تختلف المناهج الدراسيّة في علم الجمال في أولوياتها، وهو اختلاف مشروع إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عوامل عدة، أهمها الأيديولوجي والسيكولوجي بطبيعة الحال. وقبل الخوض في هذا العالم الثريّ، علينا أن نشير إلى أنَّ "علوم الجمال كلها" إنْ جاز التعبير، تمتلك من الأهمية ما يؤهلها لتكون متكأ "متفاوت التراتبيّة" لدراسة علم الجمال، أو الحديث في بعض عناصره على الأقل، كما نفعل اليوم في تركيزنا على المكان وأسراره الجماليّة في الأدب.
وربما بسبب ضيق المساحة، سنضطر إلى القفز عن بعض الجوانب المهمة، كالمناهج الأساسية في علم الاجتماع، وفي علم النفس، وبعض المفاهيم الضرورية في الفلسفة التي قد نمرّ على بعضها، خصوصًا عند الحديث عن الباحث الأكبر في جماليّات المكان، ونعني به "غاستون باشلار" في كتابه المرموق "جماليّات المكان".
علينا أن نشير هنا إلى أنَّ جماليّات "باشلار" تقتصر على المكان الأليف، الذي يوفر الحماية والدفء والألفة، وهو ما يعني "البيت الأوَّل" الذي نُلقى فيه، ليؤكد "باشلار" أنه ليس مُعاديًا كما تقول الوجودية بالمطلق.
هذا الحيِّز لا يتمظهر عشوائيًّا، بل هو نتيجة الوعي المقصود بحسب المنهج الظاهراتي الذي اتبعه "باشلار" في دراسته، وأهم ما فيه هنا هو أنَّ الموضوع لا يوجد خارج الذات. أي أنَّ وعي الذات "الذاكرة وأحلام اليقظة والخيال" هو الذي يمنح المكان قيمته، وضرورة استعادته عند تلقّي الأثر الأدبي.
ولأننا نتناول الفضاء على إطلاقه، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل مكانًا ونستحضر آخر انتقائيًّا. فمقابل المكان الأليف في الأثر الأدبي، يوجد مكان آخر معادٍ، ويمتلك الأدب العظيم مقدرة فائقة على تصويره فنيًّا كتجربة موضوعيّة لا نستطيع أن نتجاهلها بسبب عدائيّتها، وهو إنْ حدث فإنَّما يكون ذلك محاكمة المكان موضوعيًّا لا فنيًّا. وعلى سبيل المثال فإنَّ المتلقي لن يمرَّ عابرًا عن مثل هذه الأمكنة في أعمال مثل "ذكريات من بيت الموتى" لـ"ديستويفسكي"، و"شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف، و"القلعة الخامسة" لفاضل العزاوي، و"أبوزعبل" لإلهام سيف النصر، و"الأقدام العارية" لطاهر عبدالحكيم، وغيرها الكثير.
وكما أوضح الكاتب الكبير غالب هلسا الفروقات بين الأدب العالمي والأدب الكوزموبوليتاني من حيث اعتماد الأوَّل الصورة الفنيّة والملامح القوميّة، بينما يعتمد الآخر على الأفكار، فإننا بالمعيار نفسه نضع الصورة الفنيّة التي تنقل التجربة لا الفكرة، لكي نتناول الحيِّز الأدبي أو المكان في الأثر الأدبي. وهذا يعني أنَّ حصر الجماليّات في المكان الأليف، يشكِّل تهميشًا بيّنًا للأمكنة الأخرى، ومدى جماليّاتها فنيًّا لا موضوعيًّا، كالزنزانة وأقبية التعذيب على سبيل المثال.
ولا بد هنا من الإشارة إلى طبيعة العلاقة بين المبدع والمتلقي، كما أنه لا بد من الإشارة إلى عوامل أخرى لا يمكن القفز عنها عند الحديث عن المكان. فالمتلقي يتعامل مع صورة فنيّة تنقل تجربة موضوعيّة، وليس بالضرورة أن تكون حقيقيّة تمامًا، لكن قوّة الصورة وأثرها العظيم في تناول المكان هي التي تجعل المتلقي أو تجبره على ما يصفه "باشلار" بالتثبيت أثناء القراءة؛ وهو التوقُّف عن القراءة في لحظة مؤثِّرة تحرِّك الذاكرة والخيال لاستعادة المكان الأوَّل "بيت الطفولة" بدفئه وحصانته وألفته. لكن هنالك أمكنة أخرى خبرها المتلقي سوى بيت الطفولة، ولا يستطيع الخيال أن يتنكَّر لها، كما لا تتمكَّن الذاكرة من لفظها والتصرُّف على نحو تبدو فيه هذه الأمكنة كأنَّها لم تكن ولم تحفر عميقًا في وجدان المتلقي. فالمكان يسم الشخصيات في العمق، سواء أكان هذا المكان أليفًا أو مُعاديًا.
يعتمد الأمر على قوَّة الصورة الفنيّة من جهة، وعلى تجربة الذات المتلقِّية من جهة أخرى. ولا نستطيع إغفال عوامل أخرى كالزمن والوقائع التي يتناولها العمل الأدبي. فالسجن مثلًا كمبنى هو بشكل أو بآخر مأوى للسجين وللسجّان، ولكن الفارق الجوهري هنا لا يكمن في المكان فقط كمبنى، وإنَّما يتعدّى ذلك إلى ماهيّة التفاصيل اليوميّة والمفردات الحياتيّة كلها. هكذا لا يثير هذا المكان مخيال المتلقي الذي عمل موظفًا في السجن، بمقدار ما يُلهب مخيال السجين الذي تمتدّ سلسلة ذكرياته بلا انقطاع لوقت طويل.
وإذا كان المكان الأليف مرتبطًا بالحماية والدفء والهناءة كما يقول "باشلار"، فإنه ممتلئ كذلك بالأسرار المتمثلة في الأدراج والصناديق وعلب المجوهرات وغيرها.
نحن نلاحظ أنَّ فتح صندوق ما، والبدء في استخراج محتوياته، يرفع من نسبة الأدرينالين كلّما تعمَّقنا في الكشف أكثر. ونلاحظ أيضًا أنَّ خيالنا يزداد قوةً ونشاطًا مع هذا التعمُّق. ثمّة ربط هنا بما هو سفلي وما يمثله في اللاوعي؛ إنه عالم الموتى والأسرار الغامضة حيث اختفى فيه النبي يوسف قبل اكتشافه من إحدى الفرق أو القوافل. وهنا علينا أنْ نتذكَّر أنَّ النبي يوسف قبل هذه التجربة في العالم السفلي، لم يكن معروفًا عنه قدرته على تفسير الأحلام. لقد جاء في القرآن الكريم أنَّ النبي يوسف قصَّ على أبيه الحلم الذي رآه، وأنَّ يعقوب النبي هو الذي فسَّر الحلم ليوسف. لكن تجربة البئر بما تمثله من غموض وأسرار ربما تكون هي التي مكّنت يوسف من امتلاك المقدرة على تفسير الأحلام فيما بعد، كما حدث معه أثناء وجوده في السجن.
وبإيجاز نقول إنَّ المكان في الأثر الأدبي ليس معزولًا عن العناصر الفنيّة الأخرى من وقائع وشخوص وعلاقات تؤدّي في النهاية إلى إظهار المكان في صورة فنيّة تنقل التجربة. وبمقدار ما تكون العلاقات بين عناصر الأثر الأدبي متلاحمة وضروري بعضها للآخر، تكون للمكان قوَّته وقدرته على أن يحفر لنفسه عميقًا في وجدان المتلقي ونفسه.
ولعلَّ الموضوعات التي تشكِّل هذا الملف تلقي أضواء أكثر سطوعًا على المكان ممّا ذكرناه، وذلك عبر تناول الفضاء المكاني من زوايا نظر أخرى فلسفيّة ومعمارية.
يوسف ضمرة