تنأى مقولة "أرنست فيشر" صاحب كتاب "ضرورة الفن" (1971) عن فلسفة المجاز وإحالاته الثقافيّة، وتقرب منه في آن معًا، لتضرب بعمق أنثروبولوجي رصين، مُشكِّلَةً حفرًا معرفيًّا في تاريخ الإنسان أكثر من كونها عبارة في تاريخ الفن وإنْ بدت كذلك، عندما تقارب بين عمر الفن وعمر الإنسان، في قوله: "يوشك أن يكون عمر الفن هو عمر الإنسان، ولن يموت الفن ما دامت الإنسانيّة باقية"؛ ذلك أنّ الفن، لا يتوازى، فحسب، مع سيرورة الإنسان، بل إنه يتقاطع معها، ويتماهى في صيرورة، تشكل نماذج ثقافيّة بليغة، تمنح الحضارة شكلها المادي في مرئيّات جماليّة خالدة، بدءًا من رسومات الكهوف، والمعابد، مرورًا بالحضارات الإنسانيّة: الفرعونية والرومانية واليونانية... وما أنتجته من معالم مدهشة سائرة، مرورًا بفن العمارة الإسلامي، وصولًا إلى المدارس الفنيّة المتنوِّعة: الكلاسيكيّة والواقعيّة والتعبيريّة والدادائيّة والسرياليّة والتكعيبيّة، وغيرها.
لكنّ رؤى "أرنست فيشر" حول جوهر الفن وضرورته ووظائفه، تتلقى صفعة قاسية من قِبَل "آرثر دانتو" في كتابه "بعد نهاية الفن" (1997)، فبينما يرى "فيشر" أنَّ تاريخ الفن اتصال واستمرار، وأنه يتَّصف في جوهره بالتوتُّر والتَّناقض، ولديه القدرة على تجاوز لحظته التاريخيّة، من كون معرفة الأعمال الفنيّة تكشف، باستمرار ووضوح، عن العناصر المشتركة بينها على اختلافها وتنوُّعها وتباين تواريخها، وهنا تكمن ضرورة الفن، في تمكين الإنسان من الاتصال بالتجارب الإنسانيّة المتنوّعة، ورفد مخزونه المعرفي والجمالي حتى يفهم العالم ويغيِّره؛ يرى "آرثر دانتو" في سياقات ثقافة ما بعد الحداثة، تحديدًا، أنَّ الفن وصل إلى نهايته، عندما تحوَّل إلى فلسفته الخاصة، متجاوزًا المنطق والفهم التاريخي للفن، مبتعدًا عن أدواره التاريخيّة، مضيفًا أنَّ صناعة الفن ستستمرّ، وسينتج الفنانون أعمالًا فنيّة كثيرة، لكنها تفتقر إلى الأهميّة التاريخيّة، مبتعدة عن وظائفها وجوهرها.
ويتحتَّم على تلك الرُّؤى، وفق المنطق التاريخي، أن تُصاب بالتحوُّل والتغيير، وأن ننتقل إلى ما بعد عصر الإمتاع والمؤانسة، أعني: عصر الصناعات الثقافيّة والفنيّة والإبداعيّة، خاصةً بعد أن أقرَّت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة إعلان عام 2021 "عامًا دوليًّا للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة"، بالتشاور مع اليونسكو وغيرها من الكيانات ذات الصلة في منظومة الأمم المتحدة، حيث تقع القطاعات الثقافيّة والإبداعيّة في صميم هذا الاقتصاد النَّشط، إذْ تمثِّل نقطة التقاطع بين ميادين الفنون والثقافة والتجارة والتكنولوجيا، وتضطلع اليونسكو بإبراز هذه المساهمة وتعزيزها، التي تقدِّمها الثقافة لكل من الاقتصاد الإبداعي العالمي والتنمية المستدامة في سنة 2021، بصفتها المنظمة الوحيدة في منظومة الأمم المتحدة التي لها تفويض محدَّد في مجال الثقافة، خاصة أنها تموِّل مبادرات من أجل دعم الصناعات الإبداعيّة، وتحثّ صانعي القرار على إدراج الثقافة في خططهم لتحقيق الانتعاش الاقتصادي.
ووفقًا للتقديرات، فقد شكّلت عائدات الاقتصاد الإبداعي ما نسبته 3% من الاقتصاد العالمي، بعوائد تقارب مليارين وربع المليار دولار سنويًّا، موفِّرة فرص عمل لما يتجاوز ثلاثين مليون شخص في العالم، ما يجعل الصناعات الإبداعيّة خيارًا اقتصاديًّا مستدامًا، يتيح الفرص القويّة والمثيرة للمبدعين للتطوُّر والنموّ، ويسهم في رفع مستويات الإبداع مقارنة بالكلف المطلوبة.
إنّ ما سلف ينقلنا إلى السؤال المُلحّ في المشهد الثقافي والإبداعي والفني الأردني، خاصة أنَّنا نشهد الاحتفالات في مئوية الدولة الأردنيّة، وعلى عتبات المئويّة الثانية: ما المسؤوليّات المُلقاة على عاتق الدولة بكافة مؤسساتها الثقافيّة والفنيّة والنقابيّة للنهوض بالصناعات الثقافيّة والإبداعيّة، في مختلف الحقول: الفنون التشكيليّة، والأدائيّة، وقطاع الأفلام والتلفاز، والحرف اليدويّة، والتصميم، والنشر، والوسائط المتعدِّدة، وغيرها؛ وماذا أعدَّت لمثل هذا العام الدولي عام "الاقتصاد الإبداعي"، وهل تمتلك مشروعًا عريضًا لكافة القطاعات المتداخلة في مجال الاقتصاد الإبداعي: فنيًّا وثقافيًّا وتجاريًّا وتكنولوجيًّا، لتحقيق نهضة للصناعات الإبداعيّة، ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني من جهة، والمبدع الأردني في كافة اشتغالاته الفنيّة والثقافيّة والإبداعيّة من جهة أخرى؟
هل من الممكن أن نشهد في الأردن فكرة القرى الإبداعيّة مجسَّدة على أرض الواقع، تزامنًا مع فكرة المدن الثقافيّة، التي شكَّلت تجربة غنيّة وفريدة، وتركت، ولا تزال، تأثيرات كبيرة على المشهد الإبداعي الأردني؟ وهل من الممكن أن نطرح مشروعًا وطنيًّا يتمثل في "بوّابة المحتوى الرقمي الأردني على الإنترنت"، لتتاح فرصة مشاهدتها ومتابعتها عربيًّا وعالميًّا، وما لهاتين الفكرتين من قدرات تسويقيّة عالية للمنتَج الفنّي والإبداعي الأردني، تزامنًا مع الدَّعم المالي الوفير للقطاعات الفنيّة والثقافيّة بمختلف أشكال الدَّعم.
لم يعُد الاقتصاد الإبداعي فكرة ثقافيّة أو واجهة دعائيّة أو تسويقيّة، بل إنه ضرورة وطنيّة لتقدُّم المجتمع والنُّهوض به ثقافيًّا واقتصاديًّا، وخيار أصيل لتحقيق التنمية المستدامة، وركيزة أساسيّة من ركائز الرِّيادة المستقبليّة، في مواءمة حقيقيّة وأصيلة بين مفردات التراث الفني والحداثي، لتشكّل الثقافة والإبداع جوهر هذه الصناعات، وتحفظ لها بُعدها التاريخيّ، ورؤيتها المدنيّة، وطابعها الجماليّ؛ فلا يمكن تقديم الأردن التاريخيّ والمعاصر بأبعاده الحضاريّة بمنأى عن خارطة مستقبليّة تستند على الثقافة والفنون، خاصة أنَّ غنى الأردن الرَّئيس يكمن في إنسانه المُبدع في كافة أوجه الحياة الفنيّة والثقافيّة والعلميّة.