غسان مفاضلة
ناقد وفنان تشكيلي أردني
ما إن نحاول الاقتراب من المشهد التشكيلي المعاصر في الأردن، والوقوف على إرثه الحضاري، ومعاينة مقارباته الجماليّة والثقافيّة، حتى ندرك أنّنا أمام مشهد انحاز منذ التماعاته الأولى، قبل نحو مئة عام، إلى جوهر التعبير المشرع على آفاق الحوار بين ذلك الإرث الموغل في قِدمه، وبين معطيات راهنه المعاصر. وهو الحوار الذي بات يُعرف في الثقافة العربيّة منذ مطلع القرن الماضي، بحوار "الأصالة والمعاصرة". وهو، أيضًا، الحوار الذي ما فتئ الفنّان الأردنيّ يؤكِّد من خلاله على حداثة الرُّوح الشرقيّة، وانفتاح مقترحاتها الجماليّة بروافعها الثقافيّة والحضاريّة، على مناخات التَّشكيل المعاصر.
لم تكن البدايات الأولى التي شكَّلت "ملامح" الفن التشكيلي المعاصر في الأردن، مع مطلع عشرينات القرن الماضي، بمعزل عن بدايات العديد من مثيلاتها في بلدان الوطن العربي. وظلَّت تعبيراتها الجماليّة المتنوِّعة، وثيقة الصّلة مع عمقها التاريخي والحضاري، بحِقبه وشواهده المتنافذة على مرّ العصور.
وبسبب موقعه الجغرافي المتميّز في قلب الشرق، والذي جعل منه حلقة وصل استراتيجيّة بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، تعاقبت على أرجاء المكان الأردني ممالك وكيانات وأمم، جعلت منه مسرحًا للتفاعل الحضاري، ومتحفًا زاخرًا بالأوابد التاريخية والمعالم الأثرية التي ما تزال شاهدًا على الدور الرئيس الذي حظي به موقع الأردن في إرساء قواعد الحضارة الإنسانيّة.
ولنا في تماثيل عين غزال التي تُعدُّ من أقدم المنحوتات المصنّعة في التاريخ البشري، والتي تعود إلى العصر الحجري الحديث Neolithic)) قبل نحو عشرة آلاف عام، مثالٌ ساطعٌ على تطوُّر الحضارات الإنسانيّة وتعاقبها على جغرافية الأردن، وهي تسرد حكاية الإنسان منذ فجر التاريخ مع الطبيعة والمكان، ومع اشتراطات "التحدي والاستجابة" لصنوف معطيات الحياة ومعتركاتها على غير صعيد.
فيما تُعدُّ البتراء؛ "المدينة الورديّة" التي نحتها العرب الأنباط قبل نحو 2500 عام في جنوب الأردن، من أهم تجلّيات التاريخ الإنساني في الإبداع والرقيّ والتنظيم. إذْ تختلط في حضرتها المتعة بالمعرفة، ويتقاطع الجمال مع سحر المكان، أمام أروع صرح حضاري شيّدته السواعد العربيّة على مرّ الزمان.
ومع مسلّة الملك المؤابي ميشع، التي تسرد بنقشها الجمالي المصمَّم من الحجر البازلتي الأسود، انتصارات ميشع على بني إسرائيل في القرن التاسع قبل الميلاد، نتعرَّف على أقدم المسلّات التاريخيّة في بلاد الشام، إضافة إلى كون المسلّة التي اكتُشفت عام 1868 في ذيبان عاصمة المملكة المؤابيّة، المسلّة الوحيدة الكاملة في العالم.
ما تزال مسلّة ميشع، المعروضة في متحف اللوفر بباريس، شاهدًا على واحدة من أهم الحِقب التاريخيّة التي احتضنتها المملكة المؤابيّة، لجهة النشاط العمراني، والتمتُّع بالرَّخاء والازدهار.
ومع امتداد الحضارة العربيّة الإسلاميّة، تشهد الصحراء الأردنيّة تشييد العديد من القصور الأمويّة الشهيرة، مثل الحلّابات والحرّانة والمشتّى، وقُصير عَمْرة الذي ازدانت جدرانه بروائع التصوير الإسلامي، لتشكّل إضافة نوعيّة لتراكم مخزون التراث البصري الذي احتضنه الأردن على مدار الحِقب التاريخيّة المتعاقبة.
فالنّتاجات الفنيّة التي جسَّدها الإنسان القديم في شرق المتوسط، ومنها "المجتمعات التي أنتجت الظواهر الفنيّة التشكيليّة في الأردن ودول الإقليم قبل نحو 10 آلاف عام، تشاكلت مع الأسطورة في تمثيل قوانين الطبيعة ومصير الإنسان"، وهو التشاكل الذي انتقلت منجزاته وتعبيراته الفنيّة من حيزها الجمعي (بوصفها نتاج تلك المجتمعات) في التعبير عن تلك القوانين، إلى حيزها الفردي الذي تبوّأه الفنّان الأردني في التعبير عن طيفٍ واسعٍ من الموضوعات التي تعاين علاقة الإنسان مع محيطه وبيئته من منظور دينامي ومعاصر.
لم يقف الفنّان الأردني في تعامله مع مخزون تراثه الحضاري، الذي شكّل له على الدوام رافدًا تعبيريًّا وجماليًّا لا ينضب، موقفًا سكونيًّا يعتمد على التلقّي والتّقليد، بل راح في منجزه الفني يحاور مكوّنات مخزونه الحضاري بعين مفتوحة على الحاضر وهي تعاين أصداء الرنين المتحدّر من جرس الزمان الموشوم بذاكرة المكان.
فكان الاستلهام، وكانت الإضافة والتجاوز، مرتكزات الفنان الأردني وروافعه في معاينة إرثه الحضاري بعينٍ معاصرة؛ عينٌ ظلّت مشدودة إلى مقاربة المسافة بين مرجعيّاتها المتنافذة مع جذورها الشرقيّة، ومع موروثات حضارتها العربيّة والإسلاميّة.
تنوّعت انشغالات الفنّان الأردني وتوزَّعت مع بواكير تأسيس الدولة الأردنية، على حقول التعبيرات البصرية بموادها وتقنياتها المختلفة، وحقّقت منجزاته في الفنون الشعبية، والرسم والحفر والنحت والخزف والتصوير الضوئي وفنون التجهيز الإنشائي، تراكماتها التعبيرية، وانزياحاتها الجمالية ضمن السياق المعاصر للفنون التشكيلية العربية والعالمية. وهو ما جعل من التشكيل الأردني المعاصر، إطلالة مفتوحة على مشهد حافل بالتنوُّع والثَّراء.
• الابتكار والتَّجديد
وعلى الرّغم ممّا حملته المبادرات الأولى لروّاد الفن التشكيلي في الأردن، من ارتسامات تسجيليّة وانطباعيّة تدور في فلك محاكاة البيئة المحليّة وظواهر الواقع المعيش، إلا أنها شكّلت اللّبنات الرئيسة لملامح التشكيل المعاصر، باتجاهاته وتقنياته المختلفة التي تبلورت عبر تراكم التجربة والمعرفة والخبرة الأكاديمية.
اتجاهات التشكيل المعاصر في مشهده الأردني، وخاصة في فن الرسم والتصوير، والتي تحرّكت بين أجيال وتجارب مختلفة، من حيث تنوُّع الرُّؤى والصياغات والتقنيات؛ تُلْفت إلى اهتمامات الفنّان الأردني وانشغالاته مع المعطيات البصريّة الجديدة التي أضفى عليها رؤيته وأسلوبيّته في التَّعبير والتَّشكيل.
ومع فنّ النَّحت، انطلق النحات الأردني في رؤيته الفنية، التعبيرية والجمالية، من خبرته مع التراكمات المعاصرة لفنّ النَّحت الحديث، مستندًا على الموروثات الحضارية والشواهد النحتية التي احتضنها الأردن وتفاعل معها على مرّ العصور. ومع هذا المنطلق شَرع بتأسيس منجزه النحتي، بمواده وتقنياته المتنوّعة، وفق مقارباته الحسيّة والتعبيريّة بين معطيات النحت المعاصر، ومعطيات إرثه النحتي، التي حاور مذاقاتها التعبيريّة بروحيّة مفتوحة على آفاق الاستكشاف والتجريب والتجديد.
ومع الصورة الفوتوغرافيّة، التي بدأت ثقافتها الجماليّة بالشيوع والانتشار في محيطها الأردني منذ سبعينات القرن الماضي، راح الفنان الفوتوغرافي يعاين جماليّات الظواهر المرئيّة في محيطه البيئي التي شكّلت الطبيعة الأردنية، بما تحفل به من جماليّات فريدة بسبب تنوُّعها البيئي، إلى جانب المعالم التاريخية والتراثية؛ الموضوع الرئيس الذي رصد جماليّاته بالمعاينة والتقصّي والتثبيت.
فيما شكّل الانفتاح على حرية التعبير والتجريب في فن الجرافيك (الحَفْر)، روافع جماليّة صبغت اتجاهات المشهد الجرافيكي المعاصر في الأردن بتنوُّع وسائطه وتقنياته، التي أحاط بها، وعبّر من خلالها عن خصوصيّته الفنيّة بثقة واقتدار، ضمن الطروحات والاتجاهات التي ميّزت فنّ الجرافيك المعاصر.
فيما يعود فنّ السيراميك (الخزف) في الأردن إلى الحضارات القديمة التي تعاقبت على جغرافيّته، وتحلّى بمزايا جماليّة وتقنيّة قلّ نظيرها، خاصة مع الخزف النبطي. اكتشف الفنان الأردني إمكانات الخزف التعبيريّة وطواعيته التشكيليّة، فأضفي عليها رؤيته، وأعاد إنتاجها بثقةٍ واقتدارٍ، وفق السمات الخاصّة بموروثه الحضاريّ.
• البدايات والتحوُّلات
ظهرت البدايات الأولى للتشكيل الأردني على يد فنانين وافدين، هما اللبناني عمر الأنسي، والتركي ضياء الدين سليمان. فقد حضر الأنسي إلى عمّان في العام 1923 قادمًا من بيروت، ليمكث فيها خمس سنوات مارس خلالها الرسم المائي والزيتي بأسلوبٍ انطباعي، ليغادر بعدها إلى باريس لدراسة الفنون.
أمّا الفنان ضياء الدين سليمان الذي كان ضابطًا في الجيش التركي المقيم في بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد عاش بعد انتهاء الحرب في فلسطين التي قدم منها إلى عمّان في العام 1930، ليمارس الرسم بالألوان الزيتية، فرسم عمّان وجرش وطبريّا والقدس، ليقيم أوَّل معرض له عام 1938 في فندق فيلادلفيا بعمّان.
بينما يُعدّ الفنان جمال بدران المولود في حيفا، أوّل فنان يحمل مؤهلًا أكاديميًا، حيث درس الفنون التطبيقية في القاهرة (1922- 1927) ليكمل بعد ذلك دراسته في بريطانيا (1934-1937) في مجال الفنون التطبيقية والزخرفة. وهو ما أتاح له لاحقًا الإشراف على ترميم المسجد الأقصى، وإعادة منبر صلاح الدين إلى وضعه الطبيعي بعد أن حرقه "الإسرائيليون" في العام 1969.
في منتصف أربعينات القرن الماضي، برزت مجموعة من هواة الرسم الذين كانوا يعرضون أعمالهم في صالونات الحلاقة والمحلات العامة بسبب عدم وجود صالات فنيّة لعرض أعمالهم فيها، ومنهم رفيق اللحام، وحلمي حميد ويعقوب السكر الذي صمَّم العملة الأردنية والعديد من الطوابع البريدية. وكان شيخ الفنانين الأردنيين الفنان رفيق اللحام الذي رحل مؤخرًا أثناء إعداد هذا الملف، من أبرز الهواة في تلك الفترة، حيث عرض رسوماته مع الفنان عمر الأنسي الذي عاد إلى عمّان بعد إنهاء دراسته في باريس.
كما ساهم الفنان الروسي جورج أليف، الذي وصل إلى عمّان مع بداية النكبة الفلسطينية قادمًا من فلسطين، في صياغة الملامح التشكيليّة الأولى في الأردن، من خلال تدريس الفن لعدد من الفنانين، مثل مهنا الدرة ورفيق اللحام ونائلة ذيب، حيث امتاز أسلوبه الفني بالواقعية الفطرية التي عبّرت عنها معارضه منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وحتى العام 1968 الذي غادر فيه إلى بيروت.
شهدت عمّان منذ بداية خمسينات القرن الماضي حتى نهاية ستيناته، عشرات المعارض التي شكّلت اللبنات الرئيسة للحركة التشكيلية الراهنة.
ففي العام 1951 أقيم معرض جماعي في "المنتدى العربي" شارك فيه عدد من الفنانين، منهم مهنا الدرة ورفيق اللحام وقاسم شعبان وهاشم حجازي. وفي العام 1952 أقيم المعرض الزراعي الصناعي الأردني الأوَّل، حيث ضمّ جناحًا خاصًا بالفن التشكيلي. كما أُقيم معرضٌ جماعيٌّ في العام الذي تلاه في الكلية العلمية الإسلامية، ومعرض آخر للمنتدى العربي. بينما عَرَضَتْ "ندوة الفن الأردني" التي تأسست عام 1951 أعمال نحو 50 فنانًا وهاويًا من أعضائها في معهد النهضة العلمي.
ومنذ العام 1958، بدأت المعارض الفردية بالظهور، فأقامت الفنانة عفاف عرفات الحاصلة حينها على دبلوم الفنون من بريطانيا عام 1957، معرضها الأول بفندق الإمبسادور في القدس، ومعرضها الثاني في المركز الثقافي البريطاني في عمّان عام 1959.
كما أقيم في العام 1960 معرض التصوير الجماعي الأول بدعوة من رئاسة التوجيه والإعلام، ليتبعه بعام معرض جماعي في أمانة العاصمة. وفي العام 1962 تأسست "ندوة الرسم والنحت الأردنية" التي أقامت العديد من المعارض الفنية، منها معرض "الخريف" في أمانة العاصمة الذي ضمّ أعمال نحو 50 فنانًا وهاويًا، من بينهم الأميرة وجدان الهاشمي، أرسلان رمضان، توفيق السيد، جورج أليف، رفيق اللحام، منى السعودي، هاني الحوراني وكمال بلاطة.
شهدت عمّان بعد ذلك نشاطًا فنيًا متناميًا، خاصة في مرحلة السبعينات، بعد عودة دارسي الفنون من الدول الأوروبية والعربية، فتوالت المعارض الفردية والجماعية. وفي عام 1972، تمّ تأسيس معهد الفنون الجميلة التابع لدائرة الثقافة والفنون قبل أن تصبح وزارة الثقافة، حيث تسلّم الفنان مهنا الدرّة منصب المدير العام للمعهد، فتتلمذ على يديه العديد من الفنانين الأردنيين، كما شهدت هذه المرحلة تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين في العام 1977، تلاها تأسيس قسم الفنون الجميلة في جامعة اليرموك عام 1981.
وتعتبر مرحلة تسعينات القرن الماضي وما بعدها، من أخصب المراحل الفنية التي شهدتها الحركة التشكيلية على نحوٍ غير مسبوق، وذلك بسبب انتقال أعداد كبيرة من الفنانين العراقيين من أجيال مختلفة إلى المملكة بعد حرب الخليج الثانية، وهو ما شكّل للفنان الأردني أرضيّة خصبة للتعرُّف على تجارب الفنانين العراقيين والتفاعل معها عن قرب. تلك المرحلة أفضت إلى ازدياد مضطَّرِد في عدد المعارض وصالات العروض الفنية التي ناهزت نحو 30 صالة عرض في عمّان.
• تجربتان رائدتان
لا يمكن التطرُّق إلى بدايات الفن التشكيلي الأردني، وتتبُّع مراحله وتحوُّلاته، من دون التوقُّف عند تجربتين رائدتين ساهمتا في تشكيل البواكير الأولى للفن الأردني، ولازمتا مراحل نهوضه من دون انقطاع على مدار سبعة عقود. وهما رائد الحداثة التشكيلية في مشهدها الأردني الفنان مهنا الدرة الذي رحل بداية هذا العام، وشيخ التشكيليين الأردنيين الفنان رفيق اللحام الذي رحل أثناء إعداد هذا الملف.
• الفنّان مهنا الدرّة
قُرب "سيل عمّان" كانت ولادة الفنان مهنا الدرة في العام 1938. هناك ابتدأت معالم موهبته بالتشكُّل متأثرةً بمحيطها الناغل بالحركة والتنوُّع والانسجام، وهو المحيط الذي عاينته لوحته بعيدًا عن التنميطات والترسيمات المسبقة، ما جعل منه رائدًا حداثيًّا مجددًا في التشكيل الأردني، وحاضرًا على الدوام في مناخه المعاصر.
شكَّلت الحكايات غير المرئية في طفولته المبكرة، بداية منطلقاته الحسية والذهنية. فأثناء تواجد عائلته في مدينة الكرك (140 كلم جنوب العاصمة الأردنية) مطلع أربعينات القرن الماضي، حيث كان والده مديرًا لمدرستها الثانوية، أخذت الحكايات الخرافية والقصص المأهولة بعوالم الجنيّات في قلعة الكرك وآثارها (التي يعود بناؤها إلى عهد المؤابيين في القرن التاسع قبل الميلاد)، تتسرّب من الغرف المعتمة في القلعة إلى غرف خاصة في رأسه، ليكشف بإدراكه الحسّي المبكر عن مكنونات عالم خفي غير مرئي، وهو العالم الذي وشّح مرئيّاته الفنيّة في جميع مراحله لأزيد من سبعة عقود.
فيما شكّل "سيل عمّان"، بهدوئه وصخبه، المحطات الأولى في إدراكه البصري. فمن متعته في مراقبة قطع الأثاث القديمة وهي تطفو، والأكواخ التي يجرّها الفيضان، إلى معاناته اليومية في قطع السيل من البيت إلى المدرسة، إضافةً إلى سحر انعكاس الأضواء الليلية على سطح الماء؛ كل ذلك أسهم بتشكيل مصادره البكر في التماعات رؤيته الفنية "على الرغم من كل شيء اتخذتُ السيل صديقًا لي، وقد لعب دورًا مركزيًا في المراحل الأولى من حياتي ولغاية الآن؛ فما زلت أتذكر شفافية المكان، والأمواج الضعيفة التي تتراقص كخيوط الفضة، بانعكاساتها المختلفة، إذا ما سقط عليها الضوء".
ومع الفنان الروسي جورج أليف وتتلمذه عليه في نهاية الأربعينات في عمّان، أخذ إدراك مهنا للفن يأخذ منحى جديدًا في معاينة ظواهر العالم وموجوداته "كان أليف أوَّل مَن علّمني أساسيات الألوان المائية، حيث كانت أوَّل تجربة أواجه بها مباشرة معرفتي بالفن، وكانت الانطلاقة التي جعلتني مستعدًّا لمواجهة العالم".
وبتعرُّفه، في بداية الخمسينات، على الفنان الهولندي وليم هلووين، تعرَّف على المدرسة الهولندية في الفن، وتحديدًا تجربة الضوء عند رمبرانت بما تحفل به من طاقة وحركة، ومنها تدّرج الدرّة إلى الملامح الأولى في التجريد اللوني، وهي نفسها "التجربة السحريّة التي تجعل الرؤية ممكنة" بحسب الفنان.
خلال التحاقه بأكاديمية روما للفنون الجميلة أواسط خمسينات القرن الماضي، تعرَّف الدرة على الجمال المعماري لمدينة روما، كما تعرَّف على أساتذة عصر النهضة في متاحف إيطاليا وكنائسها.
يعود في عام 1959 إلى عمّان مدرِّسًا للفنون في معهد المعلمين. وبعد عام يغادر مرَّة أخرى إلى روما لمدة عشرة أعوام عاملًا في السلك الدبلوماسي؛ فتُعرف أعماله على مستوى عالمي بفعل معارِضِه خارج الأردن التي عرّفت بفرادة أسلوبه الفني وتميُّزه.
عُيِّن الدرّة في عام 1971 مديرًا عامًا لدائرة الثقافة والفنون قبل أن تصبح وزارة الثقافة، ليشرع بعد ذلك بعام بتأسيس معهد الفنون الجميلة، ليتتلمذ على يديه العديد من الفنانين الأردنيين. ونتيجة لجهوده وإسهاماته المتميزة في إغناء المسيرة الثقافية والفنية، استحقّ أول جائزة تقديرية تمنحها الدولة في الآداب والفنون عام 1977.
بعد ذلك عمل في جامعة الدول العربية مديرًا للشؤون الثقافية في عام 1981، كما عمل سفيرًا لجامعة الدول العربية منذ عام 1992 وحتى عام 2000، ليستقرّ به المطاف في عمّان.
ابتدأت تجربة الدرّة الفنية بمحيطه الخاص، مكانًا وإنسانًا. وكان لقسمات الوجوه وملامحها التعبيرية، النصيب الأكبر في بحثه عن الإيقاع الذي شكّل الناظم الحيوي للطاقة الحركية في لوحته، بوصفها النقيض المُضْمر للسكون والجمود. كما شكّل "رسم الفعل" Action Painting، إيقاعًا مشتركًا بين مختلف مراحل الدرّة الفنية؛ فمن مرحلته الزرقاء، التي شكّل البورتريه منطلقها ومحورها في بداياته الفنية، إلى تكعيبيته- التجريدية، بتكويناتها المتداخلة ومناظرها الآخذة بالتآكل والتصدُّع، وصولًا إلى تجريديته التي تمنح الكتلة مداها الحركي عبر شفافية اللون وتدرُّجاته، بالإضافة إلى رسوماته بالحبر الصيني، بموضوعاته الراقصة في فضاء مشحون بالطاقة والحيوية.
نأيه عن السرديات الإنشائية، وعدم ارتهانه للشروط الخارجة عن مقتضيات الحسّ والشعور، إضافة إلى صدقيّته وعفويّته، جميعها ساهمت في تشكيل خياراته الحرّة في التعامل مع لوحةٍ لا تحتكم إلّا لمعيارها الخاص في الإنشاء والتعبير.
• رفيق اللحام
شيخ التشكيليّين الأردنيّين
أسَّس رفيق اللحام "ندوة الفن الأردني" عام 1951، واتحاد التشكيليين العرب في بغداد عام 1971، ورابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين عام 1977، وهو من مواليد دمشق عام 1931، وقد أدرك مبكرًا أنَّ العاطفة وحدها، مهما بلغت درجة اتّقادها، لا تُنضج فنًّا، أو تسوّغه؛ فعرف كيف يكبح جموحها، وكيف يراوغ انفلاتاتها وتقلباتها عبر استدراجها الوئيد إلى هندسة الجمال.
استدراج العاطفة إلى هندسة الجمال، يعني أن تكونَ دائمًا على أُهْبة التحفّز والامتثال إلى استحقاقات العاطفة والجمال معًا. ويعني أيضًا، أن يكون رفيق اللحام إنسانًا وفنانًا، مع مساحةٍ واسعةٍ من الثقة والتجريب والاقتدار. وهي صفات ظلّت ملازمة له في حياته وفنّه على السواء.
ترويب العاطفة بالجمال، وتنقيتها من شوائب المغالاة والانفعال، هو ما منح الفنان رفيق اللحام تلك المساحة الواسعة والمتنوِّعة في تناوله أكثر الموضوعات ارتباطًا بالعاطفة والوجدان، خاصةً مع موضوعة مدينة القدس التي جعل من شواهدها الجمالية والدينية والعمرانية، موضوعًا تعبيريًّا مفتوحًا للمُعاينة والتشكيل، ووفق النزعة الهندسية التي وسمت جلّ أعماله بأسلوب أقرب ما يكون إلى "الهندسة المنضبطة".
وعلى الرغم من تناول اللحام الذي تخرّج في معهد سان جاكومو بروما عام 1964، للعديد من الموضوعات المتنوعة في رسوماته، مثل المفردات والرموز الجمالية التي يزخر بها موروث الحضارة العربية والإسلامية، إلى جانب أنماط من الحياة الشعبيّة والعلامات التراثيّة السائدة في محيطه وبيئته؛ إلا أنّ الحضور المحوري الذي حظيت به مدينة القدس في جلّ أعماله، وألقى بظلاله على موضوعاته الأخرى، لم يكن سوى نتاج تلك المقاربة الحميمة بين العاطفة والجمال. مقاربةٌ ظلت وفيّةً للغتها وكشوفاتها الجماليّة، من دون أن تغفل عن شروطها الاجتماعيّة والتاريخيّة.
رغبة اللحام الذي التحق العام 1967 بمعهد روتشستر التكنولوجي في ولاية نيويورك دارسًا للرسم وفن الحفر، في تأكيد ارتباطه بالتقاليد التشكيلية العربية والإسلامية، من دون أن يتخلى عن القيم الفنية العالمية، لجهة الرؤية والتكوين؛ ترجع إلى ارتباطه بمنهجية الظاهرة الأسلوبية المتنوعة، حيث يتنقل في منجزه التشكيلي بين أكثر من طابع فني، وهو ما يتوافق مع التزامه بضرورة تكثيف التعبير الفني كعالم مستقل تحكمه الرؤية الجماليّة- العينيّة والذهنيّة.
المعمار التكويني للوحة الفنان، يستند بشكل رئيس على سلسلة الإيقاعات البصرية الراشحة من تنويعات الزحرفة الهندسية، ومن طواعية الحرف العربي وإمكاناته الشكلية في ابتكار علاقات جديدة مع غيره من عناصر لوحته. إنه المعمار الذي أفضى إلى ذلك التماسك والانسياب على السطح التصويري الذي صار بفعل تواشج العلاقات والتعبيرات، مصهرةً للذاكرة والعاطفة والخيال.
اللحام الذي أقام مع الفنان الأميركي "بول لنجرن" دورة لفن الطباعة في مركز كندي ببيروت عام 1969، يُعدّ أول فنان أردني مارس فن الغرافيك. كما كان أول مَن قام بتأسيس الجمعيات الفنية في الأردن، وهو أيضًا أول فنان أردني يستخدم في عقد الستينات الحرف العربي كعنصر جمالي مرتبط عضويًّا مع العناصر الأخرى للوحته، مثل المساحات اللونيّة، والكتل والفراغات، والتكوينات المعماريّة والزخارف الهندسيّة.
تتنوَّع أعمال اللحام وتتوزَّع على العديد من الأساليب والتقنيات والحقول البصريّة المختلفة، مثل الرسم والتصوير والتصميم وفن الحفر والطباعة والنحت والخط العربي، وهو في جميع تلك الحقول، ظلّ وفيًّا لحريّته في البحث والتجريب والتجديد. ومع مجالاته البصرية المتنوعة، سرعان ما نتعرَّف على المفردات والرموز الفنيّة التي شكّلت قسمات تجربته الفنيّة ولازمتها منذ بداياتها الأولى، مثل مآذن المساجد وصلبان الكنائس، والآلهة النبطية، والحرف العربي، إضافة إلى مظاهر الحياة التراثيّة والشعبيّة، والتي استطاع من خلال معاينتها وإعادة إنتاجها، الإنصات إلى مخزونه التراثي بروحيّة معاصرة.
كانت مهمّة رفيق اللحام، الحاصل على وسام الكوكب من الملك الراحل حسين عام 1981، وعلى جائزة الدولة التقديرية للفنون التشكيلية عام 1991، منذ انطلاقته المبكرة، كغيره من روّاد الفن التشكيلي على الساحة العربية، مهمّةً صعبةً، ليس على صعيد التصدّي للفن الغربي أو التعامل معه، بل كانت المهمّة شاقة في الوصول إلى الرُّؤية الوسطيّة بين "الأصالة والمعاصرة" في مناخ ثقافي ما يزال يناقش جدليّة هذه المصطلحات حتى الآن.