نبيل عبدالكريم
قاص وكاتب أردني
تتباين الرؤية الروائيّة من ناحية تشكيل الهوية المكانيّة في العمل الرِّوائي، فمثلًا في رواية "ثلاثون" لفيروز التميمي تتشكل ملامح المكان بسمات ذكوريّة خشنة، تنحو نحو قمع البطلة نفسيًّا تحت وطأة المكان، وسحقها جسديًا، ثم رميها خارج حدوده. بينما في "سيدات الحواس الخمس" لجلال برجس فإنَّ الملامح تتشكل بسمات أنثويّة فاتنة، فترسم علاقة مختلفة بين أبطالها ومدينة عمّان، فنراهم يسلكون سلوكًا حمائيًّا نحو المكان من منطلق مسؤوليتهم الأبويّة والذكوريّة تجاه مدينتهم، وينحون نحو استرجاعها من قبضة الفاسدين والطفيليين الذين اختطفوها في غفلة منهم.
ترتبط هوية الرِّواية بلغتها وجنسية مؤلفها والبلد الذي تجري فيه أحداثها. فإذا ائتلفت المحدِّدات الثلاثة فلا خلاف على نسبة الرِّواية إلى موطنها، كنسبة "الجريمة والعقاب" إلى الأدب الروسي، ونسبة "البؤساء" إلى الأدب الفرنسي، ونسبة "امرأة في الرمال" إلى الأدب الياباني.
إلّا أنَّ المحدِّدات تتداخل وتتشعَّب وتتوسَّع لأسباب ثقافية وجغرافية وسياسية، فتتداخل معها هوية الرِّواية وتتشعَّب وتتوسَّع. فالمتعارف عليه أنَّ أعمال "غابرييل غارسيا ماركيز" الروائية تنسب إلى الأدب الأميركي اللاتيني، وليس إلى الدولة الصغيرة التي يحمل المؤلف جنسيتها، ولا إلى الأدب الإسباني المكتوبة بلغته.
وفي حالات أخرى مخصوصة يكتب فيها المؤلف روايته بلغة غير لغته الأم، وتجري أحداثها في موطنه الأصلي وهو يحمل جنسية بلد آخر. وفي هذه الحالة تتنازع روايته هويتان، الأولى الهوية المكانية للرواية، والثانية الهوية اللغوية للرواية، وينتصر انتماؤها الأول على انتمائها الثاني في المحصلة، ويتغلب مكان الرِّواية على لغتها.
تتميَّز الرِّواية العربية بهويتها المزدوجة؛ اللغويّة الجامعة، والمكانيّة المميِّزة. وتتمتع هويتها بمرونة تسمح بمقاربتها نقديًا مجتمعة على أساس الهوية اللغوية، ومتفرقة على أساس الهوية المكانية القطرية. لكنّ الهوية اللغوية للأدب الروائي عمومًا، على أهميتها، تظل مقتصرة على الجانب التنظيمي والتصنيفي في المقاربة النقدية، وتعنى بالنتاجات التراكمية، والخصائص العامة، والمقارنات الأدبية الثقافية والجمالية بين آداب الأمم. أمّا أهمية الهوية المكانية المخصوصة، فقد عبّر عنها غالب هلسا في مقدمته لترجمة كتاب "جماليّات المكان": "إنَّ العمل الأدبي حين يفقد المكانيّة فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته".
يقصد هلسا من هذا التأطير إلى جنسنة الرِّواية مثلما يجنسَن الكائن الحيّ بصفات بيولوجية محددة، إذا افتقر إلى إحداهما انتقض كماله، ونقصت قدرته على التعبير عن نفسه. وانطلاقًا من هذا التأصيل للجنس الروائي، ميَّز هلسا بين جنسين من الرِّواية؛ جنس مكتمل سمّاه "الرِّواية العالمية"، وجنس ناقص سمّاه "الرِّواية الكوزموبوليتانية".
خصوصية المكان مقابل عموميته هي العنصر الحاسم في تمييز النوع الروائي عن غيره من الأنواع الأدبية؛ فبمقدار نجاح المؤلف في ربط الحدث الروائي بالمكان تكتسب التجربة فرادتها وتنأى عن عموميتها، وترتقي في سلّم التجارب الإنسانية، فينظر إليها المتلقي العالمي بوصفها الدرجة العليا في تجربته هو، والتي ما كان ليختبرها إلا منقولة عبر الرِّواية.
• الرِّواية الأردنيّة وهويّة المكان
المكان الرِّوائي لا تتحدَّد خصوصيّته إلا بإدماجه في الحدث الخاص، فيغدوان شيئًا واحدًا، أو سياقًا معينًا، وبغير هذا الاندماج يحتفظ المكان بطبيعته العمومية، ومهما ترددت أسماؤه وتكررت الإشارات إلى معالمه وتفاصيلة، فإنه يظل "مكانًا طبيعيًا" لا معنى خاصًا له ما لم ينسكب فيه الحدث وينخرط في مجاريه؛ فالحدث والمكان مثل الماء ومجرى النهر، لا يكتسب أحدهما خصوصيته إلا بالارتباط بالآخر، فيتشبَّع الحدث بخصائص المكان، ويمتح من تربته، ويتشكل وفق حدوده وقوانينه الطبيعية. ومن جهة ثانية، يفعل الحدث فعل الماء في المجرى، فيمنحه بعدًا عميقًا يجعل الخوض فيه صعبًا، أو يشفّ عنه فتبدو معالم قاعه واضحة، أو يفيض عنه فيبدو أوسع مما هو في الحقيقة، أو يحتّ فيه فتختلف معالمه. وهنا يغادر المكان الطبيعي حدود سماته ويدخل في أفق الرؤية المتخيَّلة، وتُقرأ سماته من خلالها.
يقدِّم المقطع الآتي من رواية "ثلاثون" للروائية الأردنية فيروز التميمي، نموذجًا للتفاعل بين الحدث الروائي والمكان الطبيعي: "أقف في الشارع بانتظار الباص.. أقف بلؤم. أبتعد عن الموقف في الاتِّجاه الذي سيأتي منه الباص مسافةً كافيةً ليقف لي قبل وصوله للموقف".
يربط المقطع القصير المكان العام بخبرة خاصة مستمدَّة منه، ومؤثرة فيه، فالشخصية المتكلمة تعرف أنَّ ركوب الباص ليس مشروطًا بالوقوف في محطة محدَّدة، وتعرف بحكم خبرتها أنَّ المشي في الاتجاه الذي يأتي منه الباص يضمن لها فرصة أكبر لركوب الباص. وتصف ابتعادها عن الموقف بأنه سلوك ينمّ عن لؤم لأنه يمنحها فرصة لركوب الباص على حساب الآخرين. والخبرة الخاصة في تفاعلها مع المكان تشحنه بالإيحاءات التي ترسم صورة الفضاء المكاني العام الذي تجري فيه أحداث الرِّواية. ومن حدث صغير واحد في الصفحات الأولى منها، تشكّل الرِّواية الخطوط العامة للمكان الروائي المتخيَّل من ناحية خصائصه العامة بوصفه مدينة كبيرة مزدحمة، منظومة النقل العام فيها عشوائية، فلا تجد بطلة الرِّواية مناصًا من السلوك سلوكًا ينمّ عن الأنانيّة لتحصل على حق أساسي من حقوقها.
لا يكفي مقطع واحد للإفصاح عن هوية المكان الروائي، وعن كيفية تشكُّلها في تفاعلها مع الحدث، فالإحساس الأوَّل بالمكان لا بدّ أن يتعمَّق ويتبلور عبر تدفق الأحداث في مجراها السردي وصولًا إلى الرؤية الشاملة التي تمكِّن من الحكم بأصالة الرِّواية.
وبتأمُّل المقطع التالي من رواية "ثلاثون" نلاحظ كيف يسعى الحدث إلى تعميق صلته بالمكان: "وأبدأ بإحصاء الاحتمالات الممكنة.. سيأتي باص مؤسسة النقل أولًا ويقف لي، سيأتي باص المؤسسة محشورًا ولن يقف لأنَّ لا مكان لقدم واحدة إضافيّة فيه، سيأتي ويكون فارغًا لكنه لن يقف لأنَّ السائق لن يعجبه شكلي، ستمرّ سيارة أحد أقاربي قبل الباص رغم أنَّ لا أقرباء لديَّ هنا، ستمرّ سيارة شخص لا أعرفه وسيشفق عليّ لسبب لا أعرفه وسيقف لي، سيكون حظي رائعًا اليوم ويمرّ أحد باصات الكوستر الصغيرة، وسينزل منه شخص ما فأصعد مكانه".
يطرح المقطع سلسلة من الأحداث المحتملة الوقوع من دون التأكيد على وقوع أي منها. فهي لا تعدو أن تكون روافد أو مجار يمكن للحدث أن يصبّ فيها، أو يجري مجراها. ووقوع حدث منها لا يدلّ دلالة مختلفة عن وقوع آخر، فالدلالة المتوخاة هي نقل الإحساس بالفوضى المكانية التي تجرّد بطلة الرِّواية من القدرة على توقُّع واختيار وسيلة النقل في المدينة التي تعيش فيها، ولا تسمح لها خدمة النقل العام في المدينة المفتقرة لأبجديات النظام إلا التمنّي بأنْ يحالفها الحظ بالحصول على مقعد في باص صغير.
يرسم المقطعان صورة لفضاء مكاني ممتد ومفتوح، لكنه انفتاح مسدود يثبط الحركة بدلًا من أن ييسّرها. وتتفتَّق هوية المكان عن طبقية اجتماعية تنمّط عناصره، وتشحن معالمه بدلالاتها، فكلّ ما هو عام في المدينة من شوارع وحدائق ووسائل نقل يتحوَّل إلى رموز معادية للإنسان العابر منها، والموجود فيها، والمنتفع من خدماتها. ولا يعني ذلك أنَّ الأماكن الخاصة تشكّل حاضنة أليفة أو رفيقة أو مريحة للبطلة، فالإنسان عمومًا، والبطلة خصوصًا، عرضة للانتهاك والتحرُّش والعنف في مكاتب الشركة، وفي السيارة الخاصة: "كنتُ أريد أن أقف في الشارع دون ذريعة، أقف حتى الملل، وليس في شوارع الأغنياء، الذين يمنحهم ارتياحهم أن يتسامحوا مع كل شيء لا يناقض مصلحتهم. كنتُ أريد أن أقف ساعة كاملة في سقف السيل في الثامنة مساء، أريد أن أضع كرسيًّا إلى جانب الشارع وأجلس عليه، أريد أن أخلع فردة حذائي الأيمن وأريد أن أضع رأسي بارتياح على مسند الكرسي ثم أريد أن يكون لي من انعدام الارتباك ما يمكِّنني من أنْ أغطسَ في أفكاري".
تمثّل رواية "ثلاثون" حالة نموذجية لتشكيل علاقة عدائية بين الإنسان والمكان، قائمة على موقف الاحتجاج والرفض للمدينة بوصفها الفضاء المكاني المسؤول عن تمزّق العلاقات الإنسانية، والخالي من الألفة والحميمية والبساطة التي تتميّز بها حياة الريف. فالرِّواية تكشف عن سبب العلاقة المتوترة بين البطلة والمدينة، والمتمثلة في أنَّ أصولها الريفية تحول دون انتمائها للمدينة: "كان أبي قد أخرجها (أمي) من قريتها إلى مدينة موحشة لا يسكنها إلا العسكر ولا تحمل حبال غسيلها إلا الفوتيك". فالبطلة ابنة المدينة من ناحية الولادة والنشأة، لكنها تنحدر من أبوين ريفيين مهاجرين، وظلت رؤيتها للمدينة محكومة باللاانتماء الذي يؤدّي إلى الرّهاب وسوء الظن تجاه الفضاء العام.
تستعيد رواية "سيدات الحواس الخمس" لجلال برجس الجذور الريفية لمدينة عمّان، وتشكّل هويتها المكانية الحديثة من منطلق المدينة الخائنة لأصولها الريفية، والمنبتّة عنها. "استعاد صورة لعمان وبيوتها تتسلّق أكتاف جبالها، وتذكّر تلك المساحات الزراعية ذات التربة الحمراء في شقها الغربي، وقد نمت فيها البنايات والشقق السكنية، والمشاريع الجديدة". وتربط الرِّواية الهوية الحديثة لعمّان بالفساد والجريمة الناتجين عن تخليها عن طهر القيم الريفية الأصيلة.
وترسم الرِّواية علاقة نفسية معقدة بين بطلها والمدينة بوصفها امرأة خاطئة، أو مومسًا فاضلة، وهو يحبها ويشتهيها، ولكن عجزه الجنسي ذا المنشأ النفسي يحول دون امتلاكها جسديًا، فيسعى إلى تعويض ذلك من خلال توظيف ثروته الطائلة لامتلاكها جماليًا وفنيًا، فيشتري بيتًا قديمًا من بيوت جبل اللويبدة، ويعيد بناءه ليكون جاليري للفنون بتصميم معماري "على هيئة امرأة تنظر إلى يديها الفارغتين". ويغدو دخوله اليومي إلى المبنى معادلًا نفسيًا للفعل الجنسي "توقّفت سيارة سراج وهبط منها يمشي نحو البوابة بخطوات هادئة، ففتحت أوتوماتيكيًا ليبدو كأنَّ مَن يدخل المبنى يعبر إلى داخل جسد المرأة".
تتباين الرؤيتان الروائيتان السابقتان من ناحية تشكيل الهوية المكانية، ففي "ثلاثون" تتشكل ملامح المكان بسمات ذكورية خشنة، وفي "سيدات الحواس الخمس" تتشكل الملامح بسمات أنثوية فاتنة. وانطلاقًا من هذا التباين تنحو "ثلاثون" نحو قمع البطلة نفسيًا تحت وطأة المكان، وسحقها جسديًا، ثم رميها خارج حدوده "فرحي الإربدي الذي كان فرحًا يوميًا بالخروج منها والعودة إليها، صار يجفّ، لا يصير شوقًا ولا حنينًا. لا يصير غير فراغ. غادرت إربد دون حتى أن أفكر بها وكنتُ أقاوم نحيبًا يعلو بصدري ولا أدري لإلحاحه سببًا. الآن لا إربد غرفتي ولا عمّان، لا أجد ركنًا لي".
أما "سيدات الحواس الخمس" فترسم علاقة مختلفة بين أبطالها ومدينة عمّان، فنراهم يسلكون سلوكًا حمائيًا نحو المكان من منطلق مسؤوليتهم الأبوية والذكورية تجاه مدينتهم، وينحون نحو تطهيرها من دنس الاغتصاب الذي تعرضت له، واسترجاعها من قبضة الفاسدين والطفيليين الذين اختطفوها في غفلة منهم.
وفي كلا النموذجين تظهر بوضوح الرؤية النقدية لهوية المكان القائمة والمتعيّنة، وسعيهما، إمّا لرفضها والانسلاخ عنها يأسًا منها ونجاةً بالنفس من عنفها، وإمّا لنقضها وإعادة بنائها أملًا في تغيير هويتها بإعادتها إلى هويتها الماضية.