مفتَرَق الطرق

 

قصة: أماندا أبو نحلة

كاتبة أردنية

 

 

تَشارَكنا الطاولة المستديرة ذاتها، وتَشارَكنا الأوراق والأقلام، والأفكار والكلمات. كتبنا القصة ‏معًا بلا أية مطبّات، طريقنا كان واحدًا لا يعرف المفترقات. لم تنفد القهوة يومًا، ولا ‏الأحاديث ولا الضحكات، بل تمدّدتْ وتخلّلتْ رؤانا ووجهتنا، وتشابكتْ الأغصان كتشابك ‏الجذور، وأصبحنا كما الغابة الكثيفة تنمو وحدةً واحدة، وتزداد في تماسُكها بعد كل عاصفة. ‏

 

جرتْ أحداث القصة بانسيابيّة بين أيدينا، أكتبُ بعض الصفحات وتكتب ما يليها، إلا أنكَ كنتَ ‏أكثر اتزانًا بكلماتكَ منّي؛ فأنا كنتُ أتراقص على حبل رفيع بين عالمين؛ الذي أملكه والذي ‏أحمله في قلبي، وأسعى إليه، وأتوق إليه، وليس إلّا على بُعد ذراعٍ منّي، يجلس مقابلي خلف ‏الطاولة، ينقل بصره بيني وبين سيجارته والورق، يشاكس بنظراته وابتسامته. إنه على بُعد ‏ذراعٍ منّي، وعلى بُعد عوالم في الوقت ذاته. لم يندمج العالمان على يميني ويساري، كلما ‏قاربتُهما حدّ التلامس تنافرا، فتزداد صفحاتي حزنًا وتعبيركَ حيرة. ‏

 

تحوّلَتْ طاولتنا المستديرة لأخرى مستطيلة، ورحّبَتْ الزَّوايا بكُتّاب جُدُد، ربّت بعضهم على ‏صفحاتي، ورمى بعضهم نظرات تحذيريّة نحوَكَ، أمّا الكُتّاب الآخرون فقد انضمّوا لنا لكل ‏الأسباب الخاطئة؛ إذْ امتدَّتْ أيديهم لكتفي، وتحسّستْ معطفي الخائف يمينًا، يسارًا، ثم ‏استرختْ على عنقي، توهمني بالمداعبة، لكنني أشعر بالفخّ بكل قلبي، وأحسبُ تحرُّكات ‏الأيدي على جسدي في جزع، وأحسبُ تحرُّكاتها القادمة، وأبحثُ عن أقرب مخرَج للهرب، ‏وركضتُ مع انقباض إحدى الأيدي، وصراخ حدسي. ‏

 

ارتميتُ على أبعد مقعد وجدتُه، وأخرجتُ ما انتزعتُه من صفحات وأقلام أمامي، بينما اشتعل ‏صوتكَ غضبًا، فساومتَ مع مَن معكَ، وراوغتَ الأيدي حتى اصطنعتْ السّلام، وهدأ رنين ‏أصواتكم. وغادرتَ الأيدي القذرة وحدَها، وانتظرتُ مجيئكَ على طاولة مستديرة أخرى، ‏لكنكَ وصلتَ متأخرًا، لأنَّ مفترق الطرق يناسبُ أحلامكَ أكثر من طريقنا، واعترفتَ لي أنكَ ‏انجرفتَ بكتابتكَ معي، وأنها ليست إلّا وليدة لحظة عشوائيّة من حماسةٍ طفوليّة. اتَّضح أنكَ ‏تفضّل الكتابة وحدكَ، على الرغم من امتداد اللحظة العشوائيّة على مدة فصول من الورق بين ‏يديّ.‏

 

وعند النهاية، عند النقطة المقيتة، تعلّقتُ وغادرتُ، وتفكّكتَ وغادرتَ، وتغبّرَتْ الطاولة ‏المستديرة، وبكتْ للصداقة الممزَّقة، والحُب الحائر، والسَّرد المشتَّت، وتاقتْ لمعرفة نهاية ‏القصة؛ إذْ لم تكتفِ بالنقطة كنهاية، لكنَّني ما زلتُ في هرب دائم من الأيدي التي تبحثُ عن ‏رائحة معطفي، وأنتَ في هرب دائمٍ من قلبكَ، ومنّي.‏