الزّر

قصة: محمد خليل

قاص أردني

mkhkhalil58@gmail.com

دخلتُ مكتبي قبل الثامنة بدقائق كالعادة، وكالعادة أيضًا، أحضر لي مراسل مكتبي الصحيفة ‏اليوميّة، وفنجان القهوة المُرّة، وكالعادة أيضًا، قلّبتُ صفحات الصحيفة اليوميّة سريعًا باحثًا عن ‏صفحة الوفيّات، لم أرتشف بعدُ رشفة القهوة الأولى، رنّ جرس الهاتف، رفعتُ السّماعة. كان ‏مديري المباشر. تلا ما تيسَّر من أوامر، ونبّهني كالعادة أيضًا، إلى أنّه سيكون مشغولًا حتّى ‏الثانية عشرة، فلا أحوِّل له أحدًا من الزَّبائن أو إرسال أيّة معاملة له، وأكّد أنّه إذا ما اتَّصل به ‏أحدٌ من الإدارة العُليا، فعليَّ أنْ أجيبَ بأنّه ذهب لاستقطاب أحد الزبائن. هذا هو الدَّرس اليوميّ ‏الذي بِتُّ أحفظه عن ظهر قلب، لكنّه يُصرُّ على أنْ يُسمِعَني هذه الأوامر كلّ صباح. ‏

أتممتُ أسماء المغادرين إلى الآخرة هذا اليوم، وكم تمنّيتُ لو أنّي عثرتُ على اسم أحد من أقاربي ‏أو معارفي، كي أحصل على إجازة تخلّصني من أوامر هذا المدير، الذي صار مديرًا بالصُّدفة ‏على الرّغم من التعليمات الصارمة للمؤسّسة في التَّعيين. ولمّا لم أجِدْ، طويتُ الصحيفة والقيتُها ‏جانبًا، تفقّدتُ محتويات مكتبي، شغَّلتُ الحاسوب، حاولتُ الدخول إلى بريدي الإلكترونيّ. لم ‏أستطع العبور فقد نسيتُ كلمة السرّ، تأفّفتُ ثم أخرجتُ من جيب جاكيت بدلتي ورقة صغيرة، ‏نقلتُ منها الرقم السريّ. تنهّدتُ بعمق، حدّقتُ في الصورة على نصف الصفحة الأولى من ‏الصحيفة (رجل أشقر كلّه، تجاوز السبعين من عمره، زعيم أقوى دولة في العالم، جاء إلى ‏عرشه بانتخابات ديمقراطية، تشوبها علامات استفهام كثيرة. وشاب آسيوي حلق شعره من ‏جانبيّ وخلف رأسه بموسى الحلاقة، فبان وجهه بَضًّا، في الثلاثين من عمره، جاء إلى عرشه ‏بالوراثة، من خلال حكم شموليّ). الصورة للرجلين متقابليْن في يد كلّ واحد منهما زرّ يهدّدان به ‏بعضهما بعضًا، لا بل يهدّد كلّ واحد منهما بلد الآخر، لا بل يهدّد كلّ واحد منهما الكون كلّه. ‏يقول المانشيت العريض: (كبسة واحدة فقط ويذهب العالم إلى الهباء).‏

‏"مجنونان يتحكَّمان في مصير العالم"، هجستُ. حدّقتُ في الزِرِّ القابع فوق طاولتي والموصول ‏بسلك أسود يتمطّى حتّى القابس الكهربائيّ والقريب جدًا من يدي، نظرتُ إلى الصورة وابتسمتُ، ‏وأنا أيضًا لديّ زِرّي. كبسة واحدة من هذا الزّر ويذهب العالم إلى الهباء. صار بيدكَ هذه، لا بل ‏بإصبع واحدة منها، أنْ تُقيم القيامة وتدمِّر العالم. ‏

من موقعي خلف المكتب حدَّقتُ في الجدار أمامي، فرأيتُ الكرة الأرضيّة غارقة في الدمار. ‏هززتُ رأسي أسفًا على هذه الأفكار السوداء، أنا لا أريد أنْ أقيم القيامة، أو أدمِّر العالم، جلّ ما ‏أريده هو أنْ أرسِلَ إلى الآخرة، هذا الرجل الّذي لا يتركني في حالي أبدًا. هو لا يفعل شيئًا قطّ. ‏يجلس إلى مكتبه، يحتسي القهوة، ويتابع عبر شاشة حاسوبِه السوقَ الماليّ، يشتري ويبيع لحسابِه ‏الشخصيّ، وبعد إغلاق الجلسة في الثانية عشرة ظهرًا، يفرك يديه، ويتّصل بي. لقد ربحتُ اليوم ‏مائتي دينار، وهو يربح دائمًا. وإنْ حصل وخسر، فإنّي لا أراه طيلة اليوم، وعندما أسأل يجيب: ‏أنَّ ضغط دمه مرتفع، ويحسّ بالدوار. كلّ الأعمال المكلّف بها يحوّلها إليّ. تتكدّس المعاملات ‏أمامي، فأضطرب ولا أنجز شيئًا، حاولتُ مرّة أنْ أعترض فوجّه إليّ انذارًا مكتوبًا، يصفني فيه ‏بالتكاسل في أداء عملي. كبسة واحدة وأرسله إلى الجحيم. ‏

‎ 

 

كبسة واحدة من هذا الزّر وتنطلق الصواريخ من كلّ الجهات. كلّ جهة تضرب الأخرى. سيموت ‏الناس، لن يبقى أحد على قيد الحياة، ومَن يحالفه الحظّ، سيعيش مشوهًا، وستموت أنتَ، جاءني ‏الهاتف من داخلي، صفنت بعض الوقت، ثمّ قلت بصوت كأنّه الهمس: لا يهمّ، المهمّ أن أخلّص ‏العالم من كلّ هؤلاء، وأوّلهم هذا القابع في الطابق السابع، يحتسي القهوة، ويراقب عبر شاشة ‏حاسوبه السوق الماليّ، ويربح كثيرًا من بيع الأسهم والسندات، ويُلقي الأوامر من نوافذ مكتبه ‏عليّ. ‏

كبسة واحدة وينتشر الضباب الأسود، ثم يموت الناس. لا.. لا أريد قتل الناس. ما ذنبهم؟ كلُّ ‏يجري إلى رزقه. فقط هو هذا اللئيم الّذي لا شغل له. سأبرمج الزرّ على صاروخ واحد فقط، ‏ينطلق من أيّ مكان، يدخل عليه من النافذة، ويفجره تفجيرًا. صرّحت بذلك لامرأتي عندما ‏اتصلت بي كالعادة أيضًا، لأحضر معي بعض اللوازم الضروريّة للبيت، يبدو أن الفكرة أدهشتها، ‏لأنها لم تنبس ببنت شفة، وأغلقتِ الهاتف على غير العادة، الأمر الّذي اضطرّني للاتصال بها ‏ثانية. يبدو أنّ الفكرة قد أرعبتها، أو ربما استسخفتها كالعادة أيضًا. قلت في نفسي: لا يهمّ سأنفّذ ‏ما في رأسي يومًا ما، وسأكبس الزرّ كبسة واحدة، تأخذ هذا القابع في الطابق السابع إلى الهباء. ‏

قبل انتهاء الدوام بدقائق، أطفأت جهاز الحاسوب، رتّبت هندامي، مددت يدي إلى الصحيفة. وفي ‏النصف العلويّ منها، كنت خلفهما في الصورة ألوّح بزرّ أبيض في يدي. ‏