فضية المقابلة
كاتبة أردنية
أيلول؛ شهر التحوُّل والانقلاب الموسمي، شهر الطقوس التي ارتبطت باستعداد الناس لاستقبال الشتاء سواء في ما يتعلق بالغذاء أو المسكن... فكان الأجداد بمجرَّد أن يظهر نجم سهيل، ويكون ظهوره عادة في نهاية آب، حتى تدبُّ الحميّة فيهم لإنجاز أعمال كثيرة وذلك باستغلال الدفء وطول النهار وأشعة الشمس في أعمالهم الموسميّة. ويحفل موروثنا الشعبي بتلك الطقوس التي تُعدُّ بمثابة قصص نجاح لتجاوُز منغِّصات ومعوّقات الحياة بأساليب بسيطة، توصَّل لها الإنسان بالخبرة والفطرة السليمة واحترام مقدّرات الطبيعة، فطوَّع الأشياء بمهارات يدويّة وأدوات بسيطة من أجل إنجاز أعمال مباركة تسدّ رمق العيش وحاجة المجتمع.
أيلول؛ الشَّهر التاسع من السَّنة.. هو مرحلة الانتقال من القيْض للبرودة وهبّات الهواء العليل مع الندى الغربي ونسيم الصّبا.
بدأ التغيُّر الموسمي وكسْر الروتين بعد أعمال الصيف الكثيرة والشاقّة.
ها قد طارت البيادر من محاصيل القمح والشعير والكرسنّة والعدس والحمُّص والفاصولياء والسمسم على عَجَل وقبل تسرُّب الرُّطوبة إليها؛ إذْ كان هَمُّ الناس تخزين المؤونة قبل بداية الشتاء القارص الذي يأكل الأخضر واليابس.. حيث تزداد حاجة الناس للغذاء كي يمدَّهم بالطاقة اللازمة لمواجهة البرد؛ فيقتاتون على خيرات المحاصيل الزراعيّة التي كانوا يزرعونها.
كانت الزراعة تقليديّة، ويتم فيها الاستعانة بأدوات بسيطة تُصنع يدويًّا ويحتاجها الناس حاجةً ماسّة لاستخدامها في كل مراحل عملهم من البذار إلى جني الناتج وتخزينه وبيع الفائض منه على شكل مُقايضة (أي تبادل سلعة بسلعة)؛ وذلك لندرة توفر الأموال.
يحمل الآباء والأجداد الحبوب الزائدة عن حاجتهم على الدَّواب، ويذهبون على شكل قافلة إلى أقرب مدينة لقريتهم وذلك من أجل استبدالها بمواد وحاجات ضروريّة لاستهلاك الأسرة من مواد تموينيّة كالحلوى والسُكَّر والتَّمر والقماش (كسوة العائلة)؛ إذ تكون الكسوة عبارة عن عدّة أنواع من الأقمشة تُقاسُ بالذِّراع، ومن هذه الأقمشة "صوف ربيعي" و"موهير" و"جورجيت" و"حبر" و"ملس" و"مخمل" وغيرها.. وأهمّ شيء كان قماش الشِّرش للزوجة مع الملفّع (الشنبر) والحطّة والدّامر، وكان يُقال عن الحذاء أو "الكندرة" (وطيّة) من "الكاوشوك"، هذا بالنسبة لكسوة المرأة، أمّا الرّجل فتكون كسوته الثوب والكبر والشماغ والعقال والفروة مع الصندل وحزام مصنوع من الجلد يتوسَّط ثوب الرجل على خصرِه ويثبَّت به حاملٌ للخنجر أو المسدَّس.
من ناتج الأرض كان يتمّ تأمين احتياجات الأسرة لتكفي احتياجات فصل الشتاء كاملة، وكانت الأسر تسابق الريح في توفير وتخزين احتياجات الموسم القادم، فكانوا يقومون بتعبئة "الكواير" بالحبوب لغذائهم وإطعام مواشيهم التي كانت ضرورةً وحاجةً مُلحّة ومقياسًا للدَّخل والثراء والتصنيف الاجتماعي.. (الماشية؛ من الماعز والنعاج والبقر والخيل والحمير).
أمّا غرفة التبان أو المونة فكان يتمّ رصّها وحشوها بالتبن الأبيض (تبن القمح والشعير)، والتبن الأحمر (تبن الكرسنّة والعدس).. ثم يتمّ وضع حاجز لتثبيت التبن بوضع شوالات من الحبوب المختلفة.. وفي أحد جوانب غرفة المونة توجد "الكواير" الممتلئة بالطحين والقمح المُصوَّل (المُنقّى من الشوائب بغسلِه بالماء.. ثم نشرِه فوق أسطح المنازل بالصُّعود للسطح بواسطة السلم الخشبيّ، ويصوَّل القمح للاستهلاك البشري)، وكذلك حبوب الشعير والكرسنّة للماشية، وكان يتمّ جَرْشُ جزء منها لصغار الغنم المُدلّلة (من كلمة دلال) ويطلقون عليها اسم "الربايب"، وتُجرش بواسطة الجاروشة اليدويّة وهي عبارة عن دائرتين من الحجر البازلتي الأسود الخشن الثقيل، توضع الأولى فوق الثانية وتُدار العلويّة بواسطة مقبض خشبي وتبقى السفليّة ثابته لتتمّ عملية تكسير الحُبوب بسلام.
كانت غرفة المونة تعجُّ بالبركة، فكل احتياجات الحياة موجودة فيها، وكان يُترك فيها زاوية فارغة تكون مطبخ الأسرة حيث أواني وأدوات الطبخ فيه تُعدُّ على أصابع اليد وأهمّها بابور الكاز الذي تُربط بأحد أرجلِه النكّاشة والقدّاحة.. يعلو ركن المطبخ رفّ صنعته الوالدات والجدّات من الطّين وعوارض الخشب.. فوق هذا الرَّف كانت تُرصُّ مرطبانات السمن البلدي والمقدوس والجبنة واللبنة والزيتون، وأهم شيء سطليّة الحلاوة... لتُخلط بالسَّمن البلدي مكوِّنة أكْلة أساسيّة في فصل الشتاء !
كانت النسوة "معدَّلات" يمتلكن القدرة على توفير العيش الكريم والاكتفاء الذاتي والتكيُّف مع الظروف والمستجدّات.. هَمُّ الواحدة منهنّ السترة والستيرة والانصياع الكامل لأوامر الرجل دون تذمُّر أو نقاش... هكذا تربَّين على هذه الصفات، كقِيَم غير مكتوبة لكنَّها مُلزِمة من مجتمع ذكوري صاحب القرار والرأي والشكيمة فيه هو الرجل فقط!!
لذا كانت المرأة توظِّف أقصى طاقاتها لتنال رضى الرجل، وتفني كل وقتها في العمل الجاد الدؤوب المتواصل مهما بذلت من جهد بدني مُرهق.. بالطَّبع في زمن لا تتوفَّر فيه الآلة التي تخفِّف من أعباء الأعمال المنزليّة والطاقه الجسديّة. لذا، فرضت طبيعة الحياة على المرأة وكذلك الرجل التعاضد والتكاتف لإنجاح الحياة الزوجية والاستقرار النفسي بتلبية جميع الاحتياجات بالاعتماد على النفس والإمكانات المتوفرة من البيئة المحليّة وتحويل ما بها من خسيس إلى نفيس.. إذ يُعاد تدوير الأشياء لتصبح الحياة لوحة فنيّة جماليّة نفعيّة، تؤدي الغرض المطلوب وتفي بالحاجة الضرورية.
وفي أيلول؛ شهر التحوُّل والانقلاب الموسمي.. تُستغلُّ كل لحظة للتجهيز لموسم الشتاء؛ ففي الشتاء تقلّ حركة ونشاط الناس بسبب البرد.. والجوع لا يسمح بممارسة معظم الأعمال خارج المنزل، وهو السبب الذي يدفع الناس قسريًّا لعدّة أنشطة في أيلول، منها تخزين الحبوب (قمح، شعير، عدس، والبقوليات) –كما ذكرت- والطحين وجريش العدس والفريكة وسميدة القمح وعمل البجيلة من القمح المقلي، وكذلك تصنيع مشتقات الألبان (السمن البلدي والجميد والكشك واللبنة) وعمل المخللات والمكابيس والمربَّيات وخاصة دبس العنب ومربّى التين والفواكه المجفّفة (الخبيصة والقطّين والزَّبيب).
وكان من عادات الناس أيضًا تحضير "القشيم"، والقشيم عبارة عن إذابة شحوم الحيوانات على حرارة بعد وضعها داخل إناء الطبخ وتوضع عليها بعض التوابل، فتنصهر وتُحفظ في وعاء زجاجي أو فخّاري لأطباق الشتاء الدسمة كي تمدّ الجسم بالطاقة والدفء.
كان يتم تجفيف البندورة بعد تقسيمها ووضعها فوق قطعة قماش، ثم يتم رشّها بكميّة من ملح الطعام لحفظها لوقت ندرتها، واستخدامها في أطباق شعبيّة شهيّة جدًا ومرغوبة.. مثل المفتول والزقاريط ومجدّرة البرغل، ثم تجفَّف تحت أشعة الشمس.
وبمجرَّد أن يظهر نجم سهيل، ويكون ظهوره عادة في نهاية آب، تدبُّ الحميّة في استعجال الناس لإنجاز أعمال كثيرة وذلك باستغلال الدفء وطول النهار وأشعة الشمس في أعمالهم الموسميّة، فقد تقوم النسوة بتطيين البيوت –المبنيّة من الطين أصلًا- بطينة من الصلصال مخلوطة بالتّبن لتقويتها وزيادة مرونتها، وذلك لترميم البيوت قبل الشتاء لمواجهة المطر والرياح ومنعهما من التسرُّب عبر جدران المنزل من الشقوق المتصدِّعة أحيانًا والمسقوفة بقضبان من مورين الخشب والقصّيب... والطين تعلوه طبقة رقيقة من الإسمنت المخلوط بالرَّمل والماء (جبلة) لمنع نزف ماء المطر (الدلفة) وتنغيص مضجع الصغار.
كما وكان يتمّ تفقُّد أركان المنزل كاملة وصيانة الحوش (السناسل المتناثرة) وخمّ الدواجن والأرانب وبرج الحمام، وإغلاق جحور البواهش والقوارض ذات الدم البارد التي نشطت في الموسم المنصرم.. كما ويتمّ تنظيف خان الأغنام وترميمها، كذلك تجهيز زرائب الغنم والحظائر... وإصلاح الجوابي والقطلة (أدوات يوضع بها العلف والماء للأغنام).
كذلك، كان أهل البيت يقومون بتفقُّد المزرايب؛ إن كان المزراب قد رُكِّب بمكانه الصحيح، وتجهيز أكثر من برميل للماء الساقط من المزراب.. كما يتم تنظيف وترميم (الداعي) ساحة البئر وقناة الماء التي تغذّيه من مياه الأمطار لجمع الحصاد المائي وتخزينها لفصل الصيف..
أيضًا كان الناس يتفقدون ويصلحون البوابير و(ضوّ نُمْرة4) وتجديد الفتيل، وشراء بنّورة احتياط، والفوانيس، وتفقُّد عدد البطاريّات للـ"بيل" والراديو الذي كان وسيلة الترفيه الوحيدة للأسرة في ليالي الشتاء الطويلة، بل النافذة الوحيدة على العالم.
ومن الأعمال المهمّة التي كانت الأمهات تؤدّيها إصلاح طابون فرن الحجر وإعداد آخر احتياطًا لفصل الشتاء في حال كُسر الفرن الحالي، وتوفير كميّة كبيرة من الزِّبل لفرن الطابون (يغطّى به الفرن بعد انتهاء الخَبْز للمحافظة على حرارته لليوم التالي). كما يتمّ تجهيز أطنان من الحطب لموقدة الحطب من أجل التدفئة، وتفقُّد الصوبّة والبواري وتجهيز "النقرة".. ونقرة الحطب هي حوض بيضوي الشكل من الطين أمام باب الموقدة لسحب الجمر حين يتلظّى، وتُعمل عليه "القراصة"، وما أدراكم ما القراصة؟!
"القراصة" عجينة جامدة وغير مختمرة.. يتمّ فردها بعد جهد وتوضع فوق الجمر لتنضج وتتحمَّر وتصبح قراصة هشّة لذيذة جدًا، يتم فتّها بالحليب البلدي مع ملعقة سمن بلدي أيضًا، حيث كانت أكثر أكلات الشتاء شيوعًا ورغبة عند الأجداد وكبار السن وحتى الأطفال، وهي أوَّل غذاء يقدَّم للمرأة النفساء !
وأذكُر أنَّ النسوة والفتيات كُنَّ يذهبن بعيدًا عن القرية للأراضي الوعرة "الكسار" لإحضار الحطب ومخلفات الحيوانات التي كانت تُستهلك في أعمال المنزل... وجلب نباتات العرن والطيون والبلان لشدّها وترتيبها ورصّها وقصّها بشكلٍ متوازٍ وربطها لاستخدامها في كنس الحوش والأرض الصلبة من فناء الدار ومراح الأغنام والبيدر، لِما تتميز به من قوّة وخشونة ومرونة في حال نقعها بالماء من الليلة السابقة؛ وذلك بهدف كسب الوقت الثمين مبكرًا في أعمال الكنس والتنظيف. أمّا مكانس البيت النّاعمة فكانت تجهزها النسوة من نبات الذرة الذي كانت تتمّ زراعته على حواف "المبطخة" (المبطخة حيث يتم زراعة محاصيل بعلية صيفيّة فيها، تزرع نهاية الشتاء لتثمر في الصيف مثل: الكوسا والبندورة والبطيخ والفقوس والجعبور والحروش والبامية وغيرها في أرض سهلية قريبة من المنزل من أجل مواظبة العمل والعناية بها).
هذا عدا عن أعمال القش والجلد والخياطة وحياكة الصوف لأغراض المنزل، وغسل الصوف الذي يُجز عن النعاج، وتنجيده بعمل فرشات ولحف وحشو مخدّات.. خاصه للعريس المقبل على الزواج!
وكان لصيدليّة المنزل نصيب من إحضار النباتات الطبية لحالات مغص وبرد الشتاء، مثل الميرميّة والشيح والقيصوم، وللرضيع المرمجة والعنزروت (السقية) واليانسون والفوَّة. جميعها كانت تُستخدم كعلاج منزلي.
ويحفل موروثنا الشعبي بقصص النجاح لتجاوز كل منغِّصات ومعوّقات الحياة بأساليب بسيطة، توصَّل لها الإنسان بالخبرة والفطرة السليمة، والحاجة أم الاختراع.. فقد اهتدى الناس إليها بنقاء سريرتهم وصفاء الذهن المستوحى من الطبيعة، مصدر إلهام وإبداع لفكرهم الراقي في تطويع الأشياء واحترام الخامات لخدمتهم وإيفاء الغرض المناسب لهم، وبرعوا في تفجير الهمم والطاقات الكامنة لتُترجَم وتخرُج لأرض الواقع كتحف فنيّة بمهارات يدويّة استخدموا فيها أدوات بسيطة كانت ملكًا لجميع أفراد المجتمع.. إذْ تجرّم وتحرّم الملكية الفردية والشخصية إن كانت تقف عائقًا في إنجاز الأعمال المباركة التي تسدّ رمق العيش وحاجة المجتمع.
كل شيء كان شراكة، حتى المشاعر والأحاسيس؛ يتقاسمون البهجة والفرحة بنوايا نقية شفافة كقلوبهم البيضاء.
ومع أسراب الطيور المهاجرة وحركة الغيوم وحبّات النّدى التي تتدحرج صباحًا على باب البئر، كانت تأتيهم أخبار الطقس الصادقة، أخبار خارجة من العُمق البريء..
هنا يتمّ تنظيف البئر من الماء الرّاكد، وإصلاح الدّلو وربطه بحبل المرس الجديد، فالموسم الجديد اقتحم، و"الوقت ما بخبّي وقته".. مواسم الخير تثير الطاقة الإيجابيّة.. قطاف الشجرة المُباركة دنا، ورائحة ومنظر الزَّيت يؤنس في البيت ليزيد البركة والأمن الغذائي الأسري.
و"مَن دبَّر ما جاع، ومَن رقَّع ما عري" !!
كل ما ذُكر تمّ يا أيلول، قبل الرَّحيل..