د. حسين جمعة
كاتب وناقد أردني
جاءت الفلسفة الحديثة استمرارًا لاتجاهين في الفلسفة الإغريقية؛ خط أفلاطون ومريديه، الذي مهّد التربة لتطوُّر الفلسفة المثاليّة، وخلق المُلابسات الفكريّة لظهور المسيحيّة، وخط ديمقريط ومذهبه الذي أثَّر على الفكر الفلسفي التقدُّمي، وأضحى مثالًا يُحتذى للتفكير الإنساني المتحرِّر من أواصر الدين والغيبيات، واستجاب الغرب لكل ما وضعه الإغريق من حيثيات ومن معتقدات وأنماط تفكير، وأهمّ ما قال به هؤلاء، هو كيفيّة طرح الأسئلة المعقدة والمتناقضة، التي يصعب العثور على أجوبة شافية لها.
الإنسان العربيّ عامة والمفكر العربيّ خاصة ينظر بدهشة وذهول إلى الفجوة الحضارية الماثلة بشدة ونصوع، التي تفصل بين الشرق والغرب، ونحن لا نحتاج إلى معايير المنطق أو بلاغة الكلام أو منظوم القول للتثبُّت من حضورها وترسُّخها في دائرة العالم المعاصر. وقد ظفرت مسألة تفوُّق النموذج الحضاري الأوروبي على النموذج الآسيوي/ الشرقي في شتى أطره وتفرُّعاته بمتابعات دقيقة ودراسات عميقة للقبض على جوهر هذه الإشكاليّة ولبّها، وذهبت المحاولات في دروب عدّة واتجاهات مختلفة، وعبرت الممرات الضيقة والواسعة حتى وكأنه لم يبق لأحد من مزيد، أن يتلفظ بكلمة أو رأي من دون أن يسمع مَن يردّ عليه، بأنَّ ما قد يجيء به مكررًا ومعهودًا ولا جديد فيه. ومع هذا التحفظ فأنا أظن أنَّ ثمّة ما يمكن أن نخوض فيه فنأتلف أو نختلف. لكن لا بد من طرحه، والتسلُّل إلى أعماقه، وجوس ردهاته ورصد اشتغالاته كي نتفهم مسبباته وآثاره، ونترسم النهج الصالح للخروج من منزلقاته وردهاته، لمواجهة الزمن الذي نحيا في أكنافه، الذي يتصدَّر فيه الغرب الواجهة الحضارية بما ينتج من أفكار واستكشاف الجديد المبهر والمفيد، الذي نعتاش على هوامشه، ونستسهل الأخذ منه من دون تأمُّل كاف واستقصاء واف، واستفادة عامرة وبنّاءة.
سـأتوقف في هذه الإطلالة على مسوغات نجاح النموذج الحضاري الغربي، عند خصائصه وأسباب تقدُّمه، انطلاقًا من التوغل في أساس نشأته وتطوره على أن يليه المرور على مرتكزات الحضارة الآسيوية الشرقية في مهادها العربية الإسلامية والصينية/ الكنفوشية والهندية البوذية.
تخطَّت الحضارة الغربية الأوروبية القائمة الآن على العلم والتقنية والإنتاج أفق المسيحية الضيق وتعقيدات اللاهوت المسيحي بعد صراع طويل وممتد لقرون، حيث تمكنت بالارتكاز إلى الثقافة الإغريقية القديمة، ومنهجها العلمي وفكرها الفلسفي ومنطقها العقلي السليم، وجدليّتها المنفتحة المتسائلة، التي تساءلت قبل ثلاثة آلاف سنة، هل من الممكن أن يسبق أخيل السلحفاة، وهي لا تبعد عنه سوى عدة خطوات؟! واستطاعت أن تهزم الجمود الديني والتكلس الفكري، وتنهض من عصور الظلام إلى تباشير التقدم الاجتماعي والعلمي والتقني السريع، وتستمتع بنسائمه المنعشة، بعد أن ظلت قرونًا تحت وطء المعتقدات المسيحية دون أثر فاعل في الحضارة الإنسانية.
نحتاج إلى نظرة تأمُّل في نشأة حضارة الغرب، وأسباب نجاحها وتفوُّقها بعد بدء محاولات فصل الدين عن الدولة، وأخيرًا القطيعة مع الفكر الديني المسيحي، والاسترشاد بالعقل والخبرات العملية والعلمية؛ فالغرب عندما حاول الخروج من أزمته البنيوية المتخلفة واجهته إشكالية تاريخية/ فلسفية ارتبطت بضرورة تربية حساسية التفكير التاريخي، لأنَّ مفكريه وفلاسفته وجدوا أنَّ الإنسان لا يستطيع إدراك الحقائق خارج إطار العلاقة مع الزمن والأجيال المتعاقبة، وكذلك خارج نطاق التاريخ وتطور الأفكار ذاتها. وقد دفع فلاسفة الغرب ومثقفوه أثمانًا باهظة، ومنهم مَن ضحّى بحياته لترسيخ النظرة العلمية إلى دقائق الكون والوجود والتناقضات الكامنة في خباياهما، والدعوات لمراجعة أصول وأركان اللاهوت المسيحي من "تسيليس" صاحب كتاب "الكلمة الصادقة"، الذي ظهر قبل مئة وخمسين سنة من انعقاد أوّل مجمع (مجمع نيقية 325م) واختفى، إلى "جوردانو برونو"، مرورًا بـ"جان ميليه" في كتابه "الوصية" وغيرهم كثيرون إلى الآن(*). ووجب التذكير هنا بأنَّ للدين عامة دورًا مهمًا في مجرى الحضارات، حيث نتلمس مظهره وبصمته في قوام المجتمع وكيانه، ومدى استلهام بعض أفكاره ودعائمه في تسيير عجلة الحياة، لا سيما في بلدان الشرق إذ تتجلى آثاره في توجه المجتمع وسيرورته. لكن هذا لا يعني أنَّ الدين هو اللاعب الأساس أو القاعدة التي يقوم عليها التغيير الجذري والتحولات الكبرى، هذه المهمة تقع على عاتق علاقات الإنتاج وأدواته ومشغليه. حقًا، هل كان للثقافة الدينية المسيحية دور في نهضة العلم والتقنية في أوروبا الحديثة؟! نعم، ولكنه دور سالب وليس محفزًا ودافعًا على الإبداع والعطاء في هذا المجال، ومعلوم كيف وقفت الكنيسة في وجه المكتشفات العلمية والفكر الحر، وحاربت كل مَن يدعو إلى التمسك بهذه الغايات أو الدعوة إليها. قد يبدو أثر الدين أظهر ما يكون في بعض المسالك الأخلاقية، وكانت له صبغة إيجابية في هذا الحقل. أمّا التأمل الفلسفي والخوض في المسائل الجدلية فلم يكن يومًا ما من اهتمامات الفكر الديني، الذي لم يكن يسعى إلا إلى مزج المعرفة الفلسفية باللاهوت وتوظيفها في الحياة الروحية للإنسان، مع أنَّ هذه المعرفة كانت دومًا في نزاع صارخ مع الدين.. تتنابذ وإياه وتتضارب، أو كما ارتأى ابن رشد: أن التباين بين الفلسفة والدين، كما هو التباين بين الخيال والعقل، وكما ردّد "ديدرو" بقوله: الفلاسفة- أصدقاء العقل والعلم، أمّا دعاة الدين- فهم أعداء العقل ورعاة الجهل. وقديمًا مع بزوغ فجر المسيحية شدّد "تيرتوليان" أحد أعمدة غلاة المسيحية على أنَّ الفلاسفة هم أباطرة الهرطقة، مؤكدًا مقولته المعروفة والمتداولة: "أومن لأن الإيمان ضرب من العته والهلس"، ويواصل قوله: "ما الجامع بين الفلسفة والمسيحية.. بين تلاميذ أثينا وأورشليم.. بين الأكاديميا والكنيسة؟.. نحن لا نحتاج بعد المسيح إلى أي تطلع معرفي... وبعد الإنجيل لا نحتاج إلى أي درس أو بحث". ويكرِّر "مارتن لوثر" وراءه متصاديًا وإياه: "العقل أول عهر شيطاني".
يعني ذلك أنَّ الفكر اللاهوتي المسيحي كان عقبة في طريق التأمل الفلسفي والتحرّي العلمي، ولم يكن من سبيل إلى النظر في مسائل المعرفة سوى العودة إلى الأصول الإغريقية الأولى التي أظهرتها لهم عبر النقل والترجمة الثقافة العربية الوسيطة، مع أنها نأت بنفسها عن الانغماس الكلي في جوهر فلسفة الإغريق، وأخذت ما تتناسب وفقه الشريعة الإسلامية، ومن هنا تفضيل سقراط وأفلاطون وأرسطو على فاليس وهيراقليط وأبيقور وغيرهم.
وفي ملابسات العصر الحديث وأزمة المسيحية، فإنَّ التناقض بين مفاهيم المسيحية وتعاليمها وبين العلم أضحى صارخًا وفسيحًا. وسيشهد قرننا الحالي عزوف أعداد كثيرة عن الإيمان الديني لصالح العلم والمعرفة الفلسفية، لأن الفلسفة بدأت تخرج من عباءة أشكال الوعي الديني؛ مما يقضي إلى تراجع الدين ذاته، مع أنَّ اللاهوت المسيحي ومنذ بداياته الأولى، وحتى في أحلك ملابساته (محاكم التفتيش وغيرها)، كان منفصلًا عن الأنظمة الحاكمة، ويعمل تقريبًا بشكل مستقل عنها، على نقيض ما يجري في النموذج الشرقي من مكانة للدين في حياة المجتمع.
قامت حضارة الغرب المعاصرة على استنهاض أهم مرتكزات الفكر الإغريقي والفلسفة الإغريقية، التي تصدت لأشكال الوعي ما قبل الفلسفي.. الوعي الأسطوري والديني، وكذلك الإبداع الفني القائم على الأساطير والتغني بالآلهة وخوارقها، وأقامت على أنقاض فهمهم وإدراكهم لأساسيات الكون والحياة تصورات مغايرة، ترتكز إلى المنهج العلمي/ الأرضي، وتتسلح بأدوات العقل والمنطق؛ فجاءت الفلسفة- لوحة حية في ترسيخ الفكر النظري وتثبيته وتطويره بالأفكار الجريئة والأصيلة، التي أضحت ذات أهمية عميقة لا تضاهى، لما طرحته من مسائل وإشكالات عميقة ومذهلة تمثل نموذجًا مثاليًا يكاد يرتقي إلى ضرب من المعجزات. هذه الفلسفة أعادت النظر في أعمال هومير وهيسيورد، التي راكمت الحكم الشعبية، والتصورات الدينية عن العالم والحياة الإنسانية من منظور وعيها المخصوص، الذي كان كلًا لا يتجزأ، يخلط التصورات الدينية عن العالم بالرصد البدئي الأولي لظواهر الطبيعة ويدمجها مع بعضها بعضًا، مع أنَّ المعرفة لا تتطابق تمامًا مع الظاهرة الدينية، لأنها في طبيعتها مفارقة وغريبة عن الإيمان الديني. أمّا الفلسفة فهي ثمرة الشكوك الحادة في الأجوبة الأسطورية عن أهم الإشكالات التي تدور حول نشأة الكون ومكوناته وأغراضه، وحول الحياة والعيش والموت وما شابه ذلك. وهلّت الفلسفة في مواجهة الأساطير والسحر والتنجيم وغيرها، وحلّت على أنقاض هذه الظواهر، وكما يقول "هيغل": إنَّ الوعي الذاتي للإنسان احتل مكان الوحي.. لقد تبوّأ مكان الوعي الحدسُ القائم على الفرضيات والتخمينات، ومن ثم التنظير الذي كان بديلًا عن الاستنتاجات المخبرية والأمبيرية، وحجز مكانة مهمة في الرصد والاختبار والانطلاق إلى البناء الفعال، بعد أن اندمج بالنشاط العقلي، ممّا دفع بهؤلاء الفلاسفة التجريبيين إلى قطع الرابطة مع الإيمان بالكهنة والرسل والملائكة الذين يعتمدون على الوحي، وحدث ذلك جراء تطور الفكر واللغة ونشأة الكتابة (المأخوذة عن الفينيقيين)، وظهور بدايات علم الفلك بدل التنجيم، ونشأة إرهاصات الرياضيات والطب وغيرها. أدى تطور اللغة المترسخة في الكتابة إلى تطور التفكير الموضوعي، حيث تراكمت المعارف العلمية وتضاعف الرصد المعرفي؛ مما أفضى إلى تقديم الموضوع على الذات والتمسك بأولوية هذا الموضوع.
مرّت آلاف السنين ليتنقل الإنسان من عالم الأسطورة ومن عصر الدين إلى بدايات عصر العلم والتفكير الموضوعي والذهن المنطقي، وكان ذلك مع ظهور "فاليس" كأوَّل متفلسف معترف به في بلاد الإغريق، الذي كان أهم الفلاسفة السبعة في عصره، وهو الذي انتقلت إليه الحكمة، ولم تبق من نصيب عرّافات ديلفي.
"فاليس" (طاليس) أوَّل مَن اجتاح الأوليمب، ولفت النظر إلى الانتقال إلى الأرض والبحث عن المادة وحضورها في طياتها وأكنافها بعيدًا عن تدخل الآلهة، وتقول إحدى الخرافات إنَّ الحكمة تحوَّلت من الكاهن إلى شخص تاجر عالم، وهو "فاليس" الذي شرع يفسّر علامات الكون انطلاقًا من المعرفة العملية بدل من الكهانة وتنبؤات العرافات، وهو مَن قام بحذف الجزء الثاني من المأثورة المحفورة على واجهة معبد ديلفي، والقائلة: "اعرف نفسك، تعرف الآلهة والمسكونة"، واقتصرها على (اعرف نفسك)، وذلك قبل سقراط بزمن طويل. وهو أوَّل مَن حاول طرح نظرة شمولية إلى الكون والعالم مفرغة من الاختلاقات الميثولوجية- وهذا ما اتفق عليه "شيشيرون" و"هيغل" وحتى "ماركس".
جمع "فاليس" المجد من أطرافه، فأبوه من فينيقيا وأمه يونانية، وموطنه إيونيا- المركز التجاري الكبير شرق المتوسط، حيث تتقاطع فيها الثقافات المتنوعة وتتلاقى الشعوب المختلفة، وتتداخل الحضارة الحيثية وبحر إيجه مع حضارة بلاد الرافدين وفينيقيا ومصر وغيرها، وهو من مواليد مدينة ميليت التي أنجبت معظم مفكري وفلاسفة الإغريق، من هومير إلى ليوكيب مرورًا بطائفة متألفة من المؤرخين والفلكيين والمثقفين والفلاسفة. هنا في ميليت درجت بواكير خطوات الفلسفة، وتنفست الحكمة أولى نسائمها، ومن ثم انتشرت في أنحاء العالم كله. في ميليت المزدهرة اتخذ الصراع الطبقي أشكالًا حادة، انتقلت فيه السلطة من الارستقراط إلى التجار والمهنيين الأثرياء في القرن السادس قبل الميلاد؛ مما أحدث انعطافة في العلاقات الاجتماعية والسياسية، أسعفت الإدراك العقلي للعالم وساعدت على دفعه وتطوره.
"فاليس" الذي جاب بلدان الشرق.. مصر وبابل والتقى الكهنة، وانغمس في معرفة علوم الفلك والرصد الجوي، تمكن من تشكيل لوحة جديدة للمعمورة انطلاقًا من المعلومات الصادقة التي تحصَّل عليها، وكان إلى جانب علمه رجل سياسة يدعو إلى وحدة بلاده وعدم تفرقها وانقسامها. وهذه الانشغالات أتاحت له أن يقدم إجابات ذكية عن أسئلة لعينة وماكرة، مثل ما الأسرع والأذكى والأفضل والأقوى وما أشبه بذلك، إضافة إلى أنَّ الموت والحياة عنده لا فرق بينهما. "فاليس" أوَّل مَن عمل في مجال الهندسة، وأوَّل مَن عارض التنجيم واشتغل بالفلك وجعل منه علمًا نظريًا، وحطّم الاعتقاد القائل بتأثير النجوم على الحياة الأرضية، وأنَّ الأجرام السماوية هي مقر أرواح الموتى. قال "فيورباخ": "ارتفع فاليس إلى مرتبة الاستبصار العلمي للطبيعة، وجعل من النجوم مادة للحساب والتأمل، بعد أن كانت النجوم تمثل إيمانًا شعبيًا بالمخلوقات الإلهية"، وقد رصد "فاليس" كسوف الشمس ورأى أنه يتم عندما يتوسط القمر بين الأرض والشمس، وبذلك تكون جغرافية هومير الأسطورية قد انهارت، وأخذت الفلسفة طريقها نحو اللاأسطرة والابتعاد عن الميثولوجيا والفهم الديني لأسرار الكون.
ولعلَّ أهم مأثرة لـ"فاليس"، الذي وضعه أرسطو في مواجهة مع هومير وهيسيود والأورفيين، طرحه فكرة نشأة جميع الأشياء والمواد بطرق طبيعية، من المواد المتحوّلة، وقوله بالماء كأساس لهذه المواد بأسرها، انطلاقًا من المعطيات حول مكان المحيطات ودورها في ظهور المعمورة. وهنا، وكما يرى "فيورباخ": "في مياه الفلسفة الطبيعية الأيونية، انطفأ التنجيم الوثني"، وجرى طرد الآلهة من المصابيح السماوية؛ ممّا أحدث نقلة عارمة في رؤية الإيلينيين الإغريق إلى الطبيعة وتحولاتها والكون وحالاته، كان "فاليس" ينظر إلى الطبيعة كمخلوق حيّ.. تحسُّ وتفكر، ويقول إنَّ هذه الملامح من صفات المادة العضوية المتطورة جدًا، بما يتفق ورأيه عن وجود روح في المغناطيس. هذه النظرة للمادة المفكّرة الحية- فكرة ساذجة عن روحانية الطبيعة وإحيائها. ومع ذلك فإنَّ "فاليس" عبقرية زمانه التي اجترأت على معتقدات الأوليمب، واتجهت نحو الطبيعة، تناغيها وتستصرخها وتبحث في ثناياها عن الحقيقة، بعيدًا عن التصورات الوثنية.
اختلف الإغريق حول "فاليس" وما جاء به، فمنهم مَن وجد في آرائه استخلاصات إلحاديّة، واعتبره كافرًا بالآلهة لأنه أرجع علل الأشياء إلى الماء.. إلى شيء مادي وليس إلى الآلهة، ومنهم مَن أصبح يفترض أنَّ العالم يتشكل من ذاته ومن دون تدخُّل القوى الخارقة المتمترسة في الأوليمب. وسارت على درب "فاليس" أعداد من المفكرين والفلاسفة من شتى النحل والتوجهات، وها هو "أناكسيماندر" يعلن بأنَّ بداية الأشياء هي (الأبيرون).. يعني اللامحدود، المادة التي لا نوعية لها وهي تتحرك أزليًا، ولا يحدها حدود، كما لا نهاية لها ولا تزول. ومفهوم (الأبيرون) هذا- إدراك حسي مجرَّد يملأ الفضاء، ويتغلَّب على التصوُّر الأسطوري عن الهيولى (الكاوس). وقال إنَّ هذا اللامتناهي يتضمَّن السبب في نشوء الدمار والنظام، ومنه انفصلت السموات وكل العوالم التي لا تعد ولا تحصى. كما فسّر نشأة العالم جراء تواشج ظواهر الطبيعة، وقال إنَّها ليست من صنيع التصوُّرات الميثولوجية التي ترى أنها نتيجة فعل الآلهة أو احتضان الآلهة لها. وأرجع أسباب تشكل الكون إلى صراع التناقضات المتوافرة في هذه المادة اللانهائية واللامحدودة.
ومن هذه البداية الأزلية ظهر العالم الذي نعيش فيه بكل تضاداته، وتشكل جراء هذا الانفصال مجال ناري اندمج بالهواء وأحاط بالأرض كما القشرة تحيط بالشجرة، وحينما انفجر هذا المجال وتناثر تكوّنت آبار ناريّة، ومن هذه الآبار ظهرت الشمس والقمر والنجوم. إلى جانب هذا التصوُّر برزت عنده فكرة تطوُّر الإنسان من الحيوان، الذي أخذ بها تلميذه "ألكيميون" الطبيب، وطوَّر مخرجاتها بالقول إنَّ الوعي يصدر عن الدماغ، والدماغ هو عضو التفكير عند الإنسان. والإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى بأنه يستوعب ويفهم، بينما الحيوانات تحس ولا تفهم ولا تدرك، وكان لهذه الفكرة وقع شديد في تطوُّر العلم في هذا الاتجاه.
وسار على الدرب نفسه "أناكسامين" الذي رأى البداية في الهواء الذي لا ينضب، منبت جميع المواد والأشياء وحتى الآلهة، ووجد في تحوُّلات حالة الهواء وما تفضي به من تغيرات الأساس في تكوين ما يحيط بنا من كائنات وأجرام. ودرس "أناكسامين" حركات الأجسام المضيئة، وحاول التفريق بين الكواكب والنجوم ساعيًا إلى العثور على تفسير طبيعي لنشأة المصابيح السماوية، وقال إنها تتكون نتيجة لتكاثف الهواء المتبخّر من الأرض وتحوله إلى رطوبة، اشتعلت في الأعالي وشكلت المصابيح المضيئة. وهذه الأفكار على نقيض رأي أرسطو الذي اعتبر أنَّ النجوم آلهة، وما أشار إليه أفلاطون أنَّ مَن يقول إنَّ الظواهر السماوية لها قوانين طبيعية فهو ملحد، وأمّا سقراط فقد ترك أمر هذا الموضوع للآلهة للبتّ فيه. أمّا "أناكساغور" فكاد يدفع حياته ثمنًا لقوله إنَّ الشمس ما هي إلا كتلة صخرية هائلة، وإنها ليست إلهًا؛ فاتُّهم بالإلحاد وحكم عليه بالإعدام، لأنَّ آراءه صدرت من الأرض لتفسِّر ما يجري في السماء.
ممّا ذُكر نجد أنَّ الأمر لم يقتصر على طرح عابر من شخص عابر، وإنَّما أضحى توجُّهًا ظاهرًا، أو بالأحرى مدرسة قائمة لها رموزها وأساطينها وأطروحاتها المرتكزة إلى حدود المنطق وأحكام العقل والسبر الموضوعي الأرضي للإشكاليات المطروحة. وهذه الآراء تتوَّجت بظهور تعاليم هيروقليط، الذي طوَّر توجُّهات سابقيه، ورسّخ مفاهيمهم التي بلغت أوْجها في أفكار "ليوكيب" في الذرّة، والذي أورد، أو قدَّم ثلاثة مفاهيم:
- الفراغ المطلق.
- الذرات التي تحوم في هذا الفراغ.
- مفهوم الضرورة الميكانيكية (الآلية).
ويُقال إنه طرح قانون السببيّة أو العليّة، وقانون الأساس الكافي: "لا شيء ينبت بلا سبب، لكن سائر الأشياء تنبع من أساس ما وبقوّة الضرورة".
تُظهر دراسة الفولكلور أنَّ تاريخ الفلسفة لم يكن عملية عقلنة للتصورات الدينية للعالم المحفورة في الأساطير، وإنما تشير إلى صراع الفلسفة المادية مع الميثولوجيا الدينية. فالفولكلور كان حاملًا للتصورات الفلسفية، كما هي حال الأدب الشفوي الذي يعتبر من منظار المعتقدات الشعبية لونًا من الفلسفة. يرى "بيلينسكي" أنَّ "الأفكار الفلسفية، الغائرة في القدم كانت تتخفى في أناشيد شعراء ما قبل هومير". وهومير كان الموقد الذي حوَّل المادة الخام من الحكايات والأحاديث والخرافات إلى معدن ثمين، بعد أن أبرزها -كما يقول "شيلينغ"- حيث أصبح الفن يرصد ويبيّن والفلسفة تفسّر وتُمنطق.
ثمة علاقة قوية بين الفلسفة والأدب، وفلاسفة الإغريق لم يكونوا غرباء عن إدراك مدى أهمية الاستيعاء الفني للعالم، واستخدام لغة الصور الفنية؛ فالحكماء لخصوا النظرات الأخلاقية والسلوكية في تعابيرهم وأمثالهم، وقدَّم الفلاسفة رؤاهم الطبيعية العلمية في مطوّلات وملاحم عن الطبيعة، فقد كان معظمهم فلاسفة وشعراء. حمل الشعر مقدمات الفلسفة الإغريقية، التي تحولت فيما بعد إلى فلسفة إيجابية حوارية. ومع ذلك فتاريخ الفلسفة لا يبدأ من "هومير"، وإنَّما -كما ذكرنا- من "فاليس"، لأنَّ الفلسفة أضحت على ما هي عليه حينما خرجت عن إطار الميثولوجيا، التي لم يتخلص من قيودها الشعراء هومير وهيسيود والأورفيون، الذين كانوا يمتلكون شيئًا من عناصر الفلسفة، إلا أنها ظلت على العتبات وفي نطاق الثقافة الأسطورية.
نشأة الفلسفة تعني تطهير الأفكار من الأساطير، والعمل على اضمحلالها، ومن ثم على إزالتها من الحضور، وهي بهذا المفهوم صراع لا ينقطع مع الميثولوجيا من "فاليس" إلى "هيغل". شرعت الفلسفة الإغريقية بنقد اللوحة التي عرضها "هومير"، مع أنَّ الجميع تدرَّب على التفكير بين يديه وعلى أعماله، لنجد "كسينوفان" يجول المدن وهو يعزف على قيثارته منددًا بتلبيس الصفات البشرية على الأشياء الأخرى، معتبرًا أنَّ "هومير" مدلّس ومخادع. وقد كتب بطولتين تاريخيتين يرثي فيهما "هيسيود" و"هومير" ويهزأ منهما ومن حكاياتهما عن الآلهة، نافيًا تشبيه الآلهة بالبشر، وهازئًا من الكهنة المصريين الذي يقدسون أوزيريس ويبكون موته. ولعلَّ أعظم عبرة في هذا التوجُّه- موقف برميثيوس وتمرده على الآلهة، كما روته الدراما الإغريقية، والذي أسماه أفلاطون "هرطقة بروميثيوس"، ذلك النسر الجريء المعذب، الذي خرج على طوع زيفس؛ فأصاب آلهة الإغريق بجرح غائر دامٍ، جراء شدة شكيمته الصادقة وقوة إرادته الحازمة؟ فكان من أوائل مَن ذاق العذاب في الأجندة الفلسفية على يد الآلهة، لأنه أراد بطيبته غير العادية أن ينقذ البشرية من تحكم الآلهة في أمورها.
لا شكَّ أنَّ الفلاسفة هم من إنتاج زمانهم وأبناء شعبهم، تتجلى في أفكارهم هموم الشعب وتطلعاته وأمانيه وعصائر تأملاتهم الرفيعة، والشعب هو مصدر القيم الروحية والمعنوية يشرع في التأمل والتفكير عندما يجد ما يسد كفاف عيشه وأود حياته، فيبدأ في التفلسف والانخراط في التنظير. وبواكير خامات الفلسفة محفوظة في الفولكور، الذي يستمد حراكه ويقوي حيويته من خبرات العمل والإنتاج التي تترافق وأنغام الشعر الشعبي وترديداته. وهذا الشعر كثيرًا ما يحمل شيئًا من الأفكار الفلسفية، وتتراكم هذه الأفكار في الملاحم والمطوّلات الشعرية حيث نعثر على تصوًّرات تنجيمية وفلكية وتاريخية. وأوسع ما تشتهر به الشعوب- الأمثال والحكم والعبارات المأثورة والأماثيل وما شابه ذلك من أقاويل وحكايات موجزة. وهذه المبدعات تزدهي بأخلاقيات الشعب وجمالياته، وتزخر بقواعد المنطق والفكر السليم، وقد رافقت الإنسان منذ بداياته الأولى وما تزال تمنحه السعادة، وتستثير فيه كوامن الحب الإنساني الصادق، وهي تحتوي على ملخصات استعارية ومجازية مشحونة بالأفكار الفلسفية، وهناك أعمال فلسفية تتناغم فيها وتتهادى الأماثيل المقنعة والحكم السديدة الهادية. يُقال إنَّ إحدى الأماثيل الهندية عن المزارع هزَّت كيان "هيغل" وأدهشت مداركه بعمق مضمونها وروعة تكثيفها، كما إنَّ الفيلسوف "سانيتانا" كان يوفِّر جزءًا من جهوده على تأليف الأمثال والأماثيل وما شابهها من أقوال.
والمعروف أنَّ الاهتمام بالأمثال يعود لأنها من مبدعات الشعب واختلاقاته، ومنشئها مجهول النسب لأنها من الشعب وإلى الشعب، تعكس حياته ومواضعات عيشه ودروب تفكيره وأمنياته- أي أنَّها الفلسفة العملية للشعب. تعبِّر الألغاز والأمثال والعظات والأحاجي والأقاويل عن تفكير عامة الناس، وتُجمل خبرتهم التاريخية والاجتماعية والحياتية. ونذكّر هنا بأنَّ المثل- قول مأثور ذو منشأ فولكلوري وسيرورة فولكلورية لها مغزى مزدوج: مباشر وتجوزي.
يكمن سر أهمية الأمثال وأشباهها في أنها تقدّم وبشكل انفعالي واضح صورة ناصعة عن المجتمع، معبرة عن أفكاره العميقة بجمل قصيرة موجزة قابلة للتذكُّر، وكأنها أحكام جزئية دقيقة لما يدور في أعماق المجتمع من تنهدات وتطلعات نتيجة السيرورة التاريخية، وعمل الناس واحتياجاتهم، وضرورة تنظيم تجارب انشغالاتهم وسبكها في أشكال لفظية تترسَّخ في الذاكرة، ويجري تداولها في الحالات المشابهة. يتداخل الكثير من الأمثال ويتوازى في بلدان متعددة إذا كانت الظروف متشابهة أو قريبة من بعضها؛ ممّا يسهِّل انتقالها من منابعها إلى أماكن أخرى، واستمرار حياتها لأزمان ممتدة وطويلة جدًا، لا سيما إذا كانت تدور في شؤون مقاومة الطبيعة وقساوة الحياة وشدة وطئها وسعيرها، أو تتناول قضايا الكون والتناقضات المتراكمة في إشكالات العيش ومسائل الحياة والموت وما شابه ذلك.
اشتهر "فاليس" ومن بعده معظم مفكري الإغريق بنظم الأمثال والأقاويل للإشهار بما يخالف العقل وجلاء بعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية، وطرح آراء ذات جدوى في تحريك نبض المجتمع ولفت انتباهه إلى جهله وتشكيكه بمعتقداته اللامعقولة؛ فكانت هذه الحكم والآراء مقدمة ذات أثر في ولادة الفلسفة، ولعبت دورًا مهمًا في التوجه نحو المنطق وابتداع حدوده وأطره بعد أن أضحت هذه الأمثال ذات مغزى كبير ودلالة ماثلة، وأشكالًا من المنطق والقول السديد، كما أضحت مادة للتأمُّل الفلسفي والاستيعاء النظري وطرح التعليلات وعرض النواميس والتناقضات الحياتية والكونية.
والمعروف أنَّ أرسطو حينما أراد أن يطرح ويحلل المعايير الفلسفية لجأ إلى الأمثال؛ فعثر في تأملات الشعب وأطروحاته ومقولاته وتفكيره على كثير من عناصر الجدل الساذج البدائي، وبعض الأشكال المنطقية والقوانين العقلية، ووجد في لغتها الإيحائية والمجازية والتمثيلية ما ينطبق على الحالات الاجتماعية والمعيشية وحتى السياسية. وهذا يعني أنَّ مؤلفي هذه الأقوال المتنوعة كانوا في أعماقهم فلاسفة، يقفون على تجربة حياتية مذهلة، استمدت من روح شعبها ومكابداته كثيرًا من المثل الجمالية والإنسانية والأخلاقية، التي قال فيها الفيلسوف الفرنسي "مونتين": "إنَّ أحكام الفلاحين في الأخلاق تتطابق مع الفلسفة أعمق بكثير من آراء بعض الفلاسفة أنفسهم". ومع وجاهة هذا الرأي إلا أنَّ الوعي العادي يغلب عليه ائتلاف الوعي واللاوعي، ويختلط فيه الذهني واللاذهني، وحيثيات المعرفة العلمية بالخزعبلات، ويكون هذا الوعي في بداياته غير واضح، وغالبًا غير مترابط وفيه الكثير من التناقض، ومردّ ذلك أنَّ هذا التفكير يحتوي على متاهات زمانه وترهاته وتخرصاته، مع وجود علاقة بين الوعي العادي والوعي الفلسفي لا يجوز تجاوزها، لأنَّ هذه العلاقة كانت مبعث نشأة الفلسفة المادية البدائية الساذجة. فالفلسفة المادية ظهرت وتبلورت نتيجة نقد الأساطير والتنجيم الديني حول خلق العالم من قبل آلهة ما ورائية، والانتقال إلى بدايات علم الفلك الطبيعي.
وعليه، أضحى أساس عقيدة فلاسفة المادة القدماء- الاعتراف بأولوية المادة والعالم المادي، حيث جرى تفسير قوى الطبيعة ومحركاتها من ذاتها ولذاتها من دون تدخُّل من الخارج، أو بمساعدة أو سيطرة قوى سماوية أو إلهية أخرى... كانت فلسفة مادية فطرية أولية، يتواجد فيها العالم كواقع موضوعي يؤثر على الأحاسيس، ويمكن بلوغه ومعرفته بالمفاهيم والنظر الفلسفي.
كان فلاسفة الإغريق القدماء (لا سيما مدرسة ميليت "ملطية") جدليين فطريين ينطلقون من وحدة المادة مع أنَّ مفهوم تقسيم الفلسفة إلى مادية ومثالية لم يكن معروفًا في زمنهم، ولم يُعرف سوى في عهد أفلاطون. لقد اشتغلوا نقديًا على فكرة التطور والتغيير، والسيطرة والضرورة التي استمدوها من الأساطير. نجد أنَّ فلكيات أناكسيماندر حاملة لمبدأ التطور، وقد طرحوا مبدأ الثبات، وقالوا إنه يتشكل مع الزمن، وكان مفهوم الماء عند "فاليس" صورة للحركة والجريان والاستمرارية. العالم عندهم نبت من بداية مادية، وتطوَّر وتحوَّل إلى شيء ما، حيث ظهرت في ميليت فرضيّة نشوء الأرض والحياة، وكذلك النبات والحيوان والإنسان.
ارتبطت الفلسفة آنذاك بالممارسة، ومحاولة تفسير العالم ماديًا، وهذا يحتاج إلى تدريب وخبرة وإمكانات معرفية، وتسويغ جوهر الإنسان ومغزى حياته. بهذه البساطة وبهذه الحكمة الموضوعية، تناول الإغريق الإشكاليات الكونية والإنسانية المعقدة، وطرحوا بلا ستائر أو أغطية الضوء الصافي على الطبيعة، فكانوا الأساتذة الأوائل في هذه التوجهات مع أنَّ أضواءها -بحسب "ماركس"- كانت ذات نوع وإشعاع خافت إلى حدّ ما.
ديمقراطية المدينة/ الدولة كانت مقدمة تطور الثقافة الإغريقية وازدهارها، ومع تفسخ نظام المدينة انهارت هذه الحضارة القديمة، التي تمكنت من استخلاص تصوُّرات بدائية عن ظواهر الواقع من روح الأسطورة، ومشاركة قوى الطبيعة واحتضانها في المخيّلة والارتقاء بفاعليتها، وقدِّر لها أن تحوِّل الملاحم والأشعار إلى معادلات فنية، ووسائل للإحاطة الجمالية والفنية بالعالم، وجعلت من هذه المعادلات تماثلات علمية وفلسفية طبيعية، وانتقلت من (تيوغونيا) هيسيود إلى البحث عن البدايات وتحرّي ظواهر الطبيعة، والتقاط النظام الذي يسيّرها، منطلقة إلى التماثل العلمي والمفاهيم المجردة، حيث تمّ ربط الصورة الحسيّة بالمفهوم المجرَّد، وتكوين ما يشبه النظرية مع أنَّ الفلسفة الإغريقية القديمة لم تكن على دراية بثنائية التفكير والوجود، والذات والموضوع والعالم والملموس. لكن الإغريق على الرّغم من كل هذه المنجزات في ذلك الزمن الغابر، الذي طرحوا فيه مسألة الإحاطة العقلية بالعالم واعتمدوا العقل السليم الخالص، إلا أنهم واجهوا أعظم إشكالية حادة ما تزال تؤرق علماء الفيزياء والعلوم الطبيعية حتى يومنا هذا، الذي يتعذَّر الخروج منه جراء صعوبة العثور على الحلول المعقدة للإشكاليات المتكاثرة التي تصطدم بها الإنسانية في طريقها إلى الارتقاء لإدراك خفايا الوجود وغموض دواخل الحياة.
جاءت الفلسفة الحديثة استمرارًا لاتجاهين في الفلسفة الإغريقية؛ خط أفلاطون ومريديه، الذي مهّد التربة لتطوُّر الفلسفة المثالية، وخلق الملابسات الفكرية لظهور المسيحية، وخط ديمقريط ومذهبه الذي أثر على الفكر الفلسفي التقدُّمي، وأضحى مثالًا يُحتذى للتفكير الإنساني المتحرِّر من أواصر الدين والغيبيات، واستجاب الغرب لكل ما وضعه الإغريق من حيثيات ومن معتقدات وأنماط تفكير، وأهم ما قال به هؤلاء، هو- كيفية طرح الأسئلة المعقدة والمتناقضة، التي يصعب العثور على أجوبة شافية لها. هنا، وحينما تكاثرت الأسئلة وتعاظمت فَرَدَ الغرب الرأسمالي أشرعته، وأبحر لا يوقفه أيّ شيء، للبحث عن أجوبة عقلية شافية عن الأسئلة اللعينة الماكرة التي تجابه الإنسانية بأسرها، بعد أن قطع روابطه الغيبية مع المسيحية، مستظلًا بشيء من روحانيّتها وتسامحها، وراح يتحرّى النظر في المسائل الفيزيائية المتناقضة والمتنابذة التي طرحها زينون في "الأبوريا" قبل حوالي ألفين وخمسمئة سنة..
- - - - - - - - - - - -
(*) أقتطف للإفادة قولًا من إحدى وصايا الكاهن المرتد "جان ميليه": "حذار... من الإيمان الأعمى، حذار من هذه الانطباعات الأولية، التي تستحوذ على عقلك من يوم ولادتك وأثناء التربية. يتعيّن عليك أن تتفهم الأشياء بعمق... وازن كما ينبغي الأسس، التي تعتمد عليها كي تؤمن أولا تؤمن بما تقوله لك ديانتك... أنا متأكد أنك إذا سايرت النور الطبيعي لعقلك، فسترى... أن ديانات العالم طرًا من اختلاق الناس، وأن كل ما تتعلمه عن ديانتك، وكل ما يرغمونك على الإيمان به من إلهيات وما ورائيات هي من حيث الجوهر ليست سوى مغالطات وخداع ووهم ونفاق".