د. هاني حجاج
كاتب مصري
هذا هو سرُّ "صلاح أبو سيف" بكل بساطة؛ إنه ينقلكَ بسرعة ودون أن تشعر إلى جوّ الفيلم الذي يقدِّمه، إنه يستطيع أن ينتزعكَ من نفسكَ لتعيش في العالم الذي يهندس لكَ كل تفاصيله على الشاشة؛ الفضيلة الفنيّة ذاتها التي تجدها في روايات (محفوظ) ومسرح (الريحاني)؛ أنتَ تجد نفسكَ مُتابعًا للغة سينمائيّة عالية وتفاصيل دقيقة مشوِّقة ووضوح فكري شامل دونما تحذلق أو ابتذال.
في الفترة من 1946 وحتى الآن تمَّ تأسيس سينما تتميَّز بمصداقيّة أكبر عن السائدة قبلها استحقت أن تكون (الواقعيّة) عنوانها، وأن يكون أبوسيف رائدها، لعلَّ الأمر بدأ فعليًّا في (العزيمة) 1939 الذي أخرجه كمال سليم بمساعدة صلاح أبوسيف، إلا أنَّ كمال سليم نفسه لم يواصل تيّاره الواقعيّ وانتهى خلال ست سنوات فقط إلى فيلم غريب عنه اسمه (ليلة الجمعة) 1945، لكنَّ أبوسيف بحكم تكوينه الفكري ووعيه السياسي الناضج وقدرته العظيمة على تحليل العلاقات في المجتمع ظلَّ مثابرًا مركّزًا على البحث في المضمون الإنساني والمعالجة الواعية النابعة من الصدق في التعبير عن المضمون الواقعي دون الوقوع في فخ النمطيّة أو الاستخفاف بقدرة المُشاهد على الفهم والمتابعة أو إقحام حلول جاهزة لا تمتّ لسياق الأحداث بصلة.
وأرى أنَّ ما فعله "صلاح أبوسيف" بالسينما يقارب ما أنجزه (نجيب محفوظ) في الرواية: هذا الإعجاز الهندسي الذي يتحرَّر من روتين الصنعة بنظام المبدع، فهو ملتزم بأصول المشهد وبفصول الرواية وبالوصول إلى هدف سمعي وبصري محدَّد دونما فذلكة أو تعقيد، ويؤمن صلاح أبوسيف بأنَّ براعة الممثل أو إخفاقه يتوقفان على قدرة المخرج في توجيهه وحسن اختيار الممثل المناسب وأنَّ نصف نجاح العمل يرتبط بمدى التوفيق في توزيع الأدوار وأيضًا في مدى فهم المخرج وإدراكه لأبعاد الشخصية وطريقة تخيُّله لها، وهو هنا لا يتقيَّد بالكتاب على حساب العملية الإبداعية؛ فهو يطلق العنان لخياله، فالأشرار في نظره لهم صورة حيوانات معيَّنة؛ فمثلًا "محمود المليجي" في (الوحش) 1954 كان أقرب إلى الضَّبع، فمن زوايا معيّنة جعل رأسه معوجًّا قليلًا ورسم حركته على أساس أنه يسير في خطوط مستقيمة ولكنها في محاور، و(يوسف شعبان) في (حمام الملاطيلي) 1972 كانت صورته أقرب إلى الثعبان يدور بنعومة ويتكلم بفحيح، أمّا (تحية كاريوكا) في (شباب امرأة) 1956 فارتبطت في ذهن المشاهد بطباع نمرة شرسة شبقة، و(فاتن) كانت (حمامة) وديعة في (لك يوم يا ظالم) 1951، و(جميل راتب) كانت له نظرة ثعلب في (البداية) 1986.
عناصر نجاح أبوسيف -خلاف الموهبة الفطريّة- يمكن إدراكها بيسر؛ فهو مثقف عاشق للأدب والموسيقى والمسرح والنقد، في بيته مكتبة هائلة من الكتب والمراجع السينمائية بالعربية والإنجليزية، فلم يظهر مؤلَّف سينمائي أو كتاب عن هذا الفن إلا وسعى للحصول عليه. بدأ حياته الفنيّة زجّالًا وأديبًا (سوف نلاحظ أنه شارك في كتابة سيناريوهات جميع أفلامه تقريبًا)، وبدأ ينقد الأفلام في الفترة من 1936 إلى 1939 في مجلات مثل (الصباح) و(أبو الهول) و(العروسة)، ثم بعد تخرُّجه في مدرسة التجارة احترف الصحافة حتى وجد أنها لا تشبع ما لديه من نهم فني فاعتزلها، لكنَّ أهله أجبروه على أن يقبل وظيفة في شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، لكنّه تخلَّص منها بعد مواجهات عنيفة معهم عائدًا إلى عالمه الحبيب وظلَّ الناقد الأول لأفلامه منذ عمل في (العزيمة) وأول فيلم مستقل له (دايمًا في قلبي) 1947 المقتبس عن (جسر ووترلو)، فجاء فيلمه الثاني (المنتقم) 1946 نقدًا بصريًا لعمله الأوَّل، وهو أوَّل فيلم يشترك في كتابة السيناريو له مع (نجيب محفوظ) حيث ربطت بينهما علاقة انسجام نادرة أنجبت روائع مثل (ريا وسكينة) و(لك يوم يا ظالم) و(الوحش) و(بين السماء والأرض).
وفي (المنتقم) قدَّم أولى مغامراته السينمائية بذكر أسماء أبطال الفيلم الحقيقيّة (فيما بعد سوف يقدِّم جريمة "ريا وسكينة" عن تحقيق صحفي، وفيلم درامي/تسجيلي عن خط الصعيد (الوحش)، وسوف يُنهي (بين السماء والأرض) بالمخرج يضحك قائلًا: "الحكاية دي أنا شفتها في السينما... ده فيلم من إخراج (صلاح أبوسيف).... اسمه بين المساء والأرض!".
العنصر الثاني لنجاح سينما أبوسيف هو اختياره المثالي؛ انظر إلى أفلامه تجدها تعتمد أساسًا على قصص لأدباء عظام: نجيب محفوظ (القاهرة 30، بداية ونهاية)، إحسان عبدالقدوس (لا أنام، أنا حرة، الوسادة الخالية، لا تطفئ الشمس، البنات والصيف)، أمين يوسف غراب (شباب امرأة)، إسماعيل ولي الدين (حمام الملاطيلي). وانتقاؤه للممثل المناسب دون غيره (زكي طليمات) الجاسوس قارون في (مغامرات عنتر وعبلة)، (كاميليا) الزوجة اللعوب في (شارع البهلوان)، سامية جمال في أفضل أدوارها، كمصرية قادمة من باريس في (الصقر)، (فاتن حمامة) الطفلة الشريرة التي تتعاطف معها في (لا أنام).
كما كان رائد الواقعيّة المخرج صلاح أبوسيف يتميَّز بالجرأة والمغامرة، فتحمَّس للوجوه الجديدة مثل "حمدي أحمد" (محجوب عبدالدائم في القاهرة 30) و"محمد العربي" (أحمد الأناني الساذج في حمام الملاطيلي)، وكان كل منهما في أجمل أدواره على الإطلاق وأكثرها تأثيرًا؛ وسبقت مبادرة (أبوسيف) الجميع، فكان أوَّل مَن قدَّم دراما المكان الواحد (بين السماء والأرض)، وسبق (يوسف شاهين) في التعبير عن هموم الطبقات الفقيرة قبل 67 بوعي سياسي ناضج، ومن مظاهر جرأته تقديم أشكال جديدة على الشاشة (كوميديا الأغلاط في شارع البهلوان، شخصية الشاذ في حمام الملاطيلي)، والتمسُّك بالاعتماد على أعمال أدبية جيدة على الرّغم من قلة شهرتها مثل (الكذاب) لصالح مرسي و(الطريق المسدود) لإحسان عبدالقدوس.
صلاح أبوسيف على خلاف الكثير من المخرجين لا يعاند النص، ولا يستقلّ عنه بأفكار مخالفة فيكون النتاج شاذًا مصابًا بحالة فصام -على سبيل المثال خرج علينا فيلم (الرباط المقدس) خاليًا من العمق الذي وضعه توفيق الحكيم- وهكذا تجد أبوسيف يستوعب مفردات النص المكتوب ويقتبس أدق تفاصيله من روح مؤلفه حتى عندما تأتي لحظة كتابة السيناريو والتصوير رأينا لوحات فذَة معبِّرة؛ في (القاهرة 30) نقل إلى الشاشة الحوار الداخلي في أعماق بطل الرواية الذي ينضح سخطًا وحنقًا وثورة؛ وعبقرية السرد السينمائي في (بداية ونهاية) بدءًا من مقابلات القرب والبعد للأسرة الفقيرة والوسط الأرستقراطي حتى مشهد الختام في تصاعد شحناته البليغة، والحزن النقيّ للسيناريو البديع الذي وضع يده على فلسفة ضياع الحياة في (السقا مات).
إنَّ الكلام عن معالم سينما أبوسيف يطول لكن أهمّها هي عبقرية البساطة التي تجعل من تفاصيل الحياة اليومية المكرَّرة استعارات شديدة البلاغة تحقِّق مبدأ الصورة التي هي أعمق من ألف كلمة، حتى وكأنَّ النص كله يتبلور في مشاهد بعينها! خُذ مثلًا: مرور بائع الروبابيكيا بعد سقطة (نفيسة) في (بداية ونهاية) والكادر المائل أثناء مشهد الاغتصاب الذي تمَّ برغبة منها؛ ظهر جلباب (شكري سرحان) المشقوق في (الزوجة الثانية) وهم يضغطون عليه لتطليق زوجته؛ أحد المارَّة يسحب خلفه خروفًا بينما المرأة تشدّ الريفي الساذج من يده في (الفتوّة)؛ قَرْنا الكبش فوق رأس الزوج الديوث في (القاهرة 30)؛ الأرستقراطي السابق (عبدالسلام النابلسي) الذي ينحشر جسده بين المصعد والجدار حال الارتفاع في (بين السماء والأرض)؛ مشهد انهيار مقرّ قيادة الفرس في (القادسية).
تتميَّز أفلام صلاح أبوسيف بالتركيز على مضمون محدَّد ودوران كافة مقومات العمل في فلك فكرة واضحة: كل شيء في فيلم (حمام الملاطيلي) يعبِّر عن خيبة أمل المهاجر القادم من السويس حاسبًا أنه سيجد القرار في العاصمة، نص (لك يوم يا ظالم) الذي أعاد إخراجه تحت اسم (المجرم) عام 1978 يركِّز على فكرة الخيانة والصراع النفسي في باطن الخائن. عناصر (الأسطى حسن) موجَّهة نحو موضوع واحد هو غواية حسناء لعوب لعامل من بولاق. لغة الأيدي تلخص حالة الحيرة في قلب بطل (الوسادة الخالية). كما أنه -كأفضل ما يكون- يخلق حالة من الرضا في نفس المُشاهد؛ بينه وبين نفسه في مواجهة القضية الأخلاقية، وبينه وبين عناصر الفيلم فيما يتعلق بكافة الأمور الخارجية والفروق النسبية. المُشاهد يُفاجأ بالملاك الرقيق (فاتن حمامة) في دور (نادية) في (لا أنام) وقد تحوّلت إلى شيطانة صغيرة تثير الفتن، لا بد أن تمقتها، لكنَّ نهاية الفيلم تأتي بعدالة شاعريّة ليحترق وجهها ويصفح عنها الجميع. النظرة المحايدة ذاتها (الواقعية) تراها في تحفته (القاهرة 30) فلا يمكنك أن تلقي باللوم كاملًا على الزوجين وحياتهما الشاذة دون أن تواجه ضميرك مشاهد البداية من الوسط الذي تربَّت فيه (إحسان شحاتة) والضياع الشامل لـ(محجوب عبدالدائم) حتى أنَّ التفاصيل الخاصة بكلامه وأدائه لا تخلق تنافرًا، بل تجعلك تتعاطف -ولو إلى حين- مع شخصيته المضطربة وقد تعفو عنه ويكون دليل البراءة هو أن لا حيلة له في نفسيّته المختلفة المختلّة، هذا التسامح غير المنتظر فوجئ به "حمدي أحمد" ممّا دفعه إلى زيارة (نجيب محفوظ) صاحب الرِّواية ليتيقَّن منه: هل كان (محجوب) شخصًا بغيضًا بالفعل؟
تعرَّض صلاح أبوسيف للنقد أكثر من مرة، قالوا إنه نقل فيلمه الأوَّل (دايمًا في قلبي) وفيلمه الرابع والعشرين (رسالة من امرأة مجهولة) بالنص من الفيلم الأميركي (جسر ووترلو) والمسرحية الفرنسية (مدام إكس) بنسختها السينمائية الأميركية بطولة (جوان فوانتين) عن قصة الأديب الكبير (ستيفان زفايج). (موسي صبري) يري أنَّ أبوسيف علَّق نفسه (بين السماء والأرض) في الفيلم الذي يحمل الاسم ذاته عندما كسر حاجز الإيهام في نهاية الرواية السينمائية. كذلك قيل إنَّ مشاهد العري كانت أكثر من اللازم في (حمام الملاطيلي) وإنَّ مضمون النص الفاضح الكاشف لا يبرِّر طول اللقاءات العاطفية وتفصيلها على النحو الذي ظهرت به وبشكل خاص بين القروي الوافد وابنة الحارة المتهتكة؛ كذلك قوبل بانتقاد عنيف لاستغلاله شهرة الثنائي (حسن يوسف) و(شمس البارودي) في وقت ما لإعادة إنتاج فيلمه (لك يوم يا ظالم) بعنوان (المجرم)، فخرج بصورة باهتة لم تقدِّم جديدًا، بل وبدأت تؤثر على الصورة المركَّزة العميقة في نسخته بالأبيض والأسود. وقيل إنه حشر الكثير من الصور الفولكلورية في (الزوجة الثانية) ممّا انحرف بالفيلم عن رؤيته الواقعيّة لقرية مصرية. وفي (القضية 68) كان حواره مسرحي فجّ، ثوري المضمون ضعيف من الناحية الفنيّة. أمّا الديكور الداخلي في (الكدّاب) فكان غير مناسب لبيوت حارة مصرية فقيرة.
لقد ظُلمت سينما أبوسيف مرّات عديدة، نذكر منها مثلًا تزامن عرض فيلمه (لا وقت للحب) مع فيلم (الناصر صلاح الدين) الذي استحوذ على كل الاهتمام على الرغم من أنَّ (لا وقت للحب) فيلم جيِّد له طابع خاص يستند على قصة لطيفة ليوسف إدريس ولعب بطولته كل من (فاتن حمامة) و(رشدي أباظة) و(صلاح جاهين)، كما حرم من المساحة النقدية اللازمة ربّما لغرابة أحداثه نوعًا ما وسيناريو (لوسيان لامبرت) الجديد على الذائقة النقدية العربية.
أيضًا قيل إنَّ فيلمه (أنا حرة) يتّخذ في عدة مواضع انحرافات غير منطقية، فلماذا أصرّ أن يُدخل بطلته الجامعة الأميركية على الرغم من أنه يقول على لسانها إنَّ سكان العباسية جميعًا في جامعة القاهرة. وهي تؤثر الفرار، وهذا يعارض طبيعتها التي تتميز بالإصرار والتحدّي على نيل حقوقها. أمّا الردّ على ذلك فهو أنَّ أغلب النقاد لا يؤمنون بأنَّ واقع الإنسان ذاته لا يخلو من تناقض غير واقعي، (ولعلَّ اختيار الجامعة الأميركية كان مجاملة للممثلة لبنى عبدالعزيز التي تخرَجت منها فعلًا!).
وأيضًا لوحظ أنَّ (أبوسيف) من فرط دقته في نقل العمل الروائي للشاشة نسخ أيضًا مقدِّمات القصص، سوف ترى هذا بشكل واضح في الأفلام التي أخرجها عن روايات لإحسان عبدالقدوس تحديدًا؛ (أنا حرَة) يبدأ كالتالي: "ليس هناك شيء يسمى الحريّة، وأكثرنا حريّة عبدٌ للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الذي يسعى إليه"، وفي أوَّل لقطة من (الطريق المسدود) 1957 "الخطيئة لا تولد معنا ولكن المجتمع يدفعنا إليها"، وسوف تبدأ أحداث (الوسادة الخالية) 1957 بعبارة "في حياة كل منّا وهم كبير اسمه الحب الأوَّل"، فما معنى هذا؟ وما المقصود به؟ هل هو مساعدة المتفرِّج في فهم أحداث الفيلم؟ على العكس، هذا يخلّ بالاهتمام ويقدِّم العبرة جاهزة، بينما يُفترض أن تتكشَّف للمُشاهد بالتدريج، فحتى قصص الأطفال يكتبون الدروس المستفادة منها في نهايتها!
قام صلاح أبوسيف في بداية حياته بمونتاج فيلم (العزيمة) لكمال سليم، ثم رُشِّح لدراسة السينما في باريس، ولكن قامت الحرب فلم يتحقق الحلم، وقبل أن يصوِّر فيلمه الروائي الأول عام 1945 حقّق عددًا من الأفلام التسجيلية منها فيلم (المرور في الإسكندرية) وآخر عن ضجيج العاصمة بعنوان (سيمفونية القاهرة) وفيلم عن البترول، وفي عام 1963 أصبح مديرًا لمؤسسة السينما في مصر لمدة ثلاثة أعوام. ويقول (أبوسيف) عن نفسه: "نشأتُ في وسط فقير، لذا كانت تجذبني الاشتراكية. كانت شيئًا جديدًا ممنوعًا. وحاولت أن أفهم كل شيء عن الاشتراكية وكيف يمكن أن تتحقق العدالة في العالم... وكنت أسعى لمعرفة كيف يستطيع الفيلم السينمائي أن يخدم المجتمع. كيف أستطيع أن أكافح الفقر عن طريق السينما... أردتُ أن أحقق أفلامًا عن الحياة التي أعرفها. عن الشخصيات المصرية الحقيقية"... على ضوء هذه العبارة المحوريّة يمكننا فهم جانب كبير من رؤية (أبوسيف)، ومع تذكُّرنا لعشقِه للسينما سوف نرى أنَّ أغلب أفلامه تتميَّز بترابط محكم بين التوظيف الأيديولوجي والترفية، بين الموقف التحليلي والدراما الشعبية والتصوير السياسي والاجتماعي والتاريخ الدقيق المحكم لكل موقف مصيري ولكل مشهد في الحياة. فضلًا عن الإيقاع السريع العنيف أو السرد الحيوي المرح. وشغفه بالواقعيّة جعله ينقلها من الحياة ذاتها؛ فصوَّر (خط الصعيد) و(ريا وسكينة)، وحتى فيلمه (الفتوّة) يعتمد على قصة حقيقية لتاجر خضار قاهري تمَّ قتله بأمر من الملك وسبّبت الحادثة فضيحة مدوية، ويقول (أبوسيف) عن ذلك: "كانت تلك من أهم المشاكل في القاهرة ومصر كلها، مشكلة تمسّ غذاء الشعب... وكانت أثمان الخضار ترتفع بشكل فاحش، فما يُباع بقرش أصبح بعشرة وبعشرين... وكان الملك بالطبع يملك أجزاءً شاسعة من مزارع الخضر، وكان يسرّه ارتفاع الأسعار ويساهم في المضاربات... لقد وجدتُ هناك، في السوق، كل ما أحتاج إليه في الفيلم، حتى الشخصيات، وأعتقد أنَّ هذا هو الأساس الذي ارتكز عليه نجاح الفيلم". وقالت الناقدة الألمانية "أريكا ريشتر" عن "صلاح أبوسيف" في كتاب (الواقعية في السينما المصرية): "صلاح أبوسيف هو أستاذ الأفلام الواقعية في مصر وتعتبر أفلامه العمود الفقري لهذا الاتجاه، تلك الأفلام التي نستطيع من خلالها دراسة أهم المواضيع والأساليب والحلول الفنية التي يلجأ إليها الفيلم الواقعي في مصر للقضايا التي يواجهها ويتصدَي لها...".
لقد استطاع أبوسيف أن يواجه الأفلام (اللاواقعيّة) التي تنتجها هوليوود الشرق بأفلام ذات مضمون شعبي وإنساني- اشتراكي، وأصبح بذلك سندًا ومحرِّضًا وممهِّدًا للسينما المصريّة التقدميّة.