حمامٌ دامي القلب

قصة: تيسير نظمي

قاص وروائي أردني

tayseernazmi@yahoo.com

 

‏ نافذةُ غرفة مكتبي مطلّة على الشارع. لذلك، عندما أجلس منهمكًا وراء حاسوبي أنقل نظري ‏ما بين شاشة التلفاز على يميني أو أنظر أمامي لأرى المارّة. في هدأة الصباح الباكر لا يكون ‏هنالك مارّة عادةً فأسمع وأرى هديل الحمام وحركته المقترنة بزقزقة العصافير على شجرة ‏الكينا العملاقة بمحاذاة شبّاك غرفة النوم المجاورة لغرفة المكتب. وعندما أجلس مسترخيًا ‏على "الصوفا" المحاذية لنافذة المكتب تلك أرى الحمام بكثرة يتقافز هنا وهناك ما بين شجرة ‏وأخرى أو واقفًا على أسلاك الكهرباء أو الهاتف أو حتى متمشِّيًا على الرصيف أحيانًا. قلّما ‏شهدتُ غزلًا بين ذكور الحمام وبين إناثه، بل على العكس كنتُ أرى الحمام في الغالب متباعدًا ‏عن بعضه بعضًا. وكنتُ أتصوَّر أنَّ الحمام لا بدَّ أن يجد في شجرة الكينا فارعة الطول ملاذًا ‏له في بناء أعشاشه عند التكاثر. إلّا أنَّ هذا التصوُّر طرأ عليه تعديل أليف ومُفرح عندما ‏لاحظتُ من خلال زجاج نافذة الحَمّام إحداهنَّ جالسة بكل هدوء وطمأنينة وتلتفت يمنةً ويسرةً ‏من حولها دون أن تلاحظ حركتي من ورائها خلف النافذة. بل خفَّفتُ من حركتي كي لا ‏أزعجها أو أجعلها تستريب في أمري. ومع الأيام أضفتُ إلى عاداتي المنزليّة عادة جديدة كلَّما ‏دخلتُ الحَمّام وهي؛ الإطلالة على الحمامة حيث تنعم بظلِّ النافذة الصغيرة ساعات الظهيرة، ‏لأكتشف أنَّ الحمامة داكنة اللّون لا تجلس للراحة والتأمُّل مثلي، بل إنَّها في غفلة منّي كانت ‏تبني عُشًّا بسيطًا في ظلِّ النافذة، لا بل اكتشفتُ في غيابها الطارئ أنها قد وضعت بيضة ‏واحدة صغيرة وتجلس فوقها لفترات طويلة، ممّا أدخل على قلبي الكهل سعادةً غامضةً ‏وفرحةً صغيرةً بحجم زغلول قد فقسَت عنه البيضة للتوّ، دون أن أرى ذلك في حقيقة الأمر. ‏يا لها من حمامة بالغة الأمومة، وبالغة الحسّ بالمسؤولية، ويا له من زوج حمام أرعن ذلك ‏الذي يتركها وحيدة بعد أن بنت عشَّها وحيدةً أيضًا. ‏

‏ ممّا لا شكَّ فيه أنَّ تلك الحمامة داكنة اللون سوداء العينين أثارت لديَّ شجونًا شتى وذكريات ‏لا حصر لها ومعظمها للأسف ذكريات مؤلمة؛ لذلك تمنَّيتُ لو أنَّ بمقدوري التحدُّث بلغة ‏الحمام كي أدعوها إلى دخول منزلي من أوسع نوافذه أو حتى من باب الشقة الرئيس دون ‏عناء دقّها للجرس على نحوٍ خفيفٍ لا يزعج الجيران.‏

‏ في لحظات غيابها الطارئ كنتُ أتأمَّل البيضة الصغيرة ترقد على بلاط النافذة الصلب ‏الأملس ومن حولها عيدان يابسة خلت من أوراق الشجر، وكنتُ فعلًا أحسُّ بحزن على هذا ‏العشّ الذي ما هو بعشّ. فقد ألفتُ الأعشاش في طفولتي؛ أنَّها طريّة وناعمة ومتشابكة العيدان ‏الطريّة التي تليقُ بمولد عصافير صغيرة وكثيرة، يزيد من نعومتها ريش الطير الحنون. لذلك ‏كنتُ أرى في مثل هذا العش قسوة بالغة لبيضة وحيدة أيضًا قد ينجم عنها ميلاد طير صغير ‏ووحيد لا أخوة من حولة ولا أخوات. لكن لا بأس، إنَّها الحياة. بل أنه سيولد على أطراف ‏منزلي طيرٌ يشبهني في عزلتي تمامًا ولا بأس أيضًا، فلسوف أجلب له طعامه الخاص وألقي ‏له ولأمه تلك بالغذاء وبالماء الصافي الزلال كما عهدتني أفعل في أيامي الطريّة اليافعة للطير ‏المسافر منه والمهاجر والساكن وشبه المقيم.‏

‏ بقيتُ كلّما دخلتُ الحَمّام أطيلُ النَّظر عن بُعد بعينيّ تلك الحمامة، سوداوان بارزتان ‏ومحدِّقتان بترقُّب حذر وفطن. ومن الطبيعي أن أتذكَّر القصيدة الفارسيّة الشهيرة "منطق ‏الطير"، بل من الطبيعي لرجل وحيد كما أنا عليه منذ أكثر من ربع قرن أن يعتبر منزله قد ‏زاد فردًا يتطلَّب وضع احتياجاته في الحسبان عند التسوُّق وقبل العودة للبيت. وهكذا بدأتُ ‏بشراء مستلزمات الحمامة من مأكل ومشرب من "السوبرماركت" القريب من منزلي والذي ‏يعتني للأسف بالمواد الغذائيّة الخاصة بالكلاب والقطط، وقلّما يراعي مستلزمات بقية ‏الحيوانات الأخرى والطيور، الأمر الذي جعلني أبحث في الحيّ عن دكان يوفِّر أعلافًا خاصة ‏بالطيور. وباختصار أصبحت الحمامة الفرد الوحيد من أفراد عائلتي الذي يقيم حيث أقيم. ‏أوليس هذا مؤنسًا لي في تلك العزلة المستدامة؟

هبة إلهيّة تلك البيضة الصغيرة التي لا أعرف عمرها تمامًا، نقلتني من التأمُّل للعمل، ومن ‏كسل الروح ما بعد الحظْر الجزئي وخلال الحظر الكلّي الذي أفرضه على نفسي كي أواصل ‏العيش دون أبوّة مدَّعاة ودون الحاجة لأيّة أنثى. هبة إلهية ولكن من خلف نافذة الحَمّام ‏الصغيرة أيضًا؛ نقلتني من عالم الأخبار إلى مشاغل الحياة. هبة إلهية وهبَتْها الطبيعة لي ‏ونقلتني، ليس تمامًا بالطبع، من عالم الكتابة إلى عالم التصوير بهاتف نقّال ذكيّ.‏

بيضة صغيرة تعدني برؤية الجنين بداخلها الذي لا يعرف عدد الأيام المتبقية له من الثمانية ‏عشر يومًا المتبقية له كي تنشقّ البيضة عنه والبياض نحو عالم أزرق في السماء أخضر في ‏الهواء وداكن على الأرض. شكرًا أيتها الحياة على ما تهبينه لأمثالي وما تأخذينه أيضًا منهم. ‏كم أنا ممتنٌ لك أيتها الحياة، أيتها الحمامة داكنة اللون دون قلبٍ دامٍ مثلما قلبي. ‏

والشكر موصول لكِ أيتها الأم لأنكِ جعلتِ من طفلك البكر قاصًا وليس بشاعر. ولأنني لست ‏بذلك الشاعر يتوجَّب عليّ أن لا أسترسل بالحمد والشكر لأيٍ كان في هذا الكون المفتوح على ‏كل الاحتمالات وأن أواصل القصّ دونما إسهابٍ زائدٍ عن الحاجة. ودونما استرسال في ‏الذكريات تُذهبنا إلى الطريق الوعر في الرواية. فماذا حدث من قطعٍ في القصة؟

اليوم، كما عوَّدتني الحياة، حدثت الفجيعة. نعم الفجيعة لإنسان يشبهني تمامًا ولست أنا، بل ‏هو. نظرتُ إلى العشّ الوليد فوجدتُه خاليًا من الحمامة. انتظرتُ تلك التي أعجبني دأبها في ‏بناء العشّ فلم أجدها. انتظرتُ ساعات طوال وأعدتُ التلصُّص على حياة لا تخصّني وحدي ‏فوجدتُه أيضًا خاليًا من الذكر والأنثى معًا، حيث أنَّ الكثير من الحَمام يتناوبُ فيه الذكر ‏والأنثى على الرُّقود على البيض كي يفقس بعد نحو 18 أو 17 يومًا من الدفء اللازم أو ‏ربّما غير اللازم للفقس وانبعاث الزغلول من بيضته إلى الحياة.‏

تهيّأ لي أنَّ البيضة حزينة، وأنَّ لونها بدأ يميل إلى الأقلّ بياضًا. مرَّ اليوم الأوَّل للفقدان ومرَّ ‏اليوم التالي والثالث دون أن تعود الحمامة إلى بيضتها في العشّ الحزين.‏

شرعتُ أفتِّشُ من خلال حاسوبي والبواحث الإلكترونية عن أسباب هجْر الحمام لعشِّه وبيضِه ‏سواء كان بيضة واحدة أو اثنتين، فلم أجد أسبابًا واضحة أتحمَّل أنا مسؤوليّةً فيها بقصد أم ‏بغير قصد. ومَن يرقد أيامًا وشهورًا أو ربّما سنة على قصّته كي تفقس لا يعرف أحدًا من ‏مُربّي الحَمام كي يسألهم فيفيدونه في أيّ سبب محتمل وواضح في هذا الهجران. نعم؛ هجران ‏الأم لأطفالها أو هجران الزوجة لزوجها أو هجران الزوج لزوجته في هذا الكون المفتوح على ‏الفقدان أو الطيران. شكرًا أيتها الحياة، فقد سلبتني ما وهبتني لأقل من أسبوع لن يفقس خلاله ‏أيّ بيْضٍ لحمام. وها أنا عدتُ لِما تدرَّبتُ عليه من هجران أو نسيان. ها أنا عدتُ أكثر خسارة ‏لِما كان من أزمان. عدتُ لأواصلَ الرُّقود على كرسي المكتب حمامًا غير قادر على الطّيران ‏وحمامًا دامي القلب على الأوطان.‏