د. حمدان العكله
كاتب وأكاديمي سوري مقيم في تركيا
دكتوراه في الفلسفة من جامعة دمشق تخصص فكر عربي معاصر
إنَّ العنف عند السياسيّة والفيلسوفة الأميركيّة- الألمانيّة "حنة آرندت" منهجيَّةٌ تقوم على الإكراه، فهي مضادَّةٌ للحريَّة بطبيعتها، ومؤسَّسةٌ على الإجبار، وهي غير مشروعةٍ، حتَّى وإن تمَّ تبرير حالة العنف فإنَّ ذلك يكون للمبالغة في تضخيم الأهداف التي قام من أجلها العنف، وتسليط الضوء على الجانب الإيجابيٍّ فيه، ولا يستند العنف بطبعه على الرَّأي العامِّ، وله أدواتٌ يستخدمها تزيد من قوَّته، وهي أدواتٌ غير إنسانيَّةٍ، ولها قوَّةٌ تدميريَّةٌ.
• سياسة اللاعنف
ترى "حنة آرندت" أنَّ الخروج من العنف يجب أن يكون باتِّباع منهجيَّة اللاعنف الأخلاقيِّ، فاللاعنف سياسةٌ تحقِّق غايتها عن طريق ممارساتها السِّلميَّة، وعلى سبيل المثال فإنَّ الزَّعيم "غاندي" قد استطاع تحرير الهند من الاستعمار البريطانيِّ حين اتَّبع هذه السِّياسة السِّلميَّة، فاتِّباع غاندي لهذه السِّياسة أعطى نتائجه المُجدية؛ وذلك لأنَّ ثورته لم تكن تحمل أدواتٍ عنفيَّةً يمكن للبريطانيين مجابهتها، فقد أسَّس جيشًا من اللاعنفيين لنشر السَّلام، وإنهاء الاستعمار البريطانيِّ للهند، ولا يُعِدُّ غاندي اللاعنف ضعفًا؛ ذلك لأنَّه يرى أنَّ الامتناع عن المعاقبة ليس غفرانًا، وقد عدَّ اللاعنف من أعظم الأسلحة التي يمكن أن تحظى البشريَّة بها، وأنَّه أقوى من كلِّ سلاحٍ تدميريٍّ صنعته براعة الإنسان.
فسياسة اللاعنف هدفها الأوَّل كسب الرأي العامِّ ضدَّ هذا المحتلِّ أو ضدَّ مَن يمارس العنف، ومن جهةٍ ثانيةٍ، فهي تسعى للتمهيد من أجل القضاء على العنف والحيلولة دون انتشاره، إذ تتَّخذ سياسة اللاعنف عدَّة أساليب، تعدُّ أساليب حضاريَّةً، ونتائجها لا تقلُّ تأثيرًا عن العنف، فالمقاطعة على سبيل المثال تمتلك أثرًا كبيرًا في تغيير سياسة مَن يتَّبع العنف، وخاصَّةً المقاطعة الاقتصاديَّة في العصر الرَّاهن، وكذلك الاعتصام، إذ من شأنه أن يكون رسالةً واضحة الأهداف ضدَّ العنف الممارَس من جهةٍ ما، كما إنَّ الاعتصام من شأنه أن يوقف نشاط الحياة، فيجبر مَن يتَّبع العنف على تغيير سياسته.
إنَّ السُّلطة عند "آرندت" لا تتساوى مع العنف، فالوجود الموضوعيُّ للسُّلطة يفترض منطقيًّا انتفاء العنف، فالسُّلطة مؤسَّسةٌ جماعيَّةٌ، والعنف يقوم على الأدوات القمعيَّة التي تقوم على آليَّة الغاية والوسيلة، "فالسُّلطة والعنف يتعارضان، فحين يحكم أحدهما حكمًا مطلقًا يكون الآخر غائبًا، والعنف يظهر حين تكون السُّلطة مهدَّدةً، لكنَّه إن ترك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السُّلطة"(1)، فالعنف يستطيع أن يهدم، ولكنَّه لا يستطيع حتمًا خلق سلطةٍ أو حتَّى التَّأسيس لها.
وترى "آرندت" أنَّ الجيل الجديد المعاصر لثورة التِّكنولوجيا وعصر المعلومات يرفض العنف بكلِّ أشكاله، وتبيِّن أنَّ هناك شكلين واضحين للعنف؛ الشَّكل الأوَّل هو العنف التَّقليديُّ، والذي يكون عادةً باستخدام أدواتٍ عنيفةٍ تتسبَّب بالأذى والإصابة، أو السَّجن والتَّعذيب، وقد تصل إلى المجازر والإبادة الجماعيَّة، أمَّا الشَّكل الثَّاني فهو العنف التِّكنولوجيُّ الذي ظهر نتيجة التَّسلُّل العمليِّ الحديث إلى كافَّة نواحي الحياة.
ولم تكن معارضة الجيل الجديد للتَّقدُّم التِّكنولوجيِّ بسبب التِّكنولوجيا بحدِّ ذاتها، إنَّما كان السَّبب من وراء هذا العداء يعود إلى أنَّ هذه التِّكنولوجيا تسبَّبت في إلحاق الأذى بالإنسان، فها هي تعمل مكان الإنسان وتتسبَّب في طرده من العمل، بمعنى أنَّ الآلة حلَّت محلَّ الإنسان، وقامت بأدواره، كما أنَّ السُّلطة استخدمت التِّكنولوجيا بوصفها وسيلةً من وسائل العنف، وبهذا أصبحت تهدِّد حياة الإنسان ووجوده، بل بإمكانها أن تهدِّد البشريَّة بأكملها.
و"لقد اتَّفق عددٌ من المفكرين ومنهم آرندت على أنَّ الآثار السَّلبيَّة التي يعاني منها الإنسان جرَّاء التقدُّم التِّكنولوجيِّ اللامحدود أصبحت تفوق آثاره الإيجابيَّة، كما اتَّفقوا على أنَّ السَّبب في ذلك يرجع إلى الفهم الخاطئ للتِّكنولوجيا على أنَّها الوسيلة الوحيدة التي تؤدِّي إلى إسعاد الإنسان وتحويل أحواله، بمعنى أنَّ التِّكنولوجيا اخترقت كلَّ جوانب الحياة، وصبغت كلَّ شيءٍ بصبغةٍ ماديَّةٍ، وتجاهلت كلَّ القيم الإنسانيَّة الأخرى"(2).
ولو دقَّقنا البحث في هذه المسألة لوجدنا انفصامًا واضحًا بين ما يتمُّ تعليمه للجيل الجديد في المدارس والجامعات من مناهج لا تمتُّ بأيَّة صلةٍ مع ما يحدث في العالم، أو ما يواجهونه من كوارث ناتجةٍ عن الثَّورة التِّكنولوجيَّة الحديثة، إنَّ هذا التَّطوُّر التِّقنيَّ المرعب جعل الجيل الجديد يشعر بفراغٍ كبيرٍ؛ لأنَّ المستقبل "بات أشبه بقنبلةٍ موقوتةٍ يمكن أن تنفجر بأي لحظة، فهذا الجيل غير قادرٍ على التَّخطيط للمستقبل، أو تكوين نظرةٍ عنه، فهو لم يعد يثق بأنَّ المستقبل قادمٌ، أو حتَّى أنَّه سيبقى في هذا العالم على قيد الحياة".
• نقد نظريّة العنف
تذهب "آرندت" إلى أنَّ دعاة العنف ومشجِّعيه يحاولون تسويغ نظريَّةٍ مفادها أنَّ العنف هو المتحكِّم الأوَّل في تاريخ البشريَّة، إذ يمثِّل العنف -برأيهم- القطيعة للسيرورة التَّاريخيَّة وحركيّة التاريخ، فالتَّغيير لا يحدث في مسار البشريَّة وتاريخ الحضارات إلا بواسطة العنف، وهذا الحديث من شأنه تشجيع العنف ودعاته. في الحقيقة، إنَّ الردَّ على ذلك يكون بتبنِّي اللاعنف، والتَّأكيد على أنَّ اللاعنف عبر تاريخ البشريَّة ساهم بنهضةٍ عاليةٍ، وبتقدُّمٍ نلمس آثاره في كلِّ مرحلةٍ تاريخيَّةٍ، أي يمكننا القول إنَّ اتبِّاع منهجيَّةٍ صحيحةٍ، وسلوكٍ مدروسٍ في تنظيم أمور الحياة من شأنه إحداث تغيُّراتٍ كبيرةٍ، أكثر فاعليَّة، وأكثر مصداقيَّة ممَّا يحدثه العنف؛ لأنَّ العنف سلوكٌ غير أخلاقيٍّ، إذ يتسبَّب بمآسٍ كثيرةٍ وآلام عميقةٍ لا مجال لحصرها.
وتعود "آرندت" إلى التَّذكير ببعض الفلاسفة الذين ربطوا السِّياسيَّ بالسُّلطة، فالسِّياسة لا تمارس من دون سلطةٍ –برأيهم- تعبِّر عنها وتجسِّدها بصفتها فعلًا ممارسًا، وأنَّ ذروة السُّلطة هي ممارسة العنف، وتذكر من هؤلاء الفلاسفة "جوفينيل" الذي رأى أنَّ "المرء يشعر بنفسه أنَّه أكثر من مجرَّد إنسان حين يتمكَّن من فرض نفسه، ومن جعل الآخرين أدواتٍ تطيع رغبته، ممَّا يعطيه لذَّةً لا تضاهى، في حين أنَّ فولتير كان يرى أنَّ السُّلطة تقوم في جعل الآخرين يتصرَّفون تبعًا لاختيارات تلك السُّلطة، وأنَّها تستطيع أن تفرض إرادتها رغم مقاومة الآخرين لها"(3).
وترى "آرندت" أنَّ السُّلطة لا تعني العنف بالمطلق، فهي ليست سيطرةً، إنَّما السُّلطة هي علاقةٌ إيجابيَّةٌ بين طرفين، الطَّرف الأوَّل له حقٌّ في الأمر، والطَّرف الثَّاني عليه واجب الطَّاعة، فالطَّرف الأوَّل هم الذين يمارسون السِّياسة باسم الشَّعب، أي إنَّ جميع الأفراد هم مَن شكَّلوا هذه السُّلطة، وحدَّدوا صلاحياتها، واتَّفقوا متى تكون سلطةً صالحةً، ومتى تتحوَّل إلى سلطةٍ فاسدةٍ، لذا وجب عليهم الطَّاعة، في حين أنَّ الطَّرف الأول كان له الحقُّ بالأمر؛ لأنَّ هذا الحقَّ قد اكتسبه من شرعيَّة وصوله إلى المكان الذي يمنحه الحقَّ في الأمر عبر إرادة الشَّعب، إنَّ الخلل في هذه العلاقة -حقُّ الأمر ووجوب الطَّاعة- قد يدفع إلى تحوُّل هذه السُّلطة إلى أداة سيطرةٍ، فتصبح سلطةً غير صالحةٍ، وتتحوَّل العلاقة بين طرفيها السَّابقين إلى علاقةٍ سلبيَّةٍ يسودها العنف والتَّسلُّط، عندها تظهر السُّلطة مستخدمةً أدواتٍ عنفيَّةً لفرض وجودها على الأفراد، وبالتَّالي فإنَّ السُّلطة بمعناها الإيجابيِّ هي ممارسة السِّياسة، ولكن بمعناها السَّلبي تعني ممارسة العنف، أي إنَّ السُّلطة فعلٌ أخلاقيٌّ، وشرطٌ سياسيٌّ لقيام الدَّولة المدنيَّة بمعناها الحقّ، أو كما ينبغي أن تكون عليها الدَّولة.
فالسُّلطة عند "آرندت" بهذا المعنى تكون مختلفةً تمام الاختلاف عن العنف، فالسُّلطة كونها تمارس الفعل السِّياسيَّ لا بدَّ أن تستند إلى مرجعيَّة الأفراد؛ ذلك لأنَّها نتاج هؤلاء الأفراد، في حين أنَّ العنف هو نتاجٌ لخلل العلاقة بين السُّلطة وأفرادها، لذا فهو يخالف ثنائيَّة العلاقة المتوازنة -حقُّ الأمر ووجوب الطَّاعة- وبذلك تكون غير مبنيَّةٍ على هذه الفئة الشَّعبيَّة، أي إنَّها قد تمثِّل استغلال فئةٍ أو مجموعةٍ أو فردٍ للسُّلطة، وقد يستند في ذلك لأدواتٍ قمعيَّةٍ للوصول إلى هدفه.
ترى "آرندت" أنَّ المفكِّرين كثيرًا ما يلجؤون إلى حالةٍ من المزج والخلط بين السِّياسة والعنف؛ لأنَّه إذا وصلت السِّياسة "إلى تمجيد العنف أو تسويغه بوصفه عنفًا، فإنَّها لا تعود نظريَّة سياسيَّة، بل نظريَّة مضادَّة لِما هو سياسيّ"(4)، فالسِّياسة في وقتنا الرَّاهن يسود حولها مفهومٌ أنَّها قد تحوي على العنف بالضَّرورة، هذا الخلط يعود إلى القرن الماضي الذي شهد حربين عالميتين وحربًا باردةً، كما شهد تقسيم العالم إلى مناطق نزاعات وصراعات سمِّيت كلُّ واحدةٍ منها بحسب نوع الصِّراع فيها، إذ ظهر مصطلح العالم الأوَّل والثَّاني والثَّالث، ثمَّ غاب مفهوم العالم الثَّاني بتفكُّك الاتحاد السُّوفيتيِّ، وبقي مصطلحان؛ العالم المتقدِّم (الأوَّل) والعالم النَّامي (الثَّالث)، كلُّ هذا يشير إلى أنَّ الوضع الذي مرَّت به البشريَّة قاد إلى خلطٍ في هذه المفاهيم.
لكن بالعودة إلى أزمنةٍ قديمةٍ، وفي فترة الثَّورات اللِّيبراليَّة والاشتراكيَّة سادت سياسة حقيقيَّة قامت على مبدأ الفعل السِّياسيِّ، وعلى أخلاقيَّة اللاعنف؛ ذلك لأنَّ العنف بعيدٌ عن معنى السِّياسة، كما أنَّه بعيدٌ عن السُّلطة، فالسُّلطة التي تمارس العنف تفقد شرعيتها، لأنَّها تتخلَّى عن أيِّ منظومةٍ أخلاقيَّةٍ، والعنف الذي يسعى إلى تكوين سلطةٍ، فإنَّ هذه السُّلطة إن قامت لا تكون أخلاقيَّةً، بل تكون أيضًا غير مستقرَّةٍ ومتأرجحةٍ ومؤقتةٍ ومضطربةٍ، وبالمقابل فإنَّ السُّلطة التي لا تحترم القيم الأخلاقيَّة، ولا تستند عليها، أو تتخلَّى عنها، من شأنها أن تصبح عرضةً للعنف مرةً أخرى.
إنَّ "آرندت" ترفض رفضًا تامًّا وجود العنف في السِّياسة؛ لأنَّ السِّياسة فعلٌ أخلاقيٌ، ونتاجٌ لممارسة الإنسان لحقِّه في التَّنظيم والسُّلطة، كما ترفض الأنظمة المشجِّعة للعنف، أو التي تحوي داخل منظومتها إشاراتٍ عنيفةً، كما هي الحال عند الشُّيوعيَّة والنَّازيَّة، كما ترفض رفضًا تامًّا استخدام الأدوات العنفيَّة في السُّلطة، وتذهب إلى نقد المقولات التي كانت تشجِّع على الفكر العنيف كما هي الحال عند "ميكافيلي" و"هوبز" و"فرانز فانون"، كما ترفض الهيمنة للقوَّة العلميَّة التي تقود إلى صناعة نظامٍ بيروقراطيٍّ، إذ يمارس الحكم عبر نظامٍ معقَّدٍ يجسّد الطغيان، فما ترغب به "آرندت" حقًّا هو بناء سياسةٍ أخلاقيَّةٍ بعيدةٍ عن العنف، تقوم على مبدأ السِّلم والسَّلام.
• خلاصة القول
لقد دعت آرندت إلى سياسة اللّاعنف؛ لأنَّ العنف يتنافى مع السُّلطة، فهو قادرٌ على القضاء على السُّلطة، إلَّا أنَّه غير قادرٍ على إقامة سلطةٍ مستقرَّةٍ ومتوازيةٍ، فأعمال السُّلطة ليست بحاجةٍ إلى تبريرٍ، أمّا العنف فهو بحاجة إلى تبريرٍ لِما يقوم به من ممارسات، والعنف قد يكون جماعيًّا أو فرديًّا وذلك باستخدام أدواتٍ عنفيَّةٍ قد تدمِّر البشريَّة بأسرها، فالعنف هو نتيجة الخلل في العلاقة بين السُّلطة والأفراد، وقد وضَّحت "آرندت" أشكال العنف الثلاثة، الأوَّل هو العنف العسكريُّ ويكون الجيش أداته، مستخدمًا أدواتٍ عنفيَّة فتَّاكة، والثَّاني هو القمع الذي تمارسه السُّلطة على أبناء شعبها مستخدمةً أدواتٍ عنفيَّةٍ ماديَّةٍ وغير ماديَّةٍ، أمَّا الثَّالث فهو العنف التِّقنيُّ الذي يستغلُّ التَّطوُّر التِّكنولوجيَّ لممارسة العنف على الآخرين، فـ"آرندت" ترفض كلَّ المقولات التي تشجِّع على مفهوم أنَّ ما أُخذ بالقوَّة لا يُستردُّ إلا بالقوَّة؛ لأنَّها مقولاتٌ تؤسِّس لأنظمةٍ مهيمنةٍ ضدَّ الإنسانيَّة، فهي تهدف إلى بناء الحرية وممارسة السلطة وفقًا لمنهجية اللاعنف الأخلاقية.
• الهوامش والمصادر:
1- حنة آرندت، في العنف، ترجمة، إبراهيم العريس، ط1، دار الساقي، بيروت، 1993، ص50.
2- هبة البدوي، فلسفة الاعتراض- دراسة في الفكر السياسي الغربي، دار روابط للنشر، القاهرة، 2018، ص109، بتصرف.
3- حنة آرندت، في العنف، مصدر سابق، ص32، بتصرف.
4- حنة آرندت، في الثورة، ترجمة، عطا عبدالوهاب، مراجعة، رامز بورسلان، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص24.