كتابة وتوثيق: إيمان مرزوق
كاتبة أردنية
القرارُ بذاتِه.. يُعادلُ الوُصولَ والانتصار..
من عمّان إلى العقبة مشيًا على الأقدام.. ولسان حالي يُردِّد:
"سأقْطعُ هذا الطَّريق الطويل، وهذا الطريقَ الطويلَ، إلى آخِرهْ..
إلى آخر القلب أقطعُ هذا الطريقَ الطويلَ الطويلْ.."(1).
خيمة.. "كيس نوم"، وحقيبة سفر، و"دبدوب"..! إنّ حصرَ ما تحتاجه من أشياء للعيش مُتنقلًا من مكان لآخر مشيًا على الأقدام لمدة 6 أيام بعيدًا عن أهلكَ وبيتكَ وسريركَ ليس أمرًا هيّنًا.. ولكن؛ بعد خوض التجربة كاملة.. تُوقِنُ أنَّ خيارَ العودةِ من الخيمة إلى بيتكَ نعمة يفتقدها كثيرون على هذا الكوكب.
اليوم الأوَّل 18/10/2021
تجمَّعنا في عمّان وانطلقنا إلى الجامعة الألمانية الأردنية في مادبا حيث أقيم حفل افتتاح المسير بشكل رسمي، الحماسة والنشاط باديان على الجميع، خاصة بعد أن لبسنا جميعًا "التيشيرت" الأخضر الخاص بمسيرة المناخ(2)، هذا اللون أعطانا طاقة إضافية، واحدًا تلو الآخر بدأنا المشي على بركة الله وباسمِه؛ في شوارع مادبا باتِّجاه الكرك، عبر (الطريق الملوكي).
مشينا بين البيوت، في الأسواق، وعلى أطراف الأراضي الزراعية المفتوحة، مررنا بمواقع أثرية وتاريخية كثيرة، الناس تنظر إلينا بفضول سرعان ما يتحوَّل إلى استغراب "مشي من عمّان للعقبة..!! طب ليش ؟"، "الله يقوّيكو".
الحظّ حليفنا، الجوّ خريفي بامتياز، الغيومُ أكُفٌّ حانيةٌ تحجبُ وهجَ الشمسِ عن جباهنا، نمشي بأريحية وانتعاش، عيوننا تسافر بعيدًا في الأراضي الزراعية المنبسطة مثل بحر بُنّي من التراب السّخي، إنه الأفق الذي نفتقده في زحمة المدينة، زُرقة السماء مع نُدَفِ الغيم العملاقة.. خطٌ طويل.. يقطع استقامته بضع شجرات من بعيد.. ليبدو المكان نوتة موسيقيّة ربانيّة.
نمشي باتجاه مَطَلّ وادي الموجب، نصله مع غروب الشمس، نلتقط الصور على عَجَل، ثم ننسابُ مع الطريق الملتوية نزولًا باتجاه السَدّ كالمطر، يُخيّم الليل علينا، كعمّال المناجم يحمل كل منّا مصباحه على رأسه ليرى موطئ قدميه، وفي قلبه شغفٌ يبدّد عتمة الخوف والتعب، تزداد خطواتنا تسارعًا مع الانحدار الشديد للشارع الذي لا يخلو من الخطورة على الرغم من قلة السيارات، ترافقنا على طول الطريق دوريّات الشرطة المخصَّصة لحمايتنا وتسهيل مهمّتنا، القمر يُسامرنا، وينثر فضّتهُ على عتمة مياه السدّ الذي عبرناه لنستكمل طريقنا، كالأطفال أراقب ظلالنا على سفح الجبل، تظهر فجأة عند مرور مركبة ما، تبدو ممطوطة بطريقة مضحكة وكأنها لعبة تقفز من صندوق العتمة وتعود لتختبئ بانتظار ضوء آخر يُحرِّرها ولو للحظات لترافقنا من جديد.
وأخيرًا وصلنا إلى "قاعة الشهداء" في الكرك حيث سنبيتُ ليلتنا الأولى. 34كم هي المسافة التي مشيتُها في يومي الأوَّل. ننزل حقائبنا وخيامنا من الحافلة المرافقة، الجميع يشعر بالتعب، يختار كل منّا المكان الذي سينصب خيمته فيه، نقوم بتمارين الإطالة لنريح عضلاتنا استعدادًا لليوم التالي، نتناول طعام العشاء المُعدّ لنا، نوقّع على "إخلاء مسؤوليّة"، أصوِّره وأوقِّعه على عجل، علمًا أنني لم أقرأه إلا بعد شهر من عودتنا! هاجسي هو التمكُّن من مشي المسافة كاملة، يغالبنا النعاس فمعظمنا لم ينل قسطه الكافي من النوم في الليلة الماضية، والسهر مقامرة خاسرة لأنَّ غدًا يوم جديد سنمشي فيه أكثر من 6 ساعات!
اليوم الثاني 19/10/2021
أستيقظُ مبكرًا جدًا قبل الموعد المحدَّد بساعة أو أكثر، أحزم خيمتي وحقيبتي، وأُعِدُّ قهوة الصباح في سخّان كهربائي صغير، أحمل فنجاني وأتَّجه خارج المبنى، أجلس على الدَّرج بانتظار أذان الفجر، دقائق مُكثّفة! لا تساوي مثيلاتها في الزمن! رائحة القهوة، نسائم الفجر الباردة، الهمّة العالية، النشاط الغريب! الهدوء، والحماسة ليوم جديد. نُصَلّي الفجر، نقوم بتمارين الإحماء، ونبدأ المشي قبل شروق الشمس. الروتين اليومي في مسيرة المناخ كان يُشعرني وكأني أقضي أيامًا في "الخدمة العسكريّة!".. روح الفريق، الانضباط، الالتزام بتعليمات القائد والمشرفين، هتافات التشجيع، التعب، الصبر، التحمُّل، الاستغناء عن وسائل الرفاهية المعتادة، وغيرها من التفاصيل التي عشناها بعيدًا عن الروتين ودائرة الراحة التي اعتدناها في حياتنا اليومية.
لكل يوم من أيام المسير طابع ودهشة مختلفة، ما زلنا في الكرك، اليوم الثاني كان حافلًا حقًا، فيه حققتُ رقمًا قياسيًّا، فالمسافة التي قطعتها في يوم واحد كانت 37كم، بينما كانت أطول مسافة لي قبل سنوات هي 27كم.
مرَّة أخرى الجوّ حليفنا، والغيم رفيقنا، نمشي مسافة طويلة دون أن نشعر بالتعب، معدتنا خاوية فوقت الفطور لم يحن بعد، المكان يشحنني بطاقة عجيبة، مغازلةُ شمسٍ كسْلى استيقَظَتْ للتوّ لتداعب بأشعتها الذهبية أشجارًا بعيدة، الأرض حولنا صفحة مفتوحة، كتابٌ؛ فطِنٌ مَن يقرأه. كنتُ أتنفّسُ المكان وأشربه، تمامًا كالماء والهواء والطعام الذي يصبح جزءًا من دمنا وخلايا جسمنا، كل الأماكن التي عبرناها سكنتني وأصبحت جزءًا منّي إلى الأبد. التناوب على حمل العَلَم كان طقسًا محبَّبًا يضاعف من همَّتنا وعنفواننا.
تصوير اللافتات التي تدلّ على أسماء الأماكن على طول الطريق كان ضروريًّا بالنسبة لي، أنا مررتُ من هنا! شعوران متضاربان أُحسُّهُما كلّما زرتُ مكانًا جديدًا في بلدي، الأوَّل؛ دهشة وفرح طفولي غامر، والثاني؛ لوْمٌ وخجلٌ وشعورٌ بالتقصير، "عيب عليّ" كيف يمرُّ هذا القدر من عمري وحياتي دون أن أعرف كل شبر من وطني!
ذيبان، الموجب، لِب، القَصر، الرّبّة، المشيرفة، العين البيضا، القادسية، ضانا، فينان، وادي عربة، قرية رحمة، كل هذه الأسماء وغيرها أصبحت جزءًا من شجرة العائلة لكلِّ واحد منّا.
يحارُ كثيرون عندما يرون الصور التي نلتقطها "وين هاي؟ عنّا بالأردن؟"، نعم.. هنا في بلدي الذي أراه بعينِ المُحب، وأنقله ليعرفه العالم أجمع.
في فترة الظهيرة بدأتُ أشعر بالتعب، ألمٌ شديدٌ في قدمَي، ألمٌ يشبه الحرق أو المشي على جرح مفتوح، غالبتُ الألم حتى حان وقت استراحة الغداء، جلسنا تحت الأشجار، خلعتُ حذائي الرياضي لأتفاجأ بإصابة كلا الكَعبين بفقاعتين نتيجة الاحتكاك جراء المشي الطويل، هذا النوع من الإصابات تكرَّر معي ومع بقية الرفاق؛ وكنّا في كل مرة نعالجه بالطريقة ذاتها: تعقيم الفقاعة بالكحول الطبي، ثم وخزها بدبوس مُعقَّم لإحداث عدة ثقوب، والضغط برفق لإخراج السائل المتجمِّع، ثم تعقيمها مجددًا، ووضع شريط طبي لاصق.
على طول الطريق كنّا نهرب من الإسفلت إلى التراب كلّما أمكَن ذلك، سبحان الله! الأرض أحنُّ علينا بكثير من الشارع المُعبَّد.
على الرغم من حُنوّ الأرض وسخاء الطبيعة كان يؤلمنا أن نرى "عقوق" بعض البشر لهذه "الأم"!
فعلى أطراف بعض الشوارع انتشرت القمامة والمخلّفات، بشكل مُستفز! قطعة واحدة من الزجاج المتكسِّر كفيلة بإحداث حريق كارثي!(3) أنظُرُ إلى الأعلى فأرى بديعَ صُنع الخالق، وأنظُرُ إلى الأسفل فأرى بُؤسَ فِعل المخلوق!
نمشي ونمشي.. ينتابنا الشعور بالتعب أكثر فأكثر، نتحايل عليه بتبادل الأحاديث والطرائف تارة، وبالغناء وهتافات الكشّافة الحماسيّة تارة أخرى. قُبيل الغروب، فجأة يتعثَّرُ انسيابُ المسير، يتجمهر عدد من المشاركين عند سيارة متوقفة على طرف الشارع، تتسارع دقات قلبي فزعًا، وتتقافز إلى عقلي أسوأ الظنون! خِفتُ أن يكون أحد المشاركين قد تعرَّض لحادث! أقتربُ أكثر، يتبدَّلُ هلعي إلى بهجةٍ مُفاجئة! رجلٌ من أبناء الكرك النشامى برفقة ابنته، "أبوخالد" رآنا من بعيد فما كان منه إلا أن توقَّف لشراء الماء والعصير والحلوى، والعودة لنا بسيارته برفقة فتاته الصغيرة ليُلقي علينا التحية، ويُقدِّم لنا الضّيافة في لفتة تقدير كان لها عميق الأثر في معنويّاتنا، وفي تجديد همَّتنا ونشاطنا.
وصلنا مُنهكين إلى معسكر الحسين للشباب في المشيرفة/ الكرك، حيث سنبيت ليلتنا الثانية، ننصِب خيامنا في القاعة، ونتناول طعام العشاء، بعد أن قمنا بالتمارين بإشراف مدرِّبة متخصصة بالتأهيل الرياضي، هذه التمارين التي أصبحت جزءًا ضروريًّا من "روتيننا" اليومي نحرص عليه حتى نتجنَّب الإصابات الرياضية.
اليوم الثالث 20/10/2021
كان فَجرُنا معتادًا، نرتب أمورنا ونحزم خيمنا وحقائبنا، نقوم بتحميلها في الحافلة، لنكمل المسير باتجاه الطفيلة، لكن ما جعل الأمور مختلفة اليوم هو "عقرب على رأسها!".
- انظري هناك
- ما هذا؟
- عقرب.. قتلناه للتوّ.. كان يمشي على قبّعة "تغريد".
- حقًا..! الحمد لله على سلامتكِ، ولكن أين كنتِ تضعينَ قبعتك؟
- على كُرسيّي في "الباص".
شعرتُ بالخوفِ والرهبة! لأني أجلس خلف "تغريد" تمامًا! أخذتُ أقرأ القرآن وأُسَمّي، وأتفقّد حقيبتي وأغراضي، خوفًا من حشرة أو عقرب آخر! إنه لطف الله الذي يجري ونحن لا ندري!
برنامج المسير اليوم يتضمَّن ركوب الدراجات الهوائية لمسافة 30كم تقريبًا في منطقة "نزول سدّ التنّور" شمال الطفيلة، ولأنني لا أتمتَّع بالمهارة الكافية، بقيتُ في هذا الجزء من المسار مع بعض المُشاركات في الحافلة، وكانت تلك فرصة جيدة لأريح قدمي من إصابة الأمس، قبل أن أكمل ما تبقى من اليوم مشيًا على الأقدام مرَّة أخرى، وصولًا إلى مخيَّم النواطف في القادسية/ الطفيلة، حيث نقضي ليلتنا الثالثة.
الطفيلة البهيّة.. أرض الحكايات والأسرار والكنوز الخفيّة، بصمتٍ تناديك.. لتروي حكايا العتَبِ والتّعب.. شامخة الجبين.. لا تلينُ إلا لِكُلِّ قلبٍ مُحِبّ.. كأهدابٍ أمٍّ تبلّلت وهي تلوِّح لأبناءٍ غادروها لطلب رزقٍ بعيد.
هذه الأرض التي لم نؤتها عُشرًا من حقها علينا، أُعاهدها أن أكون صدى صوتها، ومرآة عشقها، لأجعل أفئدة الناس تهوي إليها كما هَويتُها!
صعودًا وهبوطًا في تلال "العين البيضا".. مشهد الجبال، والغيوم التي رافقتنا لليوم الثالث على التوالي، ومَراوح توليد الطاقة البيضاء العملاقة المتناثرة على مدّ النظر، تذكِّرني بمصارعة "دونكيشوت" لطواحين الهواء في رائعة الأديب الإسباني "ثيربانتس"، كلما اتجهتُ إلى الجنوب وشاهدتُ هذه المَراوح؛ أشعر بالفرح.. لطالما تمنيتُ أن تكون هذه الأراضي عامرة بمشاريع وطنية للطاقة المتجددة، ألواح شمسية ومَراوح، تحقق لنا اكتفاءً ذاتيًّا وفائضًا تجاريًّا، فنحن أوْلى بأرضنا وشمسنا وهوائنا.
نواصل المشي في "أم سراب"، نعبر من بين بساتينها؛ نتذوَّق الزَّبيب من كرومها، وثمار الصبّار الشهية، نتحدث مع شاب من أهل المنطقة عن مسيرتنا، وعن التغييرات المناخية العالمية، فيؤكد لنا أنَّ هذا الجفاف وانحباس الأمطار هو "غضب من رب العالمين.. لأنَّ النّوايا ما هي صافية!".
نتوقف لمشاهدة الغروب على المطَلّ في القادسية، لوحة ربّانيّة لا يفيها أيّ وصف، نُجَمّدُ تلك اللحظات المدهشة بمجموعة من الصور التي تُحْيي فينا ذاك الصمت أمام عظمة الخالق كلما رأيناها، وكأنّ طائر الفينيق الأسطوري قد بَسطَ جناحيه المُشتَعِلين ليملأ الأفق نارًا ونورًا!
نستأنف مسيرنا باتجاه مخيَّم النواطف.. يسير المشاركون متباعدين؛ كلٌّ بحسب طاقته واستطاعته، أمشي برفقة "عُلا"، ما تبقى من الطريق كان حكاية أخرى! أيقنتُ كم يحبني الله ليمنحني هذا الخلاص؛ ويغسل روحي من أحزانها، أحبس الدمع في عيني.. لا أريد أن أبكي، أريد أن أشرب هذا الجمال بكل ما أوتيتُ من حواس.. الشفق الأرجواني الموشّى برماد الغيم عن اليمين، وعن الشِّمال شروقٌ لبدرٍ ذهبي عملاق، وأنا.. بين هذا وذاك. تختار "عُلا" أغنية لا أعرفها.. لنسمعها معًا.. "يا قمر.. احكيلي مالك.. متغيّر عليّ.. طب كيف أحوالك"، أمشي وعيوني معلّقة بالقمر الذي أخذ يرتفع في السماء شيئًا فشيئًا.. تمنيتُ لهذا الطريق ألا ينتهي.. أريد أن أمشي إلى ما لا نهاية.. لا أريد أن أتوقف.. خطواتي المسحورة كانت غايتي ووصولي، القمر الآن في وسط السماء أتوقف لأتمعَّن في تلك الهالة الكبيرة التي أحاطت به مثل قوس قزح! الظلام يزيد السماء بهاءً وسحرًا ويزيدني يقينًا وسلامًا.
كنتُ آخر الواصلين إلى المخيَّم بحصيلة 17كم من الجمال الاستثنائي.
اليوم الرابع 21/10/2021
يفرض البرد هيبته في القادسية على الجميع، خاصة قُبيل الفجر، عبثًا أحاول تدفئة نفسي، ألملم أغراضي وسط العتمة بالاستعانة بمصباح الرأس، أجهِّز الحقيبة التي سأحملها على ظهري؛ فمسارنا اليوم وسط الجبال والوديان من قرية ضانا حتى وادي عربة، وهذا يعني أنَّ على كلٍّ منّا حمل ما يحتاجه طوال اليوم، لأنَّ الحافلة لن ترافقنا، أُفكِّر؛ كم يحتاج تجهيز حقيبة "الهايك" للحكمة والذكاء؛ أن تحمل ما هو ضروري لاستمرارك بالمسير، مستغنيًا عن أيّ حمل زائد، كم نحتاج لهذه الحكمة في حياتنا.. ما أكثر الأشياء والعادات والأشخاص الذين يشكلون عبئًا وحملًا ثقيلًا علينا!
يؤرِّقني المصير الذي ستؤول إليه "محميّة ضانا" التي لم تَعُد محميّة! بعد "كابوس" تعدين النحاس. أنظرُ حولي، وأدعو الله أن تبقى ضانا على حالها؛ بهيّة مدهشة، بعيدًا عن دخان المصانع وضجيج المناجم.
الكيلومترات الأربعة الأولى من المسير شديدة الانحدار، تَلقى فكرة استئجار "حمار" لحمل حقيبة الإسعافات الأولية استحسانَ المُنظِّمين، نمشي ونمشي، وصولًا إلى "نُزل فينان البيئي"، نستريح، نصلي، ونتناول الغداء، نواصل المشي في جبال ضانا؛ نقرأ تفاصيلها بتمعُّن؛ نتأمل أشجارها ونباتاتها وصخورها.
تستوقفني زهرة رقيقة نبتت من الأرض في منتصف الدرب بشكل غريب دون ساق أو أوراق! خشيتُ أن يدوسها الفريق دون أن ينتبهوا؛ وقفت أحميها مثل "البودي جارد"! ينتبه لي "زيدان"، يصنع حول الزهرة "سورا" من الحجارة ويقول لي: هكذا سينتبه لها الجميع ولن يدوسوها.
رغم بساطة الموقف لكنه عنى لي الكثير. المسيرُ يعلّمكَ فنّ التعامل مع التفاصيل، متى تتجاهل وتتغاضى، ومتى تتوقف وتتأمل.
شارفَتْ الشمس على الغروب وما زلنا نمشي، قطعنا حتى اللحظة 29كم، يبدو أنَّ بعض الرَّمل قد دخل إلى حذائي، أسألُ "يوسف" قائد المسير:
- كم من الوقت نحتاج لنصل إلى الاستراحة؟
- عشر دقائق.
وقتٌ بسيط (قلتُ في نفسي) سأتحمّل، ولن أقف هنا حتى لا أتأخر عن المجموعة، أمشي بصعوبة، فذرات الرمل على صِغَرها تسببت مع المشي باحتكاك مؤلم في أسفل القدم. أخيرًا نصل إلى مكان الاستراحة "مركز استقبال نزل فينان البيئي"، أتخلّصُ من الرمل العالق في حذائي ولكن بعد فوات الأوان! لقد تسببت تلك الذرات وتلك الدقائق التي مشيتها بحدوث فقاعة جديدة، عالجتُها سريعًا، لكنها بقيت تؤلمني جدًا، الصبر على بعض المشاكل يفاقمها! هذا درس تعلمته ودفعت ثمنه، لأنَّ هذه الإصابة منعتني من إكمال الجزء الأخير من مسار اليوم.
كان التخييم في "مركز زوّار رحمة" وسط الصحراء في وادي عربة.. وعلى مرمى حجر من الأراضي الفلسطينية المحتلة، تجربة مدهشة، المكان له رهبة خاصة، كنّا أول مجموعة تُسجل دخولها رسميًّا للمركز (المبني حديثًا)، طمأنينة غريبة سَرَت في أوصالي على الرغم من هدير الطائرات الحربية الذي كان يشُقُّ سكون المكان.
اليوم الخامس/ الأخير 22/10/2021
نغادر "مركز زوّار رحمة"، نمشي على طرف الطريق بحذر، ونحيدُ عنه إلى الرمل كلما مرّت شاحنة من شاحنات البوتاس الضخمة "المخيفة"! نبدأ نهارنا بهمّة ونشاط، هدفنا بات أقرب، السماء صافية، الغيم رفيق سنفتقده كثيرًا، نتأمل شروق شمس وادي عربة عن يسارنا، كم تبدو ضئيلًا وسط الصحراء، وحدنا وسط هذا المدى الفسيح، لا شيء سوى عَصفِ الشاحنات المُسرعة التي تُقاد ببراعة، ترافقنا كالعادة دوريّة الأمن، نؤنس أرواحنا بهتافات التشجيع والحماسة وبعض أغنيات الكشّافة، نمشي ونمشي، نُريح أقدامنا بالمشي على الرمل على الرغم من أنه يحتاج لمجهود أكبر، آثار الكائنات في الصحراء أحجية رملية مسلّية.. (هذا أثر أفعى، وذاك لخنفساء، ربّما عقرب، أمّا الجَمَل فآثار أقدامه صريحة لا تحتمل التخمين!).
ينتابنا الشعور بالتعب اليوم مبكرًا، الساعة التاسعة، نتوقف عند استراحة شعبية بسيطة على الطريق؛ يوزّع علينا منظمو المسير طعام الفطور؛ نفترش الرصيف، نتشارك مع الكلاب المنتشرة في المكان طعامنا بكل حُبّ. ثم نُكمل، درجة الحرارة ترتفع، والمشقّة تزداد، نمشي ونمشي، نتوقف كل ساعة لدقائق قليلة لالتقاط أنفاسنا وتهوية أقدامنا وللتزوُّد بالماء. نفرح كلما نشاهد لافتة تشير باقترابنا أكثر وأكثر إلى العقبة! نتوقف عند نقطة الجمارك، نستريح قليلًا. ثم نستجمع قوّتنا، لم يبقَ إلا القليل.. نمشي بخطوات مُتعبة لا تخلو من "العرَجِ" أحيانًا!
نصل أخيرًا إلى مدينة العقبة مع غروب الشمس؛ ندخلها "دخول الفاتحين"! نحمل العلم واللافتات "البيئيّة"، ونردِّد نشيد "موطني"، الناس في الشوارع تنظر إلينا بفرح وفضول، وأخيرًا وصلنا إلى (الدُّوّار) إلى قلب مدينة العقبة؛ نقطة النهاية، لقد فعلناها! يتقافز الجميع فرحًا، نتعانق، نُهنئ بعضنا بعضًا بهذا الإنجاز، يحمل المشاركون الكابتن "يوسف" قائد المسير ويرمونه في الهواء احتفالًا بالوصول! يختلط الفرح بالدموع. نهاية المسيرة.. بداية جديدة لأشياء كثيرة..
• الهوامش:
(1) مطلع قصيدة محمود درويش "سأقطع هذا الطريق".
(2) "مسيرة المناخ 5" تنظّمها جمعيّة الجيل الأخضر بالتعاون مع "آكشن إيد" المنطقة العربية؛ من عمّان إلى العقبة مشيًا على الأقدام للمرَّة الخامسة على التوالي بفريق مكوَّن من 30 مشارك ومشاركة، وتأتي هذه المسيرة تحت عنوان "استجابة الشباب الأردني للطوارئ المناخية" وتهدف إلى تسليط الضوء على قضية التغيُّر المناخي وآثارها السلبية على كوكب الأرض.
(3) تعمل قطعة الزجاج على تجميع الضوء وتبئيره أو تركيزه (مثل عمل العدسة)؛ ممّا يسبِّب إشعال حريق في الأعشاب الجافة.