ناجح حسن
كاتب وناقد سينمائي أردني
اتَّسمت أفلام الحقبة الجديدة من نتاجات السينما الفرنسيّة بالتَّباين، حيث الحضور البارز لعدد من بين أفضل الاشتغالات ذات الطبيعة البسيطة، والبعيدة عن البهرجة والمؤثرات البصريّة والإبهار المجاني، وتنوَّعت بين الكوميديا والرومانسيّة والواقعيّة الطافحة بتلاوين العيش اليومي تحت وطأة الحياة التقليديّة والأرستقراطيّة، وغالبًا ما كانت موضوعاتها تتمحور حول أفراد وجماعات إلى جوار تعدُّد حالاتها ومجاميعها بين العيش على الهامش أو بوصفهم شخصيّاتٍ تتماهى مع إيقاعات الحياة اليوميّة.
تؤكِّد أعمال السينما الفرنسيّة التي أنجزت في العقدين الفائتين على سمات جديدة، حادت فيها عن التيارات الدارجة التي صاغتها قدرات صانعيها الأفذاذ من حملة لواء تيّار "موجة السينما الفرنسيّة الجديدة"، حين استطاع هؤلاء الشباب الجدد الانفلات من دائرة القضايا والنظريات والأشكال، التي بشّرت فيها تلك الموجة عبر أقلام النقاد والباحثين والمؤرخين والمفكرين، مثلما ألهمت الكثير من صنّاع الأفلام ليس في فرنسا فحسب وإنَّما في أرجاء المعمورة.
وكانت النتيجة أطياف بديعة من الاشتغالات السينمائية المبتكرة والفريدة والمُثيرة للاهتمام، وتركت انطباعًا حسنًا أمام المشاهدين والنقاد، تمكَّن بعضهم عبرها من كسر دائرة أحكام وقواعد العرض والتوزيع السائدة، ووجدت لها مكانًا رحبًا في أسواق السينما العالمية، وجاءت بموضوعاتها الدرامية وأساليبها الجمالية متعة بصرية حاكت ملامح واقعية، ورسمت شخوصها في لجّة من الانفعالات والأحاسيس، التي كانت تدور أحداثها حول أسئلة العيش المشترك والعزلة والإرهاب والجريمة وتنويعات حول مصائر الإنسان المتعدد الثقافات في وحدته سواء داخل البيت أو في ساحات الحرب أو في الشارع أو في العمل، فضلًا عن علاقاته مع الآخرين في محيطه الاجتماعي والسياسي.
جرى تقديم تلك الأفلام وفق بناء درامي محكم تتصاعد فيه الأحداث في قوالب من البساطة والتجريب المفعم بالمجاميع والغناء والموسيقى والألوان والشعر والرسومات الآتية من هويّات لجماعات إنسانية بعضها منبوذ ومهمَّش ومحبَط ومُثقل بالمعاناة جراء مرارة الواقع والاستغلال، وبعضهم الآخر في اضطراب أو أسير تناقضات الذات، ومن داخل هذه الشرائح، برزت جهود المخرج "جاك أوديار" وزميله المخرج "جان شنايل" المميزة، التي جرى تقديمها في شكل معاصر تارة، وتاريخي تارة أخرى، عاينا فيها جوانب من العنف الشاعري المليء بالخراب والموت والدم، إلا أنها ظلّت مجتمعة تنادي بالدفء والهدوء والسلام الداخلي، وهي تنبض بالحب وتتمسك بحافة النجاة والأمل، عوضًا عن السقوط والتلاشي والضياع.
كما واتَّسمت أفلام هذه الحقبة الجديدة من نتاجات السينما الفرنسية بذلك التباين، حيث الحضور البارز لعدد من بين أفضل الاشتغالات ذات الطبيعة البسيطة، والبعيدة عن البهرجة والمؤثرات البصرية والإبهار المجاني، وتنوّعت بين الكوميديا والرومانسية والواقعية الطافحة بتلاوين العيش اليومي تحت وطأة الحياة التقليدية والأرستقراطية، وغالبًا ما كانت موضوعاتها تتمحور حول أفراد وجماعات إلى جوار تعدُّد حالاتها ومجاميعها بين العيش على الهامش أو بوصفهم شخصيّات تتماهى مع إيقاعات الحياة اليومية، فهناك المرأة العاملة والزوجة والباحثة عن ملجأ جراء الشعور والإحساس بالرتابة والملل، وهو ما نجحت في التعبير عنه أفلام لافتة متباينة الطول منها: "مذاق الآخرين"، "الشيفرة المخفيّة"، "إميلي"، "اقرأ شفايفي"، "خارج الزمن"، و"الكورس"، وغيرها كثير.. جميعها نتاجات مميزة نالت استحسان النقاد ونافست بقوة على جوائز المهرجانات الكبرى كونها طرحت بشكل لا لبس فيه أسئلة جريئة حول هموم وآمال تنبش في دواخل النفس البشرية محمَّلة بالأنين والتعب والشقاء اليومي، دون أن تنأى عن إضاءة محطات من سيرة الشغف والبهجة، في عناق مع صنوف الإبداع الأخرى، بدءًا من الرؤى والسرديات الأدبية والفلسفية، مرورًا بالأداء التمثيلي والإدارة المحكمة لطاقم العمل، وصولًا إلى تلك التعابير الموسيقية والتشكيلية.
طرح فيلم "بفضل العناية الإلهية" لـِ"فرانسوا أوزون"، جملة من الأسئلة الحرجة ذات الطابع الاجتماعي، التي باتت تعصف بالمؤسسة الدينية في فرنسا، وذلك عبر قصة كاردينال يواجه تهمًا بالتستُّر والتواطؤ على حالات من الاعتداء على فتيان قاصرين منذ سنوات طوال، حاول فيه المخرج صوغ حكاياته الجريئة داخل بناء درامي بسيط يفتقد الإحساس بالجوانب والأبعاد المحيطة بدواخل الشخصيات وما تنطوي عليه من بناء درامي محكم يحتكم إلى المفاهيم الأخلاقية والدينية، التي تحتِّم تصوير تناقضات ومفارقات العوامل النفسية في أقصى انحرافاتها، فضلًا عن آلية احتكامهم إلى منصة القضاء، وما تفيض به من تفسيرات واتهامات؛ لكنّها للأسف حضرت وهي تخلو من الجديّة والعمق اللتين سارت عليهما أفلام "أوزون" السابقة.
"ضابط وجاسوس" فيلم فرنسي آخر، من توقيع المخرج "رومان بولانسكي" حاصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا، بوصفه أكثر الأفلام اكتمالًا بين أفلام المسابقة، وفيه يجري تناول مرثيّة عن الذات، محمّلة بإدانة للاضطهاد من دون إغفال نقد لاذع للمؤسسات، برز فيه ذلك الشكل الجمالي البديع في توظيف مفردات اللغة السينمائية، على نحو شديد الحضور والإلهام، كأنه يطلق صرخة مدوية تخترق بجرأة واقتدار تلاوين القمع ومؤسساته في انحياز إلى قضايا الإنسان المعاصر ضد صنوف كل هذا العبث، في إصرار عجيب على القتل والتجويع ومصادرة الحريات.
وسرد الفيلم الفرنسي "الغرفة" لمخرجه "كريستيان فولكمان"، على نحو سمعي بصري فطن بليغ الإشارات والدلالات، ظواهر من مناخات أفلام الرعب التي كانت تدور في العصر القوطي، وخصوصًا تلك التي دارت أحداثها في قصور معزولة وسط الأحراش والغابات، حيث تكون مسكونة بالأرواح، وما إن يحلّ الليل، حتى تبدأ المفاجآت المحمّلة بعناصر الإثارة والدهشة، تتدفّق من الغرف المنسيّة المغشيّة بالظلال، والشاهدة على أعاجيب من حراك الأجساد، ثم لا تلبث أن تتحوَّل إلى أكثر من ثيمة مفعمة بالهواجس والأفكار المثيرة للجدل، كل ذلك على ضفاف من إيقاعات تسري على ضفتي الخيال المصحوب بالتشويق والإثارة، والعنف الشاعري في صلة مع واقع مسكون بأسئلة وأحداث الماضي.
حظي فيلم المخرج الفرنسي "كلود ليلوش" المخضرم المعنون "أجمل سنوات العمر"، بإقبال واسع من النقاد وعشاق السينما، أعقبه مساحات واسعة من مظاهر الإعجاب التي لا تخلو من إثارة الجدل، كرَّس فيه مخرجه ثباته على استدعاء أحداث بسيطة من مخزون ذاكرته، جرى تصويرها في إطار من التوق والحنين إلى ماضٍ قريب مجبول بالأحداث الجسام، استدعى فيه أجواء فيلمه الشهير "رجل وامرأة" الذي غدا من بين أجمل كلاسيكيات الفن السابع، والذي حقّقه في العام 1966.
عن عوالم العزلة، والخيار الطوعي للانطواء، حضر فيلم "في غابات سيبيريا" للمخرج "صافي نيبو"، أشبه بمحاولة النأي عن هذا العالم المتخم بالتعقيدات والإشكاليات الإنسانية، التي تسد طريق الفرد في اختيار لحظة من الصفاء الإنساني والبحث عن ملاذ آمن في الطبيعة الخلابة في هذا العالم المعاصر، بغية الانعتاق والتحرر من أمراض وصخب المجتمع، كأنه يصور حالات سايكوباتية للذات في مشوارها الطويل داخل رحلة البحث عن المطلق والهروب من ضجيج المجتمع، كل ذلك يجري تصويره من خلال بناء درامي محكم لسيناريو دقيق فتّان بلقياته الممتعة الفريدة، مثلما يزخر بالألوان وتضاريس الطبيعة والموسيقى الخلّابة القويّة التأثير أمام قسوة ووحشة المدينة المعاصرة.
من ناحيته اختار المخرج "لادج لي" عنوان السِّفر الأدبي الفرنسي المعنون "البؤساء"، عنوانًا لفيلمه المثير للإعجاب والجدل، لكن بعيدًا عن مناخات الرواية الذائعة الشهرة والصيت لأديب فرنسا "فيكتور هيجو"، فهو يسلط الضوء على أحداث العنف التي تعصف بالضواحي الباريسية التي يقطنها أغلبية من البسطاء والمهمَّشين والمهاجرين.. وفيها يجري تصوير العنف المتبادل بين تلك الفئات والشرطة، دون أن يغفل عن الإشارة إلى تصوير تلك الفئة من المتطرفين والمتشددين وحراكهم الذي يكاد يغطّي شوارع باريس التي تضجّ بالحيوية والجمال والهدوء، وتنوع الثقافات، إلا أنها تظل على سطح صفيح ساخن من الاحتقان والكراهية والغضب المشحون بالتوتر الذي يشي بأحداث جسام.
دراما الأسرة لها حصة وفيرة من نتاجات السينما الفرنسية الجديدة، القادمة على متن كوميدي وواقعي تارة، وملحمي تارة أخرى، فتّان في لحظات صعود وهبوط شخوصه المجبولة بتحولات العلاقات بين التماسك والتفسخ والأحداث الرومانسية، التي تنبش في وجدانيات ومصائر مشرعة على خصومات وحوارات ومواقف مليئة بأوجه الحيرة والقلق وهوس التفكير في مستقبل يرنو إلى الأفضل، مثلما توضّح في الوقت ذاته مدى تنامي مسألة التباين بين الأجيال أو الخوف من تخطّي خريف العمر، كل ذلك يسري في بوتقة من الدفء والحنين تتنقل بين جدران البيت وأسوار المدرسة والجامعة على نحو فطن ومميَّز في رسم البناء الدرامي للعمل أو في قوة أداء الممثلين وحضور طاقم الفيلم التقني، وهو ما منح تلك الأعمال التوهج والألق البديعين في قالب إنساني مؤثِّر، وهو ما جعلها ندًّا لافتًا أمام سطوة النموذج الهوليودي السائد.
لقد أثْرَت مجموعة أفلام المُخرجين: "أوليفيه داهان" و"أليفر أساياس" و"أكزافييه بوفوا" و"إيريك توليدانو" و"أوليفير ناكاس" و"كلير ديديس" و"جاك أوديار" و"ليوس كاراكس"، جملة اشتغالات التيار الجديد في السينما الفرنسية بتلك المشاعر المُرهفة والإنسانية في تجسيد رؤى وخيالات تتحسَّس وقائع متباينة مثقلة بالقصص والحكايات الخصبة بالمفارقات والاشتغالات السمعية البصرية، الآتية من اقتباسات أدبية وسير ذاتية وأسفار من الرحلات المليئة بالمفاجآت والأحداث الجسام، وكثيرًا ما كانت ترمي إلى الاشتباك مع هموم العمل الصحفي؛ محنته وكيفية التواصل مع العالم الخارجي وهي تنشد التفاعل مع وجدانيات عابقة بالحب والتعاطف الإنساني الأثير في مكنوناته وصدماته على الذات البشرية، بعضها سار وفق بناء درامي كلاسيكي، وبعضها الآخر سار ضمن منحى مأخوذ عن سيرة ذاتية وعملية لمغنين وموسيقيين؛ منهم مَن هو ذائع الشهرة والصيت، ومنهم الذي ما يزال يصعد سلَّم الشهرة.