د.شفيق طه النوباني
ناقد وأكاديمي أردني
في هذه المقالة يتتبَّع الكاتب طبيعة تشكُّل المكان الأردني من خلال عدد من القصص القصيرة لعدد من الكتاب الأردنيين، وقد جاء هذا التناوُل من خلال عنوانين أساسيين فرضتهما علاقة المكان بعناصر القصّ الأخرى، ولاسيّما الشخصيّات والزَّمان. فالقصة القصيرة جنس أدبي خصب ينطوي على تفاعلات خاصة بين عناصره، إذ يمكن أن تبرز هذه العلاقات بوضوح يمكّن الدارس من اكتشاف خصوصيّة هذا الجنس الأدبي الذي يسهم في تشكيل الرؤية الكلية للعمل، فالقصة القصيرة، كما يرى الكاتب هنا، تبدو أكثر ميلًا إلى إبراز الرُّؤية الساطعة التي تقدِّم الأجوبة بجرأة أكبر من الرِّواية التي تميل إلى تقديم رؤية أقل وثوقيّة.
لمعماريّة الجنس الأدبي دورٌ مهمٌّ في تشكيل عناصره المتنوِّعة، فالمكان في القصة القصيرة له خصوصيّة تجعله متباينًا عن المكان في الرواية على الرّغم من كون الرواية والقصة جنسين سرديين، ولعلّ المساحة النصيّة في كلا هذين الجنسين لها الدور الأكبر في إيجاد هذا التباين، فاتساع النص الروائي يتيح المجال لتناول أشمل للمكان ولتفاعل أكبر بين المكان والعناصر الروائيّة الأخرى، وإذا كانت أحداث الرواية في الأغلب تدور في مدن وأماكن حقيقيّة فإنَّ القصة ولا سيما في مراحل تطوُّرها الأخيرة تتَّجه إلى تصوير أمكنة غير حقيقيّة.
والمقالة الحاليّة لا تتغيّا خوضًا مستفيضًا في هذا الفرق بين تناول المكان في القصة القصيرة والرواية، غير أنها تتخذ من هذا الفرق مدخلًا يمكن من خلاله الولوج إلى طبيعة تشكُّل المكان الأردني من خلال عدد من القصص القصيرة لعدد من الكتاب الأردنيين، وقد اخترتُ أن أتناول عددًا من القصص لقاصين ينتمون إلى أكثر من جيل من أجيال كتاب القصة القصيرة في الأردن. وقد جاء هذا التناول من خلال عنوانين أساسيين فرضتهما علاقة المكان بعناصر القصّ الأخرى، ولاسيّما عنصرا الشخصيات والزمان.
• الشخصيّات ممثِّلة للمكان
على الرّغم من أنَّ غالب هلسا في "زنوج وبدو وفلاحون" يقدِّم حبكة تتنامى بوضوح من خلال أحداث ترتبط بشخصيّات معيّنة إلا أنَّ القصة تبني هذه الحبكة من خلال رسم هذه الشخصيات بوصفها ممثلة لأمكنة أو بيئات تحوي خريطة الأردن الاجتماعية في عهد الاستعمار، لتبدو بوصفها نقوشًا منسجمة مع ألوان المكان وطبيعته، فالقصة في الفصل الأول تتناول شخصية غير فاعلة بصورة مباشرة في أيّ جزئيّة من جزئيّات الحبكة، على الرغم من أنَّ هذه الشخصية (كلوب باشا) ذات دور أساسي في رسم سياسة الدولة في تلك المرحلة، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدلّ على أنَّ تشكيل القصة ينتهي إلى توصيل الحبكة بوصفها تمثلات لبيئة المكان بالدرجة الأولى، وما تناوُل شخصية "كلوب" إلا استكمال لتأثيث المكان، حيث يبدو "كلوب" حالة نشاز على الرّغم من محاولاته المتكررة للتماهي في ثقافة المكان الصحراوي، كما تشير من ناحية أخرى إلى مدى اتصال هذا المكان بالسُّلطة.
تركِّز القصة على الصحراء بوصفها فضاء تأسيسيًّا في القصة، فتظهر بصورتها القاسية التي يندمج فيها الصحراويون بطبيعة المكان: "الظلام يزحف من صحراء بادية الشام كقطعان ماعز سوداء تنفذ من عمق الأفق الشرقي... يعلو الدخان فوق الخيام لولبيًّا وله لمعة زرقاء. من اتجاه المراعي في الغرب تعلو غيمات غبار، وبقايا ضوء الشمس الغاربة يتسلل بين سيقان الرعاة والحمير والماشية. كل قطيع غنم يتقدمه حمار علق في عنقه جرس. الرجال أشكال سوداء يحدد إطارها ضوء الغرب"(1).
وإذا كانت الصحراء تبدو بهذه المشهدية القاسية التي تشحب فيها ملامح الحياة، فإنَّ الفوارق الطبقية تعمل على زيادة الاضمحلال والامّحاء بالنسبة للطبقة التي تقبع في آخر الهرم، إذْ تمثلت هذه الطبقة في الزنوج الذين يمكن أن يقتل الواحد منهم بسبب غضبة عابثة، غير أنَّ القتل قد يكون من نصيب شيخ القبيلة لسبب غير معروف؛ ممّا يسهم في تصوير البيئة الصحراوية في كليّتها بوصفها بيئة قاسية في طبيعتها، وهي مجال لتمايزات أخرى تنبني على معايير ليست طبقية بالدرجة الأولى كما هي الحال في الأصل أو الجنس، حيث ترضخ المرأة تحت سلطة ذكورية شرسة تسهم في بناء شخصيات تحلم باستمرار في الخروج إلى المدينة.
في مقابل البيئة الصحراوية يبرز الريف بصورة تبدو أكثر حركة وحميمية، حيث جاء الحوار الجماعي بصورة تدلّ على تقارب أبناء القرية(2)، كما جاءت أناشيد الأطفال لتعبِّر عن تفاعل التشكيل الاجتماعي مع البيئة الريفية، وإذا كان التناقض الواقع في البيئة الصحراوية قد جاء في سياق "الأشكال السوداء التي يحدد إطارها ضوء الغرب"(3)، فإنَّ التناول الذي يؤسس لحبكة القصة يقوم على التناقض القائم بين الريف والصحراء، أمّا مدينة عمّان فقد بدت "بيوتًا حجرية تنتشر على مسافة شاسعة جدًا لا ترى العين نهايتها"(4).
ولعلَّ غالب هلسا في روايته "سلطانة" تجاوز رؤيته الحديّة التي ركّز فيها على تمثلات المكان كما جاءت في "زنوج وبدو وفلاحون" حيث ركّز من خلال الرواية على ملامح التحولات الاجتماعية من خلال مدينة عمّان التي برزت فيها شرائح المجتمع الأردني على تنوُّعها. ولعلّي لا أجازف إذا قلت إنَّ الجنس الأدبي يسهم في تشكيل الرؤية الكلية للعمل، إذ تبدو القصة القصيرة أكثر ميلًا إلى إبراز الرؤية الساطعة التي تقدِّم الأجوبة بجرأة أكبر من الرواية التي تميل إلى تقديم رؤية أقل وثوقيّة.
وإذا كانت عمّان قد بدت في "زنوج وبدو وفلاحون" بصورة "بيوت حجرية ممتدة"، فإنها في "طيور عمّان تحلق منخفضة" لإلياس فركوح تقترب من عين الرائي أكثر دون أن تبتعد في رؤيتها عن عيني غالب هلسا، حيث سيطرت الرؤية الطبقية على القصة التي يجتمع فيها عدد من أبناء الطبقة المتوسطة ليمثلوا شرائح المجتمع الأردني، إذ يقرر سائق السيارة تعريف أصدقائه على الجانب الأكثر ثراء من عمّان، حيث تتّسع الشوارع أكثر، وتنتشر البيوت الفاخرة والضخمة على جوانبها لتتبيّن عمّان أخرى غير التي يعرفونها.
تميَّزت بيوت عمّان الثرية بحصانتها التي جعلتها صروحًا لا يتحقق من خلالها تواصل مع محيطها كما هي الحال في البيوت الشعبية: "ونظروا. من وراء النافذة العريضة تطاولت رؤوس. كانت كأنها تتفحص العربة بركابها، تحركت في أمكنتها ثم تجمّعت حول بعضها بأفواه تتفتّح وتغلق... بلا صوت. شيء خفي امتدّ بين تجمُّعَيْ الداخل والخارج. فتمّ تواصل بغيض به رعشة الكهرباء الهازّة، الصادمة"(5).
لم يتمكّن الأصدقاء من بناء أي جسور إنسانية مع عمّان الثريّة، غير أنهم تمكنوا من دخول مبنى أشبه بالقلعة، لتدور فيه لعبة حربيّة تداول فيها الأصدقاء الأدوار: "اختلطت الأدوار، واندغم اللاعبون... تارة مدافعون وتارة مهاجمون. مرة أصدقاء وأخرى أعداء"(6). والواضح أنَّ فركوح من خلال هذه القصة أراد أن يركز على الفارق الطبقي الذي يقود إلى السخط، غير أنَّ التباينات التي تنبني على الأصول والمنابت تبقى تنوعًا طبيعيًا لا يقود إلى صراع أو مجابهة حقيقية، بل إنَّ الصورة التي تنتهي بها القصة حيث تلتفت إحدى الشخصيات إلى سرب من الطيور يحلق منخفضًا توحي بأنَّ ملمحًا من التعايش والهناء يغشى عمّان كلها.
ويبدو تمثيل المكان بصورة مختلفة في قصة "هاوي المراسلة"(7) لجمعة شنب حيث تقوم القصة على أساس العلاقة القلقة بين الإنسان والمكان بأبعاده الطبقية، فالشاب الجامعي الهاوي للمراسلة وصلته رسالة من إحدى الفتيات في العقبة بعد انتظار طويل إثر إعلان اسمه في قائمة هواة المراسلة في أحد برامج الراديو. وبعد تبادل عدد من الرسائل حاول كلا الهاويين إبراز مشاعر حب للآخر فضلًا عن الظهور بمظهر لا يبيِّن حقيقة الطبقة التي ينتمي إليها كلاهما.
بدت الوحدات الشرقيّة في العقبة التي تسكنها الفتاة منطقة فخمة، كما حاول الشاب الظهور بمظهر الترف سواء أكان ذلك من خلال صوره التي أرسلها أم من خلال لغته التي حاول أن تكون مزوَّقة. وحين قرر إظهار ملامح الفقر في مخيَّم الوحدات الذي يسكنه من خلال الرسالة الأخيرة لها لم يحصل على أيّ رد. فقد مثّل كل من الهاويين ملاذًا للآخر يحاول من خلاله أن يحقق الحلم الذي يتجاوز به ضيق المكان بما فيه من أبعاد طبقية لتعبِّر القصة عن أزمة الانتماء، وكيفية تعامل الشخصية الحالمة المنقطعة عن واقعها مع انتمائها إلى هذا المكان.
وإذا كانت قصة "هاوي المراسلة" تعبِّر عن هذه الأزمة مع المكان، فإنَّ قصة "سميرة" لتغريد أبو شاور تعبر عن أزمة الطبقة الفقيرة دون أن يتعدى المكان كونه محطة لجوء: "أخذونا بعد الحرب من القدس وحطونا ببيت لحم، بعدين جابونا ع عمّان، إلي 35 سنة بعمّان، وأنا لحالي بعد ما مات أخوي"(8)، فعلى الرغم من أن سميرة تقطن في جبل اللويبدة الذي لا يعرف بأنه من المناطق الفقيرة في عمّان إلا أن "سميرة" المسنّة تنتظر أن يأتيها الغداء تبرعًا من الكنيسة بينما تجلس على أحد مقاعد دوّار باريس، فإقامة سميرة في اللويبدة التي عادة ما يقترن ذكرها بتأسيس عمّان الحديثة لم يبعدها عن الفقر المدقع.
• المنحى الجمالي للمكان الأردني
إذا كانت العلاقة التمثيلية للشخصيات مع المكان تقوم على كون المكان خلفية بالنسبة للشخصية التي تتفاوت درجة بروزها بحسب درجة تماهيها مع الخلفية المكانية، فإنَّ التركيز على الملمح الجمالي للمكان سيجعله موضوعًا بالنسبة للشخصية بخلاف الشكل الأول. وقد بدا ذلك واضحًا في العديد من القصص التي ركزت على المكان بالدرجة الأولى. ومن ذلك قصة علي النوباني "معزوفة الورد والكستناء: من وحي البتراء"(9) حيث يشغل جمال البترا راوي القصة الذي لم يتمكن من الوصول إلى ما بعد الخزنة بحكم عجزه الناتج عن الإعاقة الجسدية، حيث يؤدي التوقف في المكان إلى إثارة خيال الشخصية، ليتَّحد عجز الشخصية أمام استكشاف الصورة الجمالية الكاملة للمكان مع عجز الفارس النبطي الذي أوجدته مخيّلة الشخصية عن الحفاظ على البترا أمام غزو الروم؛ لتظهر ملامح الحزن على زوجته النبطية الجميلة.
وكما تظهر في قصة على النوباني ملامح الإحساس الوجودي بصورة ما، حيث يشعر الإنسان بضعفه أمام الوجود تعبِّر قصة نديم عبدالهادي "بيت جبل عمّان"(10) عن الملمح الوجودي، فقد بدا الزمن ذا أثر ثقيل على الإنسان والمكان، فقد اضطرّت الشخصية الرئيسة في القصة إلى ترك البيت القديم في جبل عمّان ليلحق هذا البيت بالمطعم المجاور، ولتتحوّل ذكريات الشخصية في هذا البيت إلى صور تقيم في الذاكرة، أمّا العنصر الإنساني المرتبط بالمكان فقد بدا الزمن ذا سطوة قاسية عليه، حيث لبست "جاكلين" جارة الراوي في بيت الطفولة في جبل عمّان لباس الحداد بعد وفاة أخيها الذي كان له وأخته ذكريات مع الراوي.
في هذا الشكل من القصص برز عنصر الزمن بالإضافة إلى عنصري المكان والإنسان في تشكُّلهما المتداخل دون إبراز الشخصية في إطار الخلفية المكانية ليؤدّي الزمن دوره في هذه الحالة بصيغته الوجودية. ولعلَّ من الضرورة بمكان الإشارة في هذا السياق إلى أن القصة القصيرة جنس أدبي خصب ينطوي على تفاعلات خاصة بين عناصره، إذ يمكن أن تبرز هذه العلاقات بوضوح يمكّن الدارس من اكتشاف خصوصية هذا الجنس الأدبي.
• الهوامش:
(1) غالب هلسا: زنوج وبدو وفلاحون، دار المصير للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، ص13.
(2) انظر: المصدر نفسه، ص55.
(3) المصدر نفسه، ص13.
(4) المصدر نفسه، ص22.
(5) إلياس فركوح: طيور عمّان تحلق منخفضة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1981، ص45.
(6) المصدر نفسه، ص51.
(7) جمعة شنب: موت ملاك صغير، مطبعة الأمان، عمّان، 1984، ص84.
(8) تغريد أبو شاور: كحل، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، 2018، ط1، ص21.
(9) علي النوباني: الأعمال القصصية الكاملة، جرش، 2020، ص149.
(10) نديم عبدالهادي: بيت جبل عمّان، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2014، ص7.