يوميّات فلسطينيّة

قصص: د.سناء الشعلان

قاصة أردنية

selenapollo@hotmail.com

 

 

أقدام

 

‏ قدماها استشهدتا في المعركة كما استشهد أهلها جميعًا. كانوا متحلّقين حول طاولة ‏خشبيّة قصيرة ينتظرون أذان المغرب كي يفطروا عندما التهمتهم قذيفة صهيونيّة.‏

جاء العيد وهي وحيدة في المشفى، زارها أصدقاؤها في المدرسة برفقة بعض ‏معلماتهم، جميعهم كانوا يلبسون أحذية جلديّة متشابهة قدَّمَها متبرِّعٌ ما من خارج ‏فلسطين في شحنةٍ كبيرةٍ أرسلها هبة من مصنعه الخاصّ للأحذية.‏

حذاؤها كان إلى جانب رأسها، هو حصّتها من هدية العيد، لم تعُد عندها قدمان لتلبسا ‏هديّتها.‏

شعر أصدقاؤها بالذّنب وهم يختالون أمامها بأحذيتهم الجديدة، وهي كسيرة الخاطر ‏دون قدمين.‏

في اليوم الثّاني من العيد جاءوا جميعًا لزيارتها حُفاة الأقدام دون أحذية جديدة تختال ‏بفخر في عيدها الحزين. ‏

 

 

إصابة هدف

 

‏ لا يحبُّ ممارسة لعبة كرة القدم، ولكّنه ينصاع لمراقبة إخوانه وأبناء عمومتهم ‏وأترابهم يلعبونها في تلك السّاحة الصّغيرة في المدينة القديمة المتوارية خلف البيوت ‏والسّراديب الأثريّة.‏

وعد أمّه بأن يعود إلى البيت قبل الغروب، ولكنَّ الغروب هبط على حين غَرّة على ‏المكان دون أن يخفّ راكضًا للبَرِّ بوعدِه لأمِّه، ويغادره ليعود إلى بيتِه قبل أن يخيّم ‏الظّلام.‏

استمهله الأتراب والأقارب والأصدقاء كي يُنهوا الجولة الأخيرة من اللّعب، ويحدِّدوا ‏الفائز وفق النّتيجة النّهائيّة.‏

كان يتمنّى من أعماق قلبه أن تمُرَّ الدّقائق الأخيرة سريعًا كي يُحقَّق الهدف الفيصل، ‏فيعود سريعًا إلى بيته قبل أن تغضب والدته لتأخُّره عن موعد العودة.‏

الدّقائق مضت ثقيلة إلى أنْ قرَّر العدو الصّهيونيّ أن يَدخل اللّعبة في اللّحظات الأخيرة ‏من جولاتها. لقد دخل اللّعبة دون استئذان، وأصاب الهدف النّهائي، عندما أطلق ‏صاروخًا شَلَعَ السّاحة من مكانها، وفتّك بأجساد اللاعبين الصّغار الذين لن يوافوا ‏انتظار والداتهم في الميعاد، ولن يعودوا إلى بيوتهم قبل حلول الظّلام.‏

 

 

الأمّ

 

هي لم تُنجب طفلًا واحدًا في حياتها، ولكنّها على الرّغم من ذلك أمّهم جميعًا؛ يسميّها ‏الجميع "الأمّ خضرة"،لا يعرفون الكثير عن حياتها، ولكنّها تعرف كلّ شيء عن ‏حيواتهم، هي أمّ الأسرى جميعهم في المعتقلات الصّهيونيّة في فلسطين المحتلّة، كلّ ‏أسير فلسطينيّ أو غير فلسطينيّ يقبع في معتقلات الاحتلال يغدو ابنها خبط عشواء ‏فور دخوله المعتقل، تقطع أيّامها تدور من معتقل إلى آخر تزور أبناءها الأسرى، ‏وتُظهر اهتمامًا خاصًّا بأبنائها الأسرى المقطوعين عن بلادهم وأهليهم بعد أن جاءوا ‏إلى فلسطين لأجل الدّفاع عنها، هي أمّ الأردنيّ الذي ترك مدرسته، وجاء ليدافع عن ‏فلسطين، وهي أم الأسير العراقيّ الذي أقسم على أن يصلّي في المسجد الأقصى بعد ‏أن يتحرّر بمشاركته، وهي أم الأسير اليمنيّ الذي جاء يشارك في تحرير فلسطين ‏إكرامًا لأخوال ابنه، وهي أم الأسير الجزائريّ الذي أقسم على أن يجاهد حتى تحرير ‏فلسطين كما جاهد والده وجدّه لتحرير بلادهم من المستعمر الفرنسي، وهي أمّ الأسير ‏المصريّ الذي ترك عروسه، وجاء إلى فلسطين ليدافع عنها لأنّها عروسه الأجمل.‏

‏ هي تعدّ الأيام إلى حين خروجهم من معتقلاتهم، وتتابع مع المحامين ومؤسّسات ‏متابعة قضايا الأسرى كلّ مستجدّ يخصّهم، وترسل الرّسائل إلى عائلاتهم، وتكتب ‏الرّسائل المزوَّرة لهم إن لم يصلهم ردٌ لسببٍ ما من أهاليهم خارج فلسطين.‏

إنّها أمّ جميع الأسرى؛ "الأمّ خضرة" التي تقارع التّجار والمتسوِّقين في السّوق، ‏وترفض أن تُساوم في أسعار بضائعها من الخضراوات والفواكه، فأيّ نقص في ‏مربحها يعني أن يقلّ مخصَّص أحد أبنائها الأسرى.‏

على الجميع أن يدفعوا الأسعار التي تطلبها "الأمّ خضرة" دون فصال كي تطير بالمال ‏إلى أبنائها الأسرى.‏

 

المؤذّن

 

لم تمنعه سنون العجز والمرض والتّقدُّم في السّن وضعف النّظر من أنْ يقودَ نفسه ‏بتؤدة إلى المسجد ليؤذِّن فيه خمس مرّات في اليوم الواحد. لم يفُته رفع أذان واحد ‏أربعين عامًا. الجميع في مدينة الخليل يحفظون الأذان بصوتِه.‏

أمَرَه جنديّ صهيونيّ بأن يعود أدراجه إلى بيته، وأن لا يرفع الأذان بسبب حظر ‏التّجوُّل الذي يُفرض على المدينة خبط عشواء. لكنّه رفض أن يفوّت رفع الأذان، ولو ‏كلّفه ذلك دفع عمره.‏

رصاصة صهيونيّة أردته قتيلًا على بلاط المدينة القديمة على بُعد خطوات من باب ‏المسجد.سحله الجنود الصّهاينة باستهتار إلى داخل مجنزرة مصفّحة في إجراء تحفّظيّ ‏مجهول المدّة.‏

لكنّ روحه صمّمت على أنْ ترفَعَ الأذان في وقتِه. غادَرَتْ جسده على يُسر، أسرَعَتْ ‏إلى المئذنة، ورفعت الأذان في وقته، فصدح صوت المؤذّن في سماء مدينة الخليل ‏مودّعًا بدعة جسَدَه الذي غادر إلى البعيد مكوَّمًا في مجنزرة صهيونيّة.‏