قصة: محمود الريماوي
قاص وروائي أردني
فوجئت السيدة (د) بذكاء السلوقي وشهامته، ووقفت تغالب الضحك الهانئ، وتتابع منتشية مشهد الفتك بالطَّيرين، وقد استغرق المشهد بضع دقائق، قبل أن تسارع عاملة البيت إلى رفع بقايا الطيرين بحذر، وإلقائها بألم في حاوية القمامة.
وفي الأصل فإنَّ السيدة (د) تحبُّ الطيور والحيوانات الأليفة حُبًّا جمّا. في وحدتها تَأنسُ بها. تأنسُ بها أكثر من أنسها بالبشر خاصّة النساء. لديها أربعة أقفاص كبيرة تضمُّ أنواعًا شتى من الطيور. تضعها قريبة بعضها من بعض حتى لا تشعر الطيور بالوحشة، وكي تتبادل التغريد ما بينها. ويحدث أن تتخلّى السيدة عن بعضها حين تهرم هذه الطيور، أو تصاب بأمراض لا شفاء منها، ويحدث أن تطلق السيدة سراح الطير القديم المُسِنّ كي يتجوَّل في البيت.
تتماشى محبَّتها للطيور مع رومانسيّتها المفرطة والمُعلنة، فالطيور أرقّ الكائنات وأصواتها لا تُضاهى. ولطالما وقفت السيدة أمام كل قفص وأصدرت أصواتًا مُمَوسَقة، وأجابها طير أو أكثر بتغريدات عذبة.
مع عمليات التبديل للعصافير والطيور، فقد استقرَّت السيدة على اختيار طيور الحُبّ فقط. جاءت بها صغيرة وأخذت تطعمها بيديها الخسَّ والخضروات، وفي فصل الصيف العنب والتين، وفي جميع الفصول الحبوب الخاصة بها. تغسلها بيديها بمساعدة عاملة البيت. وتُخرجها بأقفاصها إلى حديقة البيت كي تتشمَّس، وتتنسَّم هواءً نظيفًا مع مرئيّات جديدة.
بشرائها زوجًا صغيرًا من طيور الحُبّ باللون الأصفر المخضرّ، وبلون المنقار الأحمر لكليهما، فقد أحسنت استقبال زوج الطيور، وأوصت عاملة البيت بحُسن التعامل مع الطيرين. في اليوم التالي غرَّدت لهما، ولدهشتها فلم يبادلاها تغريدًا بتغريد. وكذا في اليوم اللاحق فقد أعرضا عنها. كانا يتبادلان الحب ويغرِّدان أحدهما للآخر، وليس لها خارج القفص. صُدمت السيدة (د) وأعتمت، وبخاصة بعدما لاحظت أنهما يشرعان في التغريد ما إن تبتعد عنهما. وقد سطعت لحظتها فكرة باهرة في رأسها، مفادها أنَّ الكلب هو وحده الجدير بالثقة والاحترام.
فإلى جانب الطيور في أقفاصها، فقد امتلكت السيدة كلبًا جميلًا مُرقّطًا ومبرقشًا، باللونين الأبيض والأسود. نسخة كلبيّة من الحمار الوحشي. كلب سلوقي رشيق نشط متوسط العمر، وشرس حين توجِّهه السيدة نحو هدفٍ ما: زائر غير مُستحبّ، أو طارق غريب يقف عند بوابة البيت. يرافق الكلب السيدة في بعض مشاويرها، وله مكانه في سيّارتها خلف مقعد السائق، بجانب النافذة الخلفية. الكلب السلوقي هو الحارس الأمين والدِّرع الحامي والمُرافق اللّصيق والصديق الصَّدوق.
تعطف السيدة على الكلب المنزوع من أسرته، وليس لديه مَن يرعاه سواها، ولو تخلَّت عنه فسوف يلاقي مصيرًا مظلمًا. يدرك الكلب المشاعر الودودة لسيّدته، ويقعي قرب قدميها كطفل يتيم يجد في سيدته أمّه وأباه ورفيقته. عاملة البيت التي تتقيَّد بتعليمات سيدتها تغار منه، إذ يلقى حظوة أكبر ومعاملة تفضيلية، وتخدمه العاملة بتفانٍ وإخلاص كما تخدم السيدة.
تعتاش السيدة -وهي أرملة جميلة- من أجرة بيوت ومحلات تجارية تملكها ورثتها عن الزوج المرحوم الثريّ، إضافة إلى راتبها التقاعدي؛ فهي مديرة سابقة في مؤسسة كبيرة. وهي تنفق بسخاء على الكلب والطيور، كما تنفق على عاملة البيت، وعلى ضيوف مختارين أكثرهم من الرجال.
الكلب السلوقي الجميل الذي لا نظير له، أطلقت عليه اسم "وِتْر". وقد اقترح الاسم عليها رجل لغوي شديد التدقيق في أسماء الكائنات، وصديق قديم للعائلة. راق لها الاسم الخفيف الرشيق مما يتناسب مع رشاقة صاحبه. في مرة لاحقة أخبرها اللغوي أنَّ اسم "وِتْر" خلافًا لأيّ انطباع آخر عن الاسم، فإنه يعني الشدّة والبغضاء. وقد فاجأتْه بالقول: "لم لا؟ فلا بد للكلب أن يكون مِقدامًا قويّ الشكيمة، ويبغض مَن تبغضه سيدته". بينما راق لها في دخيلتها أنَّ كلمة "وِتر" ذات شبه كبير بكلمة waiter الإنجليزية الدالة على مَن يقف على خدمة الزبائن في الفنادق والمطاعم والمقاهي.. فليكن إذن مزيجًا من هذا وذاك، ليكن نادلًا قويّ الشكيمة، تستعين به في المُلمّات كما في قضاء الحاجات.
بعدما ألف الطائران سيدتهما أخذا يغرِّدان لها ويطرباها، طالما هناك ضوء في أرجاء الشرفة. لكن السيدة صاحبة القلب الجريح وقد استذكرت حبًّا سابقًا فاشلًا، لم تغفر لطيور الحب امتناعهما السابق عن التغريد لها. وهالها أنَّ لديها طيور حب، تتبادل المسرّة ما بينها، فيما هي تحيا خريف العمر من دون حب مثل شجرة عزلاء في العراء.
حاسة الشمّ القويّة والمعهودة لدى الكلب، تحوَّلت بقوَّة خفيّة إلى شمّ المشاعر في القلب والأفكار في الرأس، وقد انتقلت إليه بدافعيّة معلومة يسهل إدراكها، مشاعر سيدته تجاه الطيرين. فأخذ "وتر" يتحيَّن الفرصة ليوقع بهما، وما إن فتحت لهما السيدة باب القفص الجميل ذات صباح يوم ربيعي، وما إن تقافزا خارجه ببعض التثاقل.. حتى كان "وِتْر" يدوس بكامل قدمه الأولى أحد الطيرين، ويضغط بالقدم الثانية على جرم الطير الثاني، وهو يزمجر بصوت يُبشِّر فيه الكائنين الضعيفين بنهايتهما الوشيكة، فيما أذهل ذكاء "وِتْر" السيدة وجعلها مفعمة بالنشوة، أجل.. ذكاؤه ومسارعته للانتقام لها، أمّا عاملة البيت الآسيوية الشابة فقد وضعت يدها على فمها كاتمة فزعها، وهي تتراجع خطوتين إلى الوراء أمام هول المشهد، قبل أن تنحني وتقوم بواجبها في تنظيف المكان من الدِّماء والريش، متفكّرة في تلك الأثناء أنه يتعيّن عليها نيل رضى "وِتْر" المُبجّل الوسيم بأية طريقة، وأن لا تكتفي برضى سيدتها عنها، هذا إن كانت بالفعل راضية عنها، إذا رغبت العاملة بالبقاء في وظيفتها، وحتى البقاء على قيد الحياة..