مئة عام مرَّت على تأسيس الدولة الأردنيّة، وهو مرورٌ لا يعني بالضرورة أن يكون منطلقًا لمعاينة الظواهر الثقافيّة والفنيّة على امتداد المئويّة فقط، وإن تأثَّرت بشروطها البيئيّة (السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة)، وذلك بسبب الخصوصيّة التي ينطوي عليها النشاط الفني نفسه، بوصفه نشاطًا إنسانيًّا متميزًا باستشرافاته وتعبيراته العابرة للزمان والمكان.
هذا الملف الخاص بالمشهد التشكيلي الأردني المعاصر، والذي يشارك فيه فنانون وأكاديميون ونقاد، يُعاين الجذور العميقة التي غذّت الفن التشكيلي في تربته الأردنيّة منذ آلاف السنين، ورفدته بأسباب الاستمرار والتجديد طوال مئة عام من عمر الدولة الأردنيّة.
نتوقف هنا، عند خمسة محاور رئيسة من شأنها أن تغطّي مساحة واسعة وغير مطروقة في مسيرة التشكيل الأردني المعاصر.
جاء المحور الأوَّل لمُعدّ هذا الملف بعنوان "التشكيل الأردني المعاصر: الروافع الثقافية والحضارية" ويعاين فيه الصلة الوثيقة بين منجزات الفنان الأردني المعاصر بتعبيراتها الجماليّة المتنوِّعة، وبين عمقها التاريخي والحضاري، بحِقبه وشواهده المتنافذة على مرّ العصور.
وبسبب موقعه الجغرافي المتميّز في قلب الشرق، والذي جعل منه حلقة وصل استراتيجية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، تعاقبت على أرجاء المكان الأردني ممالك وكيانات وأمم، جعلت منه مسرحًا للتفاعل الحضاري، ومتحفًا زاخرًا بالأوابد التاريخية والمعالم الأثرية التي ما تزال شاهدًا على الدور الرئيس الذي حظي به موقع الأردن في إرساء قواعد الحضارة الإنسانية.
ويذهب المحور، إلى أنَّ الفنان الأردني في تعامله مع مخزون تراثه الحضاري الذي شكّل له على الدوام رافدًا تعبيريًّا وجماليًّا لا ينضب، لم يقف موقفًا سكونيًّا يعتمد على التلقي والتقليد، بل راح في منجزه الفني يحاور مكوّنات ذلك المخزون بعين مفتوحة على الحاضر وهي تعاين أصداء الرنين المتحدِّر من جرس الزمان الموشوم بذاكرة المكان.
فكان الاستلهام، وكانت الإضافة والتجاوز، مرتكزات الفنان الأردني وروافعه في معاينة إرثه بعينٍ معاصرة؛ عينٌ ظلّت مشدودة إلى مقاربة المسافة بين مرجعيّاتها المتنافذة مع جذورها الشرقية، ومع موروثات حضارتها العربية والإسلامية.
في المحور الثاني كتب أستاذ الفنون بجامعة اليرموك د.عبدالله عبيدات عن "الرمز والميثولوجيا في الموروث التشكيلي في الأردن" لجهة توظيف الموروث الحضاري برموزه وعلاماته الشاخصة حتى الآن في نتاجات الفنان الأردني. إضافة إلى معاينة النماذج التشكيليّة الشعبيّة على الأزياء والمطرَّزات والفخاريّات وأطباق القش. ويخلص الباحث إلى أنَّ هناك تضمينًا لصيغ تشكيليّة هندسيّة ورمزيّة واضحة، حيث تبنَّت التصاميم المنتشرة بعض الأشكال الهندسيّة كالمثلث والمعين والشكل الأفعواني والدائري والزخارف النباتيّة والخطوط المتقاطعة؛ ما يؤكد أنَّ تلك الأشكال هي رموز لأفكار تعامل معها الإنسان في بلاد الشام، وشكَّلت امتدادًا طبيعيًّا لإرثه التاريخيّ.
على صعيد آخر، يرى عبيدات أنَّ الموروث الميثولوجي والجمالي ما يزال حاضرًا في الذاكرة الجمعيّة للفنّان التشكيلي المعاصر في الأردن، حيث ظهرت ثيمات فنيّة لها عمقها التاريخي الفلسفي والدلالي، وتمثّلت أشكالًا ورموزًا عبَّرت عن هواجس الفنان تجاه الحياة والكون والوجود.
وفي المحور الثالث يقدِّم الباحث والفنان د.إياد كنعان دراسة بعنوان "سيميولوجيا (المقدَّس) في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ"، وهي دراسة خِطابيَّة نقديَّة مقارنة، تنطلق من تمثلات حالة "الاستشراق" وصولًا إلى تمثلات حالة "ما بعد الحداثة" مرورًا بدراسة "المقدَّس" في حالة "الحداثة" التشكيليّة الأردنيّة.
وتخلص دراسة كنعان إلى وجود ارتباط وثيق بين التحوُّلات التي طرأت على تمثُّلات "المقدَّس" في الفن التشكيليّ الأردنيّ، وبين الانتقال من قيم "الحداثة" التشكيليّة، وصولًا إلى تبنّي قيم "ما بعد الحداثة"، وهي تحوُّلات عزَّزت قيم الثبات في المجتمع الأردنيّ بشكل عام، وأخلصت إلى حدّ كبير لقِيَم "الدولة الوطنيّة" الأردنيّة في أبعادها العربيّة والإسلاميّة، على المستويات النصيّة والتمثيليّة والمفهوميّة العامّة، مع وجود استثناءات لم ترتقِ إلى مستوى التأثير الطاغي على المشهد التشكيليّ الأردنيّ.
ويرى كنعان أنَّ الفنّ التشكيليّ في الأردن نجح في التملُّص من حالة "الاهتزاز" في القيم السياسيّة والاجتماعيَّة والثقافيّة التي ترافقت مع دخول مؤثرات تيارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة إلى المشهد الثقافيّ الأردنيّ، وبالتالي النجاح في المواءمة بين حالة المعاصرة المنشودة تشكيليًّا، وبين القيم المؤثرة في بناء وثبات "الدولة الوطنيَّة" الأردنيّة، واستقرارها.
فيما يتناول المحور الرابع للفنان والباحث في الفنون البصريّة هاني الحوراني، تجربة أوَّل فنّان يمارس الرسم بعيد تأسيس الدولة الأردنية مباشرةً، وهو الفنان اللبناني "عمر الأنسي في مرحلته الأردنية". والأنسي من أوائل الفنانين العرب والأجانب الذين استقبلهم الأردن في العقود الأولى لنشأته، فخلّفوا وراءهم خلال إقامتهم رسوماتٍ ولوحاتٍ فنيّة توثِّق مَشاهد من طبيعة البلاد، وقسمات من وجوه مجتمعها.
ويشير الحوراني في سياق تطرُّقة لإقامة الأنسي في عمّان مطلع عشرينات القرن الماضي وفي منتصفها، إلى أنَّ عمّان كانت أقرب ما تكون إلى بلدة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها 6400 نسمة. لكن في الوقت نفسه كانت هذه البلدة الصغيرة تستقطب مئات المثقفين والسياسيين والعسكريين العرب، ممّن لجأوا إلى الأردن بعد معركة ميسلون (24 تموز 1920) وسقوط الحكومة الفيصلية. كانت عمّان تحتضن جماعات من مختلف الأقطار والخلفيّات الثقافيّة والمهنيّة.
أثمرت المرحلة الأردنيّة للأنسي عددًا غير معروف من الأعمال المائيّة التي صوَّرت مشاهد طبيعيّة، من الصحراء، ومن عالم البدو، إضافة إلى رسومه الأخرى، التي نُفِّذت عن البحر الميت والبتراء، كما أنتَجَ خلال هذه المرحلة العديد من الرسوم المائيّة عن القدس ومواقع أخرى في فلسطين التي كان قد زارها خلال السنوات التي قضاها في عمّان، بحسب ما يذهب إليه الحوراني.
واخيرًا جاء المحور الخامس في هذا الملف تحت عنوان "الفن في الأردن: مئة عام من العزلة" للأكاديمي والفنّان في جامعة اليرموك د.خالد الحمزة. وهو عنوانٌ مطابقٌ لرواية جابريل ماركيز الشهيرة "مئة عام من العزلة" بهدف معاينة حال الفنون التشكيلية في الأردن بعد مرور ما يقرب من قرن على بداياتها البعيدة.
المقاربة بين رواية ماركيز وبين حال الفن التشكيلي في الأردن جاءت -بحسب الحمزة- بسبب التشابه الكبير بخصوص التقوقع والانعزال عن المجتمع في حالنا، والانعزال عن العالم في حال قرية ماركيز. وهو تشابه يعيد من خلاله الحمزة طرح السؤال القديم الذي طرحه فنّانون عرب وهو: "هل كان سيتأثّر العالم العربي في العصر الحديث لو غاب الفنّ عنه؟"، لكنّه يُعيد صياغة السؤال بخصوص الأردن: "هل كان للفنّ التشكيلي حضورٌ فاعلٌ في حياة المجتمع الأردني طيلة القرن السابق؟"، أظنُّه سؤالًا يفتح الأبواب على كل القضايا الأساسيّة التي ترتبط جوهريًّا بالفن وعلاقته بالمجتمع أو العكس.
غسان مفاضلة