حياة

قصة: حنان بيروتي

قاصة أردنية

hananbei@yahoo.com

 

ملامحه توحي بهدوء ظاهر، وجهه بشرة بيضاء ناصعة، وعيناه يسكنهما حزن عميق، ينظر حوله ‏بقلق، ويتلصّص النظر إلى ساعته كأنه فتاة يتوعّدها أخوها على باب العقاب، تحاصره الأسئلة ‏ويحاصره الوقت.‏

لا أدري لِمَ تلبستني حالةٌ من اللامبالاة تلك اللحظة، كنت أحثُّ الخطى عائدًا من الجامعة بعد يوم طويل ‏وشاق أنظر إلى ساعتي مثل مذنب، أتخيّل وجه أمي المسبوق بصوت خطى أبي المُسرعة لفتح الباب، ‏لهاثها ولون الخوف في عينيها، ثمة شكلٌ لخوف الأمهات له رائحة الحنان الطازج، أتخيَّلُ صوت أنفاس ‏أبي التي بتُّ أخافه، وملامح الغضب المتواترة في عينيه وحركاته، ونبرة صوته كأنّه يحادث أحد ‏الجنود المتَّهمين بالخيانة في زمن الحرب، أبي... أعرف أنه ابن الجيش، خدم فيه أربع وعشرين سنة ‏بالتمام والكمال وترفّع إلى رتبة عقيد وبات يُدمن الأوامر ويستطيبُ السُّلطة، ولا يفهم من الحياة إلا ‏الضبط والربط، هكذا عاث النظامُ بدمه فأفسد دفقات العاطفة وإحساس الأبوّة الفطري، بتنا أنا وأختي ‏‏"حياة" نعيش رعب وجوده واضطراب انتظاره وكابوس مخالفة أمرٍ من أوامره وتعليماته التي لا ‏تنتهي.‏

وجه "سناء" يطفو على سطح تداعياتي فيمسح برفق سوادها، تهفّ صورتها على اضطراب قلبي، ‏فأشعر بقوة تعينني على مقارعة الدُّنيا، وأنسى للحظاتٍ توتري من مواجهة لا بدّ آتية بعد تأخُّري عن ‏موعد العودة المقدّس لسجنٍ يسمّى البيت.‏

‏ "سناء" ربما لم تكن تعي كم هي جميلة بشعرها الخفيف الناعم الذي تتركه يغطّي كتفيها ولا يخفي ‏عريّ ذراعيها، وجمال ملامحها الطفوليّة، حين تضحك ترفرف في قلبي عصافير الحياة، وحين تقترب ‏منّي بلا قصدٍ يهتزُّ قلبي مثل سجين...‏

‏-‏ ما رأيكَ بعد هذا الامتحان الدّسم أن نشرب القهوة قبل أن نقارع أزمة الباصات؟

قالتها بعفويّة ولم تحسّ باضطراب يعتمل داخلي: ‏

‏-‏ نعم..‏

قلتُها باردة بتردُّد مبعثه خشيتي من التأخُّرعن الموعد المقدَّس، الخيبة المرتسمة على ملامحها وشبه ‏دمعة تلتمع في صفاء عينيها جعلتني أطرد شبح التردُّد وأتظاهر بالحماسة لمرافقتها، سرتُ بخطىً ‏نشيطة وأنا أصطنع فرحي المكسور

‏-‏ لكن "العزومة" هذه المرّة عليّ!‏

من أين لي أنْ أرسمَ جمال نظرتها المندهشة بطفولة وهي تهزُّ رأسها بدلال، فتنثر مع حركتها ياسمين ‏فرح لا يمكن التقاطه في الحياة إلا نادرًا.‏

‏-‏ لآ..لآ... أنتَ دفعت المرتين الماضيتين... ذاكرتي حديد.. ما زلتُ صبيّة!‏

‏-‏ وأجمل صبيّة في العالم!‏

‏ قلتُها بتسرُّع، فنهرتني بنعومة بنظرةٍ سريعةٍ مغناج، ومضت أمامي مثل نسمة.. آه يا "سناء" صورتك ‏تحفر في قلبي دهاليز حزن لا يشيخ، كلما تذكّرتُ ما بيننا من براعم أحلام وشرفات على أزاهير الآتي ‏داهمتها سيول الحياة، تأكلني الحيرة من قسوة العالم... لم أكن وقتها أملك الوقت ولا المال لأتمرَّد، ‏وقتي مقسوم بسكّين أبي العمياء وقوانينه، وطاقتي مهدورة خوفًا على أمي وحنانها الدافئ، ثم من أين ‏لي أن أعيش؟ وكيف؟ وأين؟ أين؟

‏"تعال اقتسم معنا الشقّة.. أصلًا الإيجار هدّ حيلنا يا رجل!".‏

قالها "أحمد" وكأنه يقرأ أفكاري أو يتصيّد ما بي، لكنَّ "حسن" لم يفسح لي مجالًا للامتنان على ما تهبه ‏الحياة من خيارات؛ إذ قال بسخرية: "يزن" لا يترك حضن الماما!‏

لا أعرف للآن ما أصابني وكيف تمرَّد جسدي عليّ، أحيانًا يتمرَّد الجسد علينا فيسبق أوامر العقل، ربّما ‏ثمّة وقت يعطل فيه القلبُ العقلَ أو يلهيه، ربّما أحسستُ بوخزة في كرامتي دفعتني لتوجيه لكمة مصوَّبة ‏على وجهه، بلحظة كانت نظّارته الطبيّة قد سقطت على بُعد أمتار عنه، والدم يقطر من أنفه ونظرة ‏متفاجئة مغدورة تطلُّ من عينيه، وذراعي مكبّلة بيدٍ حديدية لـ"أحمد" الذي بدا مثل بركان يوشك على ‏الفوران: "صلّوا على النبي.. صل...".‏

تنمَّرَت ملامح "حسن" وغدا مثل وحش كسير وهو يغدر بالهدنة غير المعلنة التي فرضها الوضع، ‏وضعية "أحمد" وهو يكبّلني كأنه أسد أوشك على الفتك بحمل وديع، أحسستُ بلكمتِه على فمي وبوجع ‏حاد في أسناني التي تكسّر بعضها، فثرتُ مثل مفجوع وأنا أحرِّر يدي من ذراع "أحمد": "والله لألعن ‏أبو...".‏

عراك سريع وضربات ولكمات نال فيها "أحمد" نصيبه من الضرب حتى كاد يتركنا -كما أخبرَنا لاحقًا- ‏لنقتلَ بعضنا بعضًا في فورة الغضب الشّبابي تلك..‏

آه يا "سناء" لو تعرفين كم تألّمتُ يومها، وكم نهشني الندم، لم أخَف من ردّ فعل أبي حين أرجعُ لبيته ‏بأسنان مكسورة وكدمات على الوجه، وقميصي المخطَّط الذي أشتريتُه قبل أسبوع ممزَّقًا من الكتف ‏وبأزرار مقطوعة من أعلى الصَّدر، شيء ما يعطينا التجلُّد والتأقلم مع الواقع، ربّما الألم الجسدي يُفقدنا ‏الخوف من الآتي.. كنتُ كمعتقل تعرّض لتعذيب سادي وواجه صفعات الموت، ولم يعُد يعنيه الآتي.. ‏ليس لديّ ما أخسره تلك اللحظة إلا عينيكِ وهما تنثران في براري روحي ياسمين الفرح، الخشية من ‏خسارتك وخسارة الإحساس بكِ هو ما أخافني، والشفقة على أمي! خشيتُ عليها من الألم، هكذا نحن ‏الأبناء خوفنا على أمّهاتنا ضئيل مثل فرح يتيم في العيد.‏

‏"سناء"... ردَّدتُ اسمكِ ثلاث مرات مثل تعويذة وأنا أستقبل شهقة أختي "حياة " وهي تفتح الباب، كان ‏الحزن يملأ وجهها وكثبان وجع ما تسكن روحها، شهقَتْ قبل أن تتجعَّد ملامحُها وتضمُّ شفتيها وتصغر ‏عينيها وتنفلت ببكاء متشنج، وأنا أقفُ مشدوهًا من ردِّ فعلها، أردتُ أن أقول لها إنّي بخير، وإنّ عليها ‏ألا تخشى من أبي لأنّي لم أعُد أخشاه، ولا أخشى فوْرة غضبِه مثل بركان لا يهدأ. حاولتُ أن أحتضنها ‏وأن أضمّها، لكنها تراجعت، ولا أنسى كلماتها التي سقطت على نفسي مثل قطرات ماء مغلي لسَعَتني ‏على حين غفلة وهي تقول: "أمي....".‏

وسكتت، خنقتها الكلماتُ ثقيلةً مثل جثث متجمدة.‏

أردتُ أن تُكمل، اخترعتُ ألف احتمال لتكملةٍ مقبولةٍ. أمي نائمة منزعجة من تكرار تأخُّري.. في ‏السوق.. في الحمّام... لكنَّ صمتَها جعل قلبي ينتفضُ مثل عصفور مُطارَد، قلتُ لها وأنا أقتحم البيت ‏وأدخل غرفة الجلوس حيث اعتادت أمي أن تتمدَّد على "الصوفة" مقابل التلفاز لكنَّها كانت خاوية، ‏و"حياة" ظلَّت متجمدة مكانها مثل علامة تعجُّب في سطرٍ فارغ..‏

‏"يلعن (....) وين أمي؟!".‏

تتكرَّر الحوارات التي تسبق الموت، كأنّه يمهّد لمجيئه، ويفسح لموكب قدومه، لكنَّ النفوس الغارقة ‏بالحياة لا ترى، قلتُ لنفسي مرارًا إنّه سارق محترف، لكنه أحيانًا يصطدم بقطعة أثاث في أرواحنا ‏فيُصدر صوتًا سابقًا للفقد... لكن لماذا لا نسمعه؟

‏"سناء" التي انسلَّت من بين المحيطين بي ومدَّت كفَّها بالسَّلام وهي تهمس: "البقيّة بحياتك" أردتُ أنْ ‏أضمَّها وأحملها وأهرب من كلّ الدّنيا القبيحة، لكنَّ شفتيّ جافتان، وروحي مثل صحراء، لم أستطع إلا ‏أن أردَّ الإجابة بتمتمة قصيرة، وأشيح بوجهي عن لهفة نظرتها المعلَّقة بي. بدا وكأنّي أحمِّلها سببَ ‏موت أمي الفاجع.. الموت المفاجئ فجيعته مزدوجة، ظالم بقسوة لامتناهية.‏

الآن، وبعد فقدي لأمي، بعد مرور ستة عشر عامًا، أكتشفُ أنّ موتها كان علامة فارقة في حياتي، ‏تغيَّرَت فيها نظرتي للعالم، وغادرتُ بيت أبي الذي بات موحشًا مثل قبر لا حياة فيه إلا "حياة" أختي ‏وظلّ لأمي، لكنها رحلت مع زوج استحوذ عليها كأنه يتملّك شقة العمر. غادرتُ بيت أبي بلا أسف، ‏وتركته يتجرّع تأخري في السؤال عنه لشهور من عمرٍ لم أعُد أقيسه بغير نبضات الذكرى المضيئة ‏بملامح "سناء" ووجه أمي.‏