"نساء صغيرات": بين الرِّواية والواقع‏ كتاب جديد يكشف الأبعاد الخفيّة للرِّواية الخالدة في الأدب الأميركي

‏ترجمة وإعداد: محمد زين العابدين

شاعر وكاتب ومترجم مصري

 

على الرّغم من علامات التَّراجع لشعبيّة رواية "نساء صغيرات" بين الجمهور الأصغر سنًّا، إلا أنَّ الانبهار بها ما ‏زال قائمًا بين الكُتّاب وصانعي الأفلام، كما تشهد على ذلك الموجة الحاليّة من المعالجات الدراميّة لها. إنَّ "نساء ‏صغيرات" التي شرعت "ألكوت" في كتابتها بتردُّد، وكتبتها مع مراعاة الاصطلاحات الخاصة بها؛ تبيَّنَ أنها الكتاب ‏الذي صنع اسمها، وثروتها‎.‎‏ وفي المقال المترجم هنا محاولة للكشف عن الحياة الحقيقيّة لكاتبة الرِّواية، ومقارنتها ‏مع القصة التي ترويها.‏

 

هناك أسرارٌ كالزلزال؛‎ ‎تكمن في الفجوة بين الحياة الحقيقيّة لـِ"لويزا ماي ألكوت"، مبدعة رواية (نساء صغيرات) ‏‎ ‎Little Womenبجزئيها الشهيرين؛ وبين القصة التي ترويها. وما زالت الرِّواية، على الرّغم من مرور ما يزيد ‏على قرن ونصف على صدورها؛ تثير الكثير من الأفكار والجدل حولها. وقد صدر مؤخرًا كتاب جديد عن الرواية ‏بعنوان (قصة نساء صغيرات، ولماذا ما تزال مهمة)-‏The Story Of Little Women and Why it Still ‎Matters-‎‏. ويكشف الكتاب أنَّ الرِّواية لم تكن إلا مرآة للحياة الحقيقيّة لمبدعة الرِّواية.‏

خلال المئة وخمسين عامًا الماضية، ومنذ نشر رواية "نساء صغيرات"، افتتن القرّاء المعجبون بقصة "ألكوت"، ‏عن "مارش" وشقيقاتها الثلاث، ووالدتهن ذات الإرادة التي لا تقهر "مارميه"، والتي تتجاوز محنة الفقر بصبر ‏جسور، وتكافح دومًا لتكون في وضع أفضل. أمّا المنتقدون للرواية (وهم أقل عددًا بشكل ملحوظ) فقد ركّزوا بشكل ‏عام على إحدى نسخ تلك الرواية الملحميّة، التي تتمثل فيها الطيبة الممزوجة بالشجاعة، وأغاظتهم، بدلًا من أن ‏تشعرهم بالمهابة. لكنَّ "ألكوت" نفسها كان لها المزيد من وجهات النظر المتشككة حول مشروعها الأدبي المغامر.‏‎ ‎

كانت "لويزا ألكوت" متردِّدة في تجربة تأليف كتاب عن قصة الفتيات، وهو نوع من الكتابة التي وصفتها لاحقًا ‏بأنها "ذات مسحة أخلاقيّة بالنسبة للشباب"، وكان العمل على كتابتها  يعني استكشاف عقول ورغبات الفتيات ‏الشابات، وقد كتبَتْ في يوميّاتها أنها لم تعرف أو تحب من الفتيات سوى شقيقاتها.‏‎ ‎

وأثناء كتابتها لرواية "نساء صغيرات" أعطت "ألكوت" لشخصية "مارش" المتخيَّلة اللقب نفسه الذي استخدمته ‏للتعريف بعائلتها؛ "العائلة المثيرة للشفقة". عند الوصول للفصل الأخير عن "أولاد جو" في الجزء الثاني للرواية؛ لم ‏تحاول "ألكوت" أن تخفي إرهاقها بفعل حركة شخصيّاتها وفضول قرائها الذي لا يشبع عنهم. وفي تدخل حاد ‏وصريح في روايتها، أعلنت أنها كانت تميل إلى أن تنهيها بوقوع الزلزال، والذي سوف يبتلع مدرسة "جو" ‏والضواحي المحيطة بها في أعماق الأرض، لدرجة أنه لن يستطيع أي جيولوجي العثور على بقاياها.‏‎ ‎

إنَّ أكذوبة "نساء صغيرات" هي أكذوبة متعدِّدة الأوجه. الرواية تعتبر من الكلاسيكيات الأميركية الخالدة، وهي ‏قصة للفتيات منقطعة النظير في زمانها، وتم استلهامها في مناخ من الحرية، من خلال السيرة الذاتية الشخصية ‏لمؤلفتها "لويزا ماي ألكوت"، وقد كانت "ألكوت" مثل "جو" بطلة الرواية تمامًا؛ هي الشقيقة الثانية بين أربع ‏شقيقات، ترعرعن في ولاية "ماساشوستس" الأميركية، تحت العين الساهرة لأمهنّ الذكيّة والقويّة.‏‎ ‎

ولكن بينما كان والد "جو" بطلة الرواية غائباُ في بواكير صباها، لأنه بعدما تعرَّضت العائلة لسوء حظ، كان يخدم ‏كـ"قسيس" خلال الحرب الأهلية، وعلى العكس من ذلك، فإنَّ طفولة "ألكوت" كانت مشوبة بالفشل لسبب آخر، ألا ‏وهو أنَّ والدها "برونسون ألكوت" كان متعصبًا دينيًّا، وفشل في تأمين احتياجات أسرته.‏‎ ‎

كان الحرمان الشديد، وليس الفقر المدقع -كما ورد في الكتاب- حقيقة يوميّة. كانت الأخوات الأربع اللائي يُعتَنى ‏بهنّ -في كثير من الأحيان- من قِبَل الأصدقاء والأقارب؛ متجوِّلات، وغالبًا ما يضطررن إلى العيش بشكل منفصل ‏عن بعضهنّ بعضًا. أصيبت "ليزي"، أخت "ألكوت" بالحمى القرمزية أثناء زيارتها لعائلة مهاجرة فقيرة في ‏الجوار، مثلما فعلت "بيث" في الرواية.‏

لكن وفاة "ليزي" في الثانية والعشرين، بخلاف "بيث" التي كانت في العمر نفسه تقريبًا؛ والتي أعقبها بالنسبة لها ‏تدهور مؤلم طويل الأمد، يعزوه بعض كتاب أدب السيرة الذاتية الحديث إلى القلق، أو فقدان الشهيّة. وبينما أجبرت ‏‏"جو" بموجب العرف والتقاليد؛ على اختيار الزواج والأطفال، وتفضيله على المجد الفنّي؛ فإنَّ "ألكوت" اختارت ‏العكس؛ الاستمتاع بثروتها التي اكتشفتها حديثًا، ونجاحها كأديبة عانس.‏

في السنوات الثمانين الأولى، أو نحو ذلك، بعد نشر رواية "نساء صغيرات" ‏Little Women)‎‏)؛ نادرًا ما ‏تصاعد الخلاف حول كيفيّة تفسيرها. عشق القرّاء الكتاب وجزئيه المكملين له، دون استكشاف مشاعر "ألكوت" ‏الخاصة حوله (على الرغم من أنَّ معجبيها كانوا مهتمّين بحياتها). ولم تظهر سيرة ذاتية شاملة حتى عام 1950 ‏حين نقَّبت الكاتبة "مادلين ب.ستيرن" في التاريخ العائلي المشحون بالحيويّة لـِ"ألكوت"، وسلّطت الضوء من خلال ‏اسمها الأدبي المستعار، على قصص مثيرة حول جرائم القتل وإدمان الأفيون.‏

بعد ذلك، وبدءًا من سبعينات القرن الماضي فصاعدًا؛ بدأ النقاد النسويون في تمحيص رواية "نساء صغيرات" من ‏منظور جديد، متيقظين للخلاف المتأصِّل بين النص، وما وراء النص، أو ما يُعرف بـ"النص الفرعي". كما كتبت ‏الباحثة الأدبية "جوديث فيتيرلي" في مقالتها عام ‏‎1979‎، بعنوان "نساء صغيرات: حرب ألكوت الأهلية"، وناقشت ‏في المقالة كيف أنَّ الرواية تدور حول عبور بطلتها مرحلة المراهقة لتصبح امرأة صغيرة رشيقة. لكن سياقات ‏القصة نفسها تندفع ضدّ هذا الإطار، فالشخصية التي تقاوم باستمرار التوافق مع التوقعات التقليدية للأنوثة الرزينة، ‏والولع بالحياة العائلية؛ هي "جو" البطلة الحقيقية، أمّا الشخصية المستسلمة "بيث"؛ فهي تموت بعد فترة وجيزة من ‏بلوغ سن الرشد.‏

لقد أعطى ازدهار النقد النسوي أخيرًا لـ(نساء صغيرات) التحليل الدقيق والمدروس الذي تستحقه. وكشف عن حالة ‏التجاذب الداخلي، الناشئة عن الصراع بين النوازع التقدميّة التي تطرحها الرواية، وبين القيود السائدة في ذلك ‏العصر. كما كشف عن كتابٍ كان أبعد ما يكون عن التفاهة.‏

ومع ذلك، لم تنل رواية (نساء صغيرات) حتى الآن، المكانة التي تستحقها في لائحة المؤلفات الأدبية الأميركية. إذ ‏إنَّ سمعتها باعتبارها حققت نجاحًا خياليًّا عند الفتيات والنساء ومحيطهنّ الاجتماعي؛ تمنعها -حتى الآن- من تحقيق ‏المكانة الأدبية التي تستحقها، بحسب قول مترجم الفيلم المأخوذ عن القصة "هاكلبيري فين".‏

في الوقت نفسه؛ فإنَّ البيئة المحلية؛ والمواعظ التي أغضبت "ألكوت" نفسها يمكن أن تصدم القارئات المعاصرات ‏بحقيقة أنها مداهنة، ومقيَّدة. وتُظهر شعبيّة الكتاب علامات التراجع لشعبيته بين الجمهور الأصغر سنًّا. لكن الانبهار ‏بـ(نساء صغيرات) ما زال قائمًا بين الكُتّاب وصانعي الأفلام، كما تشهد على ذلك الموجة الحاليّة من المعالجات ‏الدراميّة لها.‏

وبوحيٍ من التحدّي المتمثِّل في سدّ الفجوة بين حياة "ألكوت" وكتاباتها؛ فإنَّ الجهود المبذولة لتجديد وتوسيع قوّة ‏الرواية، تساعد في إلقاء الضوء على التعقيدات الموجودة في مثل هذه الرواية التي أصبحت مكانتها الأدبية على ‏المحك، في سبيل إعادة تقييمها. وممّا يدلّ على ثراء الرواية، وبقائها خلال القرن الماضي؛ أنها قابلة للتأويل، ‏والمعالجة، والتطويع في أشكال متعدِّدة.‏

والمعالجات الأولى للعمل، كانت تقدِّم ترفيهًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا مفيدًا، وهو ترفيه مُستمدّ من روح النص الأصلي. ‏وكان ذلك خلال فترة الكساد الكبير في أميركا؛ عندما كان الجمهور يجد ضالّته وسلواه من خلال فكرة التسلية ‏البسيطة. وكانت العروض المسرحية لـ(نساء صغيرات) رائجة في كل أنحاء أميركا. ‏

وبحلول عام ‏‎1949‎، عندما أخرج "ميرفين ليروي" المعالجة السينيمائية الرابعة للرواية؛ قدَّم هذا الفيلم مع طاقم ‏مدجَّج بكل النجوم: "جانيت لي" في دور"ميج"، "جون أليسون" في دور "جو"، "مارجريت أوبراين" في دور ‏‏"بيث"، و"إليزابيث تايلور" في دور "إيمي". وفي تلك الآونة، أصبحت النزعة الاستهلاكية في الفن واجبًا وطنيًّا؛ ‏ولذا ابتكر كُتَّاب السيناريو للفيلم مشهدًا جديدًا تمضي فيه أخوات "مارش" في فورة الإنفاق في عيد الميلاد بأموال ‏أخذنها من "مارش".‏‎ ‎

تقدم "آن بويد ريو"، مؤلفة الكتاب الصادر عن الرواية؛ تأملًا ذكيًا حول سبب خلود رواية (نساء صغيرات) في ‏الثقافة الأميركية؛ وهو أنها كانت مناسبة بدرجة كبيرة جدًا للعصر الذي كتبت فيه. لقد لفتت الانتباه بشكل خاص ‏إلى الظلال الإشكالية للأب الذي يلوح طيفه في الأفق في مواجهة مشروع "ألكوت" الأدبي. وتتعمق "ريو"، الأستاذة ‏في جامعة (نيو أورلينز) الأميركية؛ في دراسة الخلفية التي أحاطت بـ"لويزا ماي ألكوت"؛ مؤكدة أنَّ الشابة ذات ‏الفلسفة المتعالية، والتي نشأت في دائرة ضمَّت "رالف والدو إيمرسون"(*)، و"هنري ديفيد ثورو"(**)؛ رأت أنَّ ‏الكتابة مسعى أكثر عمليّة، وأقل نبلًا في المقصد عمّا فعل أقرانها من الكُتَّاب الذكور‎.‎

أمّا بالنسبة لـ"برونسون ألكوت"؛ فإنَّ "المهن الوحيدة التي لم تمسّ بمبادئه، كانت تقطيع الأخشاب"، كما كتبت "ريو" ‏عن مُصلح التعليم الراديكالي الذي وصفته بأنه هش في أحسن الأحوال، وغير مستقرّ في أسوأ الأحوال؛ عائلته ‏ممنوعة من أكل المنتجات الحيوانية، أو ارتداء أي شيء عدا الكتان، وغالبًا ما تتضوّر جوعًا، وتتجمّد في شتاءات ‏‏(نيو إنجلاند) القارسة‎.‎

في‎ ‎الأراضي المثمرة، هناك مجتمع طوباوي؛ بالنسبة لـ"ألكوت" تأسس في أربعينات القرن التاسع عشر، فقد ‏شاركت والدها في الإبداع، ولكنها افتقرت إلى حماسته الشديدة؛ وكانت الكتابة طريقًا لتحقيق طموحاتها الأدبية، ‏وفي الوقت نفسه وسيلة لإطعام أسرتها‎.‎

بعد نشر قصتين في مجلة (‏‎(The Atlantic، قوبلت باستقبال أكثر برودًا من قِبَل محرر المجلة الجديد "جيمس ‏تي فيلدز"؛ والذي منحها في عام ‏‎1862‎‏ مبلغ ‏‎40‎‏ دولارًا لكي تنشئ به مدرسة، بدلًا من مواصلة الكتابة -وهو ما ‏فعلته- على الرّغم من فشل مشروعها في بداياته؛ فعادت إلى كتابة القصص المثيرة التي وصفتها بـ"حكايات الدم ‏والعواصف"، والتي نشرتها في الصحف الأسبوعية، بعضها تحت اسم مستعار (إيه.إم.بارنارد)‏A.M Barnard‏ ‏وصوَّرت فيها شخصيات نسائيّة شغوفة وحازمة؛ تخطط وتغامر في طريقها إلى الازدهار.‏‎ ‎

في الوقت نفسه لم تكن تريد أن يعرف والدها "إيمرسون" أنها كانت تخطو إلى الحضيض الأدبي. ويبدو أنها ‏استمتعت بـ"الأسلوب الرهيب" لكتابة القصص المثيرة، واعتقدت أنه يناسب "طموحها الطبيعي". كان المال الذي ‏كسبته مهمًا لها أيضًا؛ فكتبت في يوميّاتها: "لا يمكنني أن أتضوّر جوعًا بسبب الثناء. لا بأس؛ عندما تُكتب القصص ‏المثيرة في نصف الوقت، وتحافظ على راحة الأسرة‎"‎‏. كانت السخرية هي أنَّ "نساء صغيرات" التي شرعت ‏‏"ألكوت" في كتابتها بتردُّد، وكتبتها مع مراعاة الاصطلاحات الخاصة بها؛ تبيَّنَ أنها الكتاب الذي صنع اسمها، ‏وثروتها‎.‎

إنَّ تناقضها، وازدواجية شخصيتها؛ أدى إلى تشجيعها على زعزعة التقاليد والأعراف، وهي تستكشف مكانة المرأة ‏في المنزل وفي العالم، وتصارع ادِّعاءات كل من التيارين الواقعي والعاطفي، وجاذبية التقاليد، ومنظومة القيم ‏السائدة، والانجذاب للحنين إلى الماضي، والطموح‎.‎‏ لقد كانت روحها القلقة ملهمة للآخرين. وكلّما سعى المعجبون ‏بـ"ألكوت" إلى تحديث روايتها، بالاعتماد على سيرة حياتها كسياق؛ كلما اكتشفوا ما تحتويه روايتها الكلاسيكية من ‏تطابق مع الواقع الذي عاشت فيه.‏

‏***‏

هذا نص المقال المترجم والمكتوب في العام 2018، لكنني أودُّ الإشارة هنا إلى أنه في العام التالي لكتابة هذا ‏المقال، تمّ إنتاج الفيلم الروائي الطويل الثامن المبني على رواية (لويزا) "نساء صغيرات" وحمل الاسم نفسه، وكان ‏من إخراج "جريتا جيروج"، كتابة السيناريو "جيرفيغ" و"سارة بولي" ومن بطولة "ساويرس رونان" و"إيما ‏واتسون" و"فلورنسا بف" و"إيليزا سكانلن" و"تيموثي تشالاميت" و"لورا ديرن" و"ميريل ستريب" (المترجم).‏

 

‏- - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) رالف والدو إمرسون (‏‎1803-1882‎‏): كاتب ومحاضر وفيلسوف وشاعر أميركي. قاد تيار الفلسفة‎ ‎المتعالية في منتصف ‏القرن التاسع عشر، وكان يُنظر إليه على أنه بطل‎ ‎للنزعة الفردية. ‏

‏(**) هنري ديفيد ثورو (‏‎1817-1862‎‏): كاتب وشاعر وفيلسوف أميركي، وأحد رواد تيار الفلسفة المتعالية، وهو تلميذ ‏‏(رالف إمرسون).‏

المصدر: (‏‎(The Atlantic Magazine- September 2018‎‏ ‏

This article appears in the September 2018 with the headline “The Lie of Little ‎Women.”‎