قصة: عزة دياب
كاتبة مصرية
عتبات الدَّرَج حجريّة، عالية، الإضاءة المنبعثة من المصابيح المتدلّية من سلك الكهرباء المثبت على الجدران المملّحة بالقرب من السقف الخشبيّ الواطئ تمنحها اتساعًا، بَسْطة عريضة تليها الدَّرجات تستقبل خطواتي بنعومة، تغريني بالتخلي عن الحذاء والجوارب، ألمسها بقدمين حافيتين وجلد مقشعرّ وأنف مزكوم من رائحة الرطوبة، شعرتُ أنَّ الدَّرجات خشنة أو ساخنة أو باردة أو كل ذلك معًا.
شعرتُ بالخشونة حين سمعتُ قرقرة ماكينة الخياطة وأمي منكفئة عليها، كلّما انقطع الخيط تمدّ أصابعها تحت الغطاء المعدني في مقدمتها، تسحب خيط المكّوك الصغير وتسحب طرف الخيط الآخر من بكرة الخيط أعلاها، تلضم الإبرة، تدير يد الماكينة بيدها اليمنى وباليسرى تحرِّك القماش تحت سنّ الإبرة، كانت تحلم بماتور لها، فماكينتها عبارة عن رأس معدني بقاعدة خشب تضعها فوق الطبليّة أثناء الخياطة، ترفض استبدالها بماكينة "براجل" قائلة: "مكنتي (سنجر) أصليّة عدّتها حديد، مكن الأيام دي عدّته بلاستيك"، تقطر لها زيت مخصوص تأتي به من الدكان الوحيدة في البلدة المتخصصة في تصليح ماكينات الخياطة، تزيّتها كل ليلة على أمل تخفيف صوت قرقرتها التي كانت تغطّي على صوت الراديو وعلى أصواتنا، فلا يسمع بعضنا بعضًا في سطوة شدوها. يصرخ عمّي الكبير من الحجرة المقابلة حيث يقيم مع أسرته ويطلب إسكاتها فهو يستمع لأغنية عبدالحليم "أي دمعة حزن لا" في التلفزيون، فقد كان عمّي أوّل مَن أدخل التلفزيون ماركة "فيليبس" إلى بيت العائلة.
لم تكن أمي تعمل بالحياكة بأجر، فهي تحيك ملابس أبي من البيجامة والقفطان والطاقيّة وملابسنا في البيت بعد صرف أمتار الأقمشة من عمر أفندي في الصيف؛ "النهضة" و"البيكة" وفي الشتاء "الكستور"، وما يحتاجه البيت من أغطية الأسرَّة والمفارش وحتى الستائر. عندما يأتي أبي إلى البيت قبل موعده تُلملم الأقمشة والخيوط، وتغطّي الماكينة. يتضايق أبي من اهتمامها بالخياطة وتتراقص العفاريت أمام عينيه ويحلف عليها بعدم بيات الماكينة في البيت، وإن باتت ليلتها تحت سقف البيت سيكسرها. تحملها أمي على ذراعيها، أرافقها، نطرق باب الجارة، نترك الماكينة عندها سواد الليل. تبيت أمي ليلتها قلقة معكّرة المزاج تنتظر الصبح وخروج أبي لعمله لتسرع إلى الجارة، كم تمنَّت أن تحيك لنا ملابس الخروج، فقد كانت تحمل هَمّ ملابس العيد، وتبحث عن خيّاطة ماهرة وأجرتها معتدلة، وحين تأخذ الملابس منها تُعيد عليها وتقول: "لو كانت أمي تركتني عند معلمة الخياطة شهر كمان كنت عرفت قَصّة الفستان".
تتحدَّث عن عشرتها للماكينة وفضلها عليها تقول: "كان أبوكِ في الجيش مجنَّد لأكثر من سبع سنين قبل حرب أكتوبر، وبعدها كنتُ أخيط للجيران وأرفض أخد فلوس، فيأتون باللبن والجبن والبيض والسمك، ما يعادل الأجرة ممّا تنتجه أيديهم، كانت سَتراني". عندما كبرنا كنّا نأتي إليها بالملابس الجاهزة، فتضع الماكينة تضيِّق وتقصِّر.
بعد موت أمي أرادت أختي أن تأخذ الماكينة لأنها تعرف كيف تستخدمها، فقد تعلمت الخياطة من أمي، رفض أبي قائلًا: "اشتريتها بمكافأة من الجيش عن ولادة ابنتي الكبرى، كيف تأخذينها وهي ليست ملكًا لأمِّك؟". يعتزّ أبي بالسنين السبع التي قضاها في الخدمة العسكرية وحضر خلالها حربين وكان يُصرف له راتب شهريّ، يتحدَّث بفخر عن مكافأة صُرفت له لأنه رُقّي إلى رتبة عريف وصادف ذلك مولدي، صرفوا له خمسة جنيهات فاشترى الماكينة لأمي لتخيط عليها ملابس طفلتها ولا تتعب رأسه بطلبات جديدة، خاصة وأنه يغيب بالشهور ويأتي في إجازات لا تزيد عن الثلاثة أيام فتجد ما يشغلها. بموت أمي لم تجد الماكينة مَن يعتني بها فغزاها التراب وجفّت قطّارة زيتها.
يترجرج الماء أسفل الدَّرَج، في البداية ظننتُ أني في سرداب أو مخبأ من أيام الحرب العالميّة، لكن وجود الماء يؤكد أنها بئر، أتأمَّل رجرجة الماء، يأخذني في دوّامة، أمي تجلس أمام فرن الحطب بجوارها صواني البسكويت والغرَيْبة تتركها تبرد بعد نضجها، يأخذ أخي منها ويختبئ، أساعد أمي في حمل الصواني إلى المطبخ، نسمع صوتًا وكأنه حمام يزوم، تجري أمي تبحث عن أخي في الغرف فنجده لا يستطيع التقاط أنفاسه من كثرة تناوُل الغريبة، تناوله أمي الماء وتسكب الماء على وجهه، بعد محاولات متعددة لمرور الماء في حلقِه استطاع التقاط أنفاسه بشكل طبيعي، تنهار أمي بجواره لا تصدِّق أنه نجا، كان أخي في السابعة من عمره بعدها بثلاثين عامًا حدث لأخي مثل هذا الاختناق دون التهام الغريبة ولم يجد معه الماء، غادر الدنيا في ذلك الصباح وأمي لا تصدق أنَّ ابنها ما عاد بحاجة إلى جرعة الماء من يدها وأبي يسأل ماذا التهم من ورائنا.
يسقط حجر في الماء أو ضفدع، وجود الماء يعطي احتمال لوجود كائنات مائيّة لا أراها لكنها موجودة، تتناثر قطرات برّاقة من الماء أتابعها، أنزل درجات دون كلل، تذكّرتُ الفراشة وهي تقترب من الضوء فرحة لا تدري أنها تسير إلى هلاكها.
فراشة النار ابنة جارتنا التي نترك عندها ماكينة الخياطة، والتي تساعدنا ابنتها الكبرى في دروس المواد الاجتماعية، كنتُ وفراشة النار زملاء من أولى ابتدائي إلى الشهادة الإعدادية، دخلتُ الثانوية وهي رفضت أن تُكمل تعليمها على الرغم من أنَّ أختها كانت في نهائي كلية الآداب، قبل يومين من الحادث التقيتها مصادفة، حدَّثتني عن "العربجي" الذي يركن عربته تحت بيتهم، وعن انتظارها لزيارة أمِّه لخطبتها، تكلمت كثيرًا وفي نهاية حديثها قالت: "هدَّدته إن تقدَّم لغيري سأحرق نفسي"، قلتُ: "أنتِ جميلة لماذا تفكرين بالموت، دعيه وتزوّجي من أوّل خطيب يتقدّم لك".
ركَّزت نظرتها على مكان عربته "الكارو"، قالت هامسة: "لا أفكر في الموت، لكني أحبه".
في صباح اليوم التالي كان صراخها يملأ الشارع، الكل تزاحم على الأبواب والنوافذ، رأيتها من نافذة غرفة جدَّتي؛ فهي أمام نوافذ بئر سلَّم بيتهم، تجري على السلالم والنار مشتعلة في ثيابها، تيّار الهواء في الدَّرَج وحركتها السريعة أدّى إلى توهُّج النار، كانت تريد من حبيبها الواقف بجوار عربته الكارو أن يطفئ نارها، جرى عليها كالملسوع بجوال (شوال) فارغ من أجولة علف الحمار، خمدت النار مخلّفة هبابًا وحروقًا ورائحة شياط، لفَّ الحبيب جسدها المثخن بالحروق بجوال من الخيش وحملها على ذراعيه ووضعها فوق العربة "الكارو"، شقَّ طريقه بين الجيران ومَن جاء على صوتها إلى المستشفى العام، كانت تئنّ بصوت واهن يعلو مع حركة العربة والكل يسأل أين أبوها الذي كان يعمل هو الآخر "عربجي" ينقل الطوب الأحمر من ورش الطوب إلى المستخدمين بحسب الطَّلب، وأمها ضاع صوتها وعينياها مفتوحتان في ذهول، حين اقتربت "الكارو" من نهاية الشارع رفعت البنت عينيها تجاه بيتها وحركت يدها بإشارة الوداع، قبل المغيب توفيت، هجر حبيبها الشارع، فقد كان يراها تطلُّ عليه من نافذة غرفتها ويسمع صوتها تناديه، كلّما سمعنا صفع درفتي نافذتها قلنا: "الفراشة تلقي علينا التحية"، وأحيانًا يمرُّ هواء بارد ورائحة شياط على أثره ينفتح باب بيتها وترد عليه نافذتها بالصّفع فنقول: "حضرت الفراشة"، بدَّل أخوها الباب بآخر حديد ليتصدّى للهواء البارد، لكن النافذة ظلّت تنفتح ونسمع صوت زجاج يتهشّم وفي الصباح نجده كما كان، رأيتُ حبيبها بعد سنوات يبيع خضار في السوق، ابتسم لي فرأيتُ الفراشة تطلُّ من عينيه، لم أكُن ألحظ هذا الشَّبه من قبل، اتكأ بيده المحتفظة بعلامات الحروق على كتفي صبيّ يقف بجواره قائلًا: "ابني هجرتني أمه متعللة بأنني أتحدَّث إلى أخرى في نومي".
أنزلُ درجة، أقتربُ من الماء، الدرجات القريبة من القاع رخاميّة، الماء ضحل وعلى الجوانب رواسب طينيّة، تجويف يدخل منه الماء تجاه النيل يقابله تجويف آخر له شكل تجويف باب السرداب الذي دخلنا منه، تذكّرتُ حكايات جدَّتي عن شبكة الطرق السريّة تحت الأرض والتي استخدمها المماليك والأتراك من أصحاب البيوت الأثريّة، كم أسرة نجت من الأسر أو القتل بالمرور من هنا؟!
السرداب تحت بيتنا لم نكن نعلم بوجوده، عندما قام أبي ببعض الترميم للبيت اكتشف تجويفًا لباب قصير مسدود بطبقة خفيفة من كسر الطوب اللبني والطين والرماد، خطر ببالي سؤال "مَن الذي سدَّ الباب على هذا النحو؟"، قد يكون جدّي فمن أعلم جدَّتي عن شبكة الطرق السرية غيره، ما الذي جعله يسدّه؟ قد يكون الخوف من أن يستخدمه اللصوص في الاختباء أو فزع الأولاد عند دخوله، علّق أبي عدة مصابيح داخل السرداب دارت حولها كائنات طيّارة متعطشة للنور، قال أبي: "العمّال يجهزون الخلطة لردمه، وجوده يضعف البيت".
ألقيتُ نظرة على القاع سمعتُ قرقرة ماكينة الخياطة ورأيتُ أمي تمسك كوب ماء لم يعد أخي في حاجة إليه وفراشة النار تحلِّق، ينحني أبي ويخرج من تجويف الباب، تمالكتُ نفسي من أفكاري، بحثتُ عن تجويف الباب، لم أجده.