ تلتقطها الحواسُّ المرآةُ بإحاطةِ مرسلها، أرائكُ وحشايا، وسُرُرٌ مرفوعة.. متَّكِئٌ ينقشُ بأصابعه الآسرة خطوطَ محاكمة، وجسدٌ مهملٌ على مدى شفرةٍ، يعبثُ في الفراغ بعودِ أراكٍ مدمَّى، ساهمٌ حدَّ الغياب.
همستُ: يا سيِّدي
تردّد الصوت رهيفًا: يا سيِّدي.. سيِّدي.. سيِّدي..
مالَ عصفورٌ اختلطت ملامحه بملامحي الأولى موسوسًا: دعِ الغريبَ يحاسبُ نفسه.
- لا.. يظلُّ هكذا إلى حين.. لا يشبعُ ولا يرتوي، تتكالبُ عليه المواجعُ، فلا يطعمُ راحةً، ولا يهنأ بعيش.
يا ابن يوسف.. كنتَ الصاحبَ حين ابتعدوا، واللسانَ حين صمتُوا، والمصدِّقَ حين كذَّبوا، لكنَّها قطرةٌ في بحري.
أحطتُك بما لم يُحَطْ بهِ إنسيٌّ قبلك، وطوَّفتُ بكَ في المجرَّاتِ، وفي أعماقِ محيطاتٍ لم تُسَمَّ، وتوَّجتُكَ على كائناتِ الريحِ والماءِ والنارِ، فاخترقتَ كثافةَ الطِّينِ إلى الشفافيةِ المحضةِ..
آنستُ فيكَ رضائي، فأسلمتُك قميصي وعصايَ وبابي، وعقدت بين دمِكَ ومِسْكِي رحابةً ظننتُها لا تبيدْ..
كيف انقلبت يا إبراهيم! كيف؟

الليلُ ساجٍ، والضجيجُ الذي لا أعرف مصدره يخضني. تخمة النوم والظلمة تعرِّش الحجرات والزوايا المجاورة.. لا أحد يزمِّلنُي بقليلٍ من الغمضِ.. بضع كتيِّباتٍ وذاكرةٍ تحرثُ الهواءَ، وتفتلُ خيوطَ العنكبوتِ في مدائنَ تستخفُّ بالياسمين، وتباركُ العَمَى!
- بايعني.
- أبايعُ الفاروقَ إلى القيامة.
عواصفُ واحتمالاتٌ، وأناسٌ يصعدون ويهبطون، بمعاولَ وسيوفٍ وشموعٍ وبنادقَ وزيتونٍ.. راياتٌ خالصةٌ ومختلطةٌ.. فاتحة وغامقة.. لا تعرف من أين تجيء، أو إلى أين تمضي!
وحده ساكنٌ كالجُبِّ.. ساهمٌ حدَّ الفراقِ.. يرسمُ في الفراغِ وجوهًا شائهةً، وأصابعَ معقوفةً، وأفنيةً ملآى بالهوامِ، وخلفيةً شاسعةً من السواد..
- كم الساعةُ يا ابن أخي؟
هززتُ رأسي، وتحسّستُ أطرافي، كيما أتيقن من وجودي وموقعي.. أقف إلى جوار المنضدة، وإبراهيمُ بين رجليَّ والمقعدِ مقعيًّا، وجهُهُ بين يديه، وركبتاهُ تصطكَّانِ من ضراوةِ الحمَّى.
- ما الحكايةُ يا إبراهيم؟
- الحكايةُ!!
فرد خرائطه المبهمة، وأشارَ بإصبعٍ ترتعشُ، إلى مساحةٍ بحجمِ القلبِ، تندفعُ منها كراتٌ من دمٍ متخثِّرٍ وجماجمُ وأشلاءٌ، وتحيط بها غربانٌ وحيَّاتٌ وقططٌ بريةٌ، وبركٌ من صديدْ
- أمرني سيِّدي الريِّس أن أكونَ هنا، فنسيت..
- هيه.. مضى الوقتُ.. لا فائدة.
مسحَ عينيه وفمَه بطرفِ قميصه.. لملمَ أشياءَه المتناثرةَ، وأودعها جوفه المنتفخ، نهضَ بتكاسلٍ، وخرجَ، لم يسلمْ، ولم يغلق البابَ، ولمْ..