د. أسماء سالم
كاتبة وناقدة فلسطينيّة
يبدو هذا العمل (العطّار) حِراكًا سرديّا، وتَوالدًا مَزْجيّا، يخوضُ في كلّ شيء، ويتماهى معَه، في أُفق يَحدّ من الغُلوِّ والشّرائط والخصوصيّة والثّبات والتّحديد، بانتهاجِ مَسالكَ نَصّيّة تتحرّزُ من الرّقابة بالحكاية والرّواية الشّفويّة، الّتي تُحيلُ إلى الواقع وخطورته، وتُخاتلُ السُّلطات المُتعامِلة معَ الظّاهِر والمُباشِر؛ إذ ينفتح على التّراث ويوظّفه بالرّموز التّراثيّة، ووضوح المرجعيّة واستيحاء القصص السّرديّ والنّسيج اللغويّ القديم واقتباس الشّعر واستحضار الحواشي والأجناس الأخرى: المَقامة والحكاية الشّعبيّة وأدب الرّحلة والسّيرة الذّاتيّة والغيريّة، مُسلّطًا الضّوءَ على إشكاليّة الزّمن والصّراع والتّوتّر، دينيًّا وجنسيًّا وسياسيًّا، بإتقانٍ وإحكامٍ واعٍ وطاقاتٍ مُستجيبة للحاضر والماضي، منذ البداية، حتّى النّهاية.
صَدَرَت مُؤخَّرًا روايةٌ (العَطّار) لـ(نَصْر سامي)، بإهداء مُنسجِم معَ قضيّة الجَسَد الّتي تطرحُها من منظورٍ آخَر، فكان: "إلى جميع النّساء اللواتي عرفَهُن"( )، واللائي نَقَشَ مَعَهُنّ صورةً لخارطةِ جَسَدِه، وتحوُّلاته؛ وبتصديرٍ يُومئ إلى فضائها الغامِض والمُكتظّ والمَفتوح، والمَعنيّ بالحكاية وآثارها: "إذا لم أكتب الأشياء كما حدثَتْ لي أحسستُ أنّي سأفقدُ أثرَها للأبد"( )، مُمهّدًا لاقتطافه مِنَ المُقدَّس( ) المؤكّد لإرادةَ الذّات، وتوقَها إلى اللامرئيّ، والتّماهي، والقوى الخارقة، وإلى رؤيةِ العالَم بانعتاقِ الجسد وتحرُّرِهِ على الرغم من قيود الانجذاب إلى الشّهوات والغرائز والنّزوات من جهة، وإلى التّهميش والموت والغياب من جهة أخرى، وذلك في أقسام خمسةٍ منسجمةٍ ومُشبَعةٍ بالمَوروث والمُعاصِر، اكْتَمَلَ بها تشكيلُ الرّواية، بتراتبيّة مقبولة ومُحكَمة؛ فالمقدّمات أو النّهايات الّتي لا فرق بينَها في حياة البَطَل، أفضَت إلى سواءِ الحديث عن علاقاته، والانفتاح على رَسْمٍ داخليّ ونَحْتٍ خارجيّ تَفصيليّ، مُستغرِقٍ في تصويرِ شخصيّات رواية العطّار (برلتراس)، النّابتة في أحضانها، مؤكّدًا موقفَه المُغاير من الطّين وتكوينه وتشكيله، انتهاء بالحديث عن رحلاته وتحوّلاته، وفلسفة (الكاتب) ورؤيته للسّرد...
والواضحُ أنّ عناوينَ الرواية بعيدةُ المُعطيات والدّلالات، معَ وضوح تداخل الفنون والعلوم: الرّسم والتّلوين والنّحْت والفلسفة والاجتماع والسّياسة والرّحلة والسّيرة؛ فمنذ البداية انفتحَ العمل على التّراث المرويّ، بتوظيف الأسلوب الحكائيّ، ومتعلّقاته: "يا سادة، يا مادَة، يدلّنا ويدلّكم على طريق الشّهادَة. سأحكي لكم، فيما يلي، حكاية جمال الدّين العطّار، الصّباح هنا مبلول خائر جاثم على القلوب، والأهل والولد بعيدون عنه"( )؛ وفيهِ تجلّى العطّارُ بحاضره وماضيه وضبابيّة مُستقبله؛ إذ يحكي هذا الخطابُ الشّفويّ قصّةَ البطل ومغامراته وآثامه، مسترجعًا علاقاته، وبيئته الأولى، ففي القسم الأول تنعكس مرايا ماضيه، وقوفًا على النّتيجة الّتي انتهى إليها زاهدًا في الدّنيا، وفي الثّاني يرسم لوحةً استرجاعيّة لِعلاقاته بالعربيّات وغيرهنّ، في سلسلة من قصصهنّ المُثخَنة بقصّته الواحدة الواضحة والغامضة معًا؛ وفي الثّالث تشريحٌ يبرز به البُعدُ العجائبيّ، والغرائبيّ، والإنسانيّ العاطفيّ، والسّيريّ؛ فالعطّار كاتبٌ ورسّامٌ ونحّات؛ وكذلك التّمكّنُ الفنّيّ الأدائيّ والفكريّ، الّذي فَسَح المجال لتلاقح الفنون في تشكيله السّرديّ المَفتوح والمُتمعِّن، بينما يتجلّى في الرّابع صراعُ الذّات مع المجهول والمُتناقض؛ إذ يخوض البطل تجارِبَ حياتيّة تُورّطُهُ في دول شمال أفريقيا، من خلال بُؤَرِ تَوتّر أثّرت في تَحوّله وتمزّقه، وفي سلوكيّاته داخليًّا وخارجيًّا، مُلقيًا الضَّوْءَ على المُثقَّف الموهوم والمُدّعي، والشّخصيّات الازدواجيّة، والبيئات الّتي خلقتْهم وخنقتْهم، وكاشِفًا بعضَ أمراض تلك البيئات الصّحراويّة، وواقعًا مأساويًّا، خروجًا على قدرات السّلطة؛ وفي استحضاره دول الشّمال الأفريقيّ وصُوَرها، ما يذكّر برواية الطّيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشّمال)، في فضاءٍ خلَقَ موضوعُهُ جوًّا من التّوتّر؛ ولعلّ التّدرّج في تورّطه وتعقُّد حياته يحيل إلى (مورفولوجيا) الحكاية الشّعبيّة الّتي وضعَها (بروب)( )؛ أمّا القسم الخامس فيعلن خروجَ الشّخصيّة على الكاتب، وتحرّرَ السّرد من نمطيّته، والانفتاح على الشّعريّة والسّرّيّة، خاصًّا الحديثَ عن السّرد التّأمليّ، والشّخصيّات الّتي مثّلَتِ الأفكار.
ولعلَّ الأبرزَ حُضورُ المرأةِ بِطينيّة ظاهريّة، وفقَ تَصوُّر المُجتَمَعات والثّقافة العربيّة، وإلحاح صورتها مِن حيثُ التّكوين والغزارة والتّشكيل، بوصفٍ حِسّيّ دقيق، ورمزيّة تلاءَمَ معَها تكثيفُ معجم الطّبيعة لأنّه كُنه التّكوين، وتكرار مفردات الأرض والطّين والشّجر والنّبات، والتّركيز على الجسد وعزلته وحاجاته؛ وقد تعدّدتْ صُوَرُ المرأة وقِصصها وظروف معاناتها، والنّظرة إليها، والملذّات الموروثة عنها، ويكاد العطّار يصرّح بذلك في سياق علاقاته، المُمثِّلة لِهَمِّ امتلاك الأجساد واقعًا ومُتخيَّلًا، بالمثقّفات كـ(بهجة الشّاعرة)، والسّاقطات كـ(خوخة) مثلًا: "وكان يطوف بي حشد لا نهاية له من النّكرات: فاسدات، بنات ليل، خادمات، مُشرّدات، دعكتُهُنّ بقسوة وتحقير، كما دعكهنّ الزّمن بفظاظة، فعلتُ أمورًا مُخزية كثيرة، وشهدت أكثر الأمور قذارة"( )؛ وتعدّ قضيّة المرأة من القضايا الاجتماعيّة المهمّة الّتي انسجمت مع موضوع الجسد المُستوعِب للرَّسم والنّحْت والأَدب، ومَعَ الجنس والمَصالح والمال، بحثًا عن الحقيقة والانسجام والجمال، وكأنّ العطّارَ (ابنُ بَطّوطةِ) عصرِه، وكأنّ المرأة الجَسَد في العمل ظاهرة خاصّة ذات معانٍ قريبة وبعيدة، سطحيّة وعميقة، تسلّط الضّوء على رؤيتها العامّة والخاصّة، مُسهِمًا في سَبْر الأغوار، وتنامي الأحداث، وتلوين المشاهد؛ فالمرأةُ من خلال علاقاته المحسوسة بها السّرّ والملجأُ والحَقيقة الّتي يبحث عنها؛ والجسدُ الّذي يستطيع تشكيلَهُ، وفقَ ما يشاء، مُنفتِحًا على قرائن الجنس، انسجامًا مع فكرة الجسد الّذي تنهبه اللذّة، وينسَخُهُ الزّمن، حتّى الموت...
ويبدو هذا العمل حِراكًا سرديّا، وتَوالدًا مَزْجيّا، يخوضُ في كلّ شيء، ويتماهى معَه، في أُفق يَحدّ من الغُلوِّ، والشّرائط، والخصوصيّة، والثّبات، والتّحديد، بانتهاجِ مَسالكَ نَصّيّة، تتحرّزُ من الرّقابة، بالحكاية والرّواية الشّفويّة، الّتي تُحيلُ إلى الواقع وخطورته، وتُخاتلُ السُّلطات المُتعامِلة معَ الظّاهِر والمُباشِر؛ إذ ينفتح على التّراث ويوظّفه بالرّموز التّراثيّة، ووضوح المرجعيّة، واستيحاء القصص السّرديّ، والنّسيج اللغويّ القديم، واقتباس الشّعر، واستحضار الحواشي، والأجناس الأخرى: المَقامة، والحكاية الشّعبيّة، وأدب الرّحلة، والسّيرة الذّاتيّة والغيريّة، مُسلّطًا الضّوءَ على إشكاليّة الزّمن والصّراع والتّوتّر، دينيًّا وجنسيًّا وسياسيًّا، بإتقانٍ، وإحكامٍ واعٍ، وطاقاتٍ مُستجيبة للحاضر والماضي، منذ البداية، حتّى النّهاية: "وحكايتنا غابة غابة، كلّ عامّ تجينا صابة"( )، ضاجًّا بالذّكريات والرّسائل والأحاسيس والأحلام والتّداعي: "يا فتنة الرّوح أحتاجك، وأحتاج إيمانًا لألقيَ بالعذابات في مزابل البشريّة، أحتاج إيمانًا لأصدعَ بنذر الرّاهبات، وأقول يا نار كوني برْدًا وسلامًا، أحتاج إيمانًا بك لا يهتزّ"( )، بما يبرز تشابُك الأساطير والفلسفات والعلوم والتّاريخ بالتّجارب الواقعيّة والأدبيّة؛ مع إنكار المَرجعيّات الّتي تحدّ من الفعل الجديد والفكر الخلّاق والجسد المتحرّر، وعدم الإيمان بتابو الجنس القامع، وهنا يمتزج الدّينيّ بالجنسيّ في توليفة سرديّة واعية ولاواعية، أحسنتْ استثمارَ الحوار الخارجيّ والدّاخليّ، والهَذَيان، واللغة الدّارجة، والفنّ التّشكيليّ، إلى جانب السّيريّ، وكذلك رسم الشّخصيّات، بخصوصيّةٍ كسرَتْ بِنية الخطاب الرّوائيّ التّقليديّ، وامتصَّتْ قدرَ المُستطاع بعض الرّموز الأسطوريّة والملحميّة، كـ(أورفيوس ويوريدس)( ) في أسطورة إغريقيّة( )، و(أنكيدو) في ملحمة (جلجامش)( ) السّومريّة، المُسلِّطة الضّوء على معاناة الجسد وانتهاء مغامراتِهِ بالموت والفناء واللاشيء، وذلك بتوظيف تقنية الاسترجاع، تأمُّلًا للماضي، ومكاشفةً جادّةً لدلالات الاستباحة؛ استباحة جَسَد المرأة، وجَسَد الرّواية، وأجساد بعض الدّول، من خلالِ استثمارِ إمكانات فنّيّة ومُعطيات واقعيّة.
والواضح أنّ العملَ ينتمي إلى (ما وراء السّرد) إذ يعي به القارئ أنّ الأحداثَ تضمّ بين جناحيْها رواية، مُتعامِلًا معَ النّصّ كلعبة، يضع فيه التّعليقات، ويفسح للشّخصيّات التّعبيرَ عن قلقها، وإن كانت ورقيّةً يتحكّم بها الكاتبُ المُمارِس لفعل الكتابة؛ فالرّوايةُ الّتي أخبَرَ عنها البطل نصّ داخلَ نصّ، يستجيبُ للموروث تحشية وتوضيحًا وتعليقًا، مثلَ ذِكْرِ مَطلع نونيّة الأسَديّ( )؛ ويَسلُكُ مَسلَكًا مُغايرًا في وقوفه على الأدب وتشكيله وجدواه ووظائفه، وفي حواره للذّات وطاقاتها، وفي مواجهته للسّلطات، ومكاشفته لحدود الزّمان والمكان، وفي تجلّيه للأعماق، وإبرازه للمكبوت والمأزوم.
ويكادُ يكونُ العمل من الأدب المُكتنِز باللَونِ والشَّكل؛ تحايلًا، من الكتابة إلى اللاكتابة، إلى المُطلَق، عن الجَسَد الّذي لا يؤمنُ بالمتن والفَضيلة، بل بالهامش والرّذيلة، من خلال استيعاب الواقع بمتغيّراته، وتقنيات التّعبير الذّهني، ورمزيّة التّوظيف، تعبيرًا عن عالَمٍ متراكمِ الأفق، وممتدِّ الفضاءات، ومُختزلِ الأزمنة والأمكنة، احتضنَ الكثيرَ من الحكايات المتوالدة والمتوافقة، حتّى باتَ توليفةً سرديّة حكائيّة قديمة وجديدة، وموسوعةً قصصيّة تصوّر الغنى والفقر، والمعاناة والملذّة، وتستحضرُ التّاريخَ ومَقولاته، وتتأمّلُ الأدبَ القديمَ والحديث، وتنقشُ صورةً لما يجب أن يكون عليه السّرد؛ فـ(نَصْر) قَلِقٌ وغيرُ مُستقِرّ، ينطلق من وعي عميق للسّرد وانفتاحه، مُبدِعًا بأسلوب مغاير ومُستوعِب للذّكريات والسّير والرّسائل، ومُستلهِمًا التّراثَ وإمكانيّاته لغةً وشكْلًا، ما يذكّر بِمُتشائِل( ) (إميل حبيبي)؛ مُستحضِرًا النّظمَ والفواصِل بما يُحيل إلى سورة الكوثر مَثَلًا، في قوله: "إنّا أعطيناك الجماهر، فاختر لنفسك وبادر، واحذر من أن تكاثر"( )، ومُتناصًّا في غير موضع مع الشّعبيّ، والمُقدَّس المُستَلهَمِ منَ القرآن والعهد القديم، لاسيّما قصص الأنبياء المُحيلة إلى الجَسَد، كعيسى ويحيى ولوط عليهم السّلام، إبداعًا وإشباعًا وإثارةً للأعماق، علاوةً على اقتباسه وتصرّفه في نصوص قديمة وحديثة، عامّيّة وفصيحة، لشعراء من شرق وغرب كـ(السّيّاب)، و(العلّاق)، و(باث)، في كتابة فعليّة مَعنيّة بدور الكاتب والقارئ، وموسوعيّة ثقافيّة تتساندُ فيها المرجعيّاتُ العقليّة والمنقولة والفلسفيّة؛ وما إلمامُهُ بالشّعر إلّا جزءٌ من كينونة وجوده، واشتغاله به، مع الرّواية والنّحت والنّقد؛ فالواضح أنّ العطّار مُغرَم بالشّعر القديم ومجموعاته كالمفضّليّات والأصمعيّات، علاوة على حكايات ألف ليلة وليلة، والشّاطر حسن، وقطر النّدى، وسندريلّا، وكتب التّصوّف، والقصص الدّينيّ، ومقولات بعض الأدباء والمفكّرين، في فضاء يُطلق المعنى الّذي قيّدَه، وحَرَمَه لذّة الاستقرار، مُتوالِدًا ومُتجدِّدًا ومُخلّدًا معَ كلِّ قراءة، ولم يأتِ هذا التّوظيفُ جزافًا ولا عَبَثًا، فكلُّه متعلّق بالمعاناة ووحدة القضيّة؛ فالجسد الّذي ركّزَ الكاتبُ في تصويره على التّفاصيل الخارجيّة ذو أبعاد رمزيّة ترفض القَمْعَ المادّيّ والمعنويّ؛ وقَمْعَ النّصّ للفِكْر والعَقْل، لذا شاركَ القارئ في كتابته بالتّأويل، غيرَ مُقتنِعٍ بالحكاية النّمطيّة، ومفتِّتًا النّصَّ، وهادمَهُ، ومُعيدًا تشكيلَه، بلغة عالية وشاعريّة تأمّليّة: "وكنت حزينًا، ودَمْعُ المساءات ينهلُ من حدق الأفق، ويخدش صمت السّحاب، وكنتُ فاقدًا لكلّ رغبة، وكانت أعماقي شموسًا، نجومُها الينابيع"( ).
لَقد تنفّسَتِ الرّواية التّراث في أعماقها، ونسجَتْه في ذاكرتها، مُصوِّرةً ماضيَ الذّوات المُرتهِنَ بسلسلة زمنيّة مُتداخِلة، ومنهج العطّار من مجونٍ وفسقٍ وأخطبوطيّة، إلى زهد وفتور وفرار من تاريخ يتصيّده، فيراقب بعينه، ويحاور نفسَهُ وغيرَهُ، ويحسّ بالنّسوة حولَهُ، كأورميلا وغيرِها، كاشِفًا عن التّحوّلات: "أنا شجرة لبّان مُسنّة، لا يرجى منّي خير. اتركيني أفضل لك"( )؛ إلّا أنّ ذئب الجسد يعوي في مناماته ومتاهاته، وذكريات علاقاته الجسديّة البحتة، والأخرى المُحايدة نوعًا ما، فيحضر معجم التّقطيع والأكل والنّهش، والمُتَع، وكذلك الثّمَر والقِطاف، والوَلَع؛ ويبرز بماضيهِ الحسّيّ ومحاولاتِهِ الانسلاخ عن واقعه، والعَيْش في ذاكرته وتهويماتها، مُعرِّفًا بنفسه وأحاسيسه، ولا قيمته: "أنا العائش في السّرد محرومًا من كلّ شيء، أنا المحروم من الضَّوْء الخارج من الجسد، أنا المفتون بكلّ غائب، وبكلّ لا مرئيّ، وبكلّ فاسد، وبكلّ يائس، وبكلّ مجهول، وبكلّ محروم. أنا بكلّ تعريفاتي السّابقة أعرف أنّني لا أتقن إلّا فنّ الحكي، أمّا الفعل فليس فيه ما يُغويني"( ).
وتَطرَحُ الرّوايةُ سيرتَه واستغراقه في الملذّات، وقضيّة الجَسَد والرُّوح، وتتناول النّجاسةَ والعِفّة، وتحوُّل البياض إلى سَواد، والحياة إلى لعبة، والسّطحيّ إلى جوهريّ، والخير إلى شَرّ، والهامش إلى مَتْن، وتخوض في تجاربه واندفاعه نحو الشّرّ، حتّى تتملّكه العَظَمةُ، والقلق قبل رحيله الأبديّ؛ فالعَطّار رجل خارق وغريب وغامض، جَمَعَ في حكايته الثّقافات واللُغات والجنسيّات، وأنشأ دويلته بنسائه وأولاده الثّلاثة والعشرين؛ ومُتعلّمٌ مثقّف وقارئ نَهِم، وشاعرٌ وكاتبٌ؛ كتابتُهُ تهويماتٌ فكريّة، عميقة وبليغة، ومُشبَعَة بالسّرّيّة، يقول: "كنتُ أُشبه حفرة، جسدي مثبّت في الفراغ، قلبي خاوٍ ورجراج، لا يملأه إلّا التّراب، وجسدي بغير هُويّة، مُنقذِف في كلّ درب، ومتّجه في كلّ اتّجاه، صارَتِ الكتابة بطريقة ما قرينتي شعرًا ونثرًا"( )، وقد أخبرَنا عن أثر الكتابة في تفكيره، وبقدرته على الكتابة الواعية الحَقّة والعَميقة والمؤثّرة، مُفتّشًا عن المخفيّ، ولائذًا باللاوعي، ومُنطلِقًا إلى اللاكتابة؛ ولسنا في صدد تحديد ماهيّة شخصيّته الّتي تبدو تاريخيّة غرائبيّة من جانب، بقدر السّعْي إلى رَسْمِ ملامحها الخارجيّة والدّاخليّة، إذ تكاد تكون أنموذجًا للشّخصيّة العربيّة المُتمزِّقة والمَهزوزة والمُنشدّة إلى ماضيها، مُحاولةً التّوازنَ والتّحايل على القيود، بتداخُل المفاهيم؛ فالجسدُ لم يكن شهوةً أو شكلًا، بل وعاءً يَحكُمُه، ويقيّد أعماقه، ويرفض الانعتاق؛ ومن جانبٍ آخَر تنقذف في (ممالك الجسد) والرّذائل، وتتجاوز الزَّمَن، فتتماسّ معَ الشّاطر حَسَن، كأيقونة لصراع الرُّوح والجسد، والشّرّ والخير، والرّذيلة والفضيلة، والمجون والزّهد، والماضي والحاضر: "شجرة اللبّان الّتي في داخلي يجري فيها دم مسموم لوّثته الأيّام، كيف أغمد سكّيني في قلب الشّرّ، وأستلّ السّواد العقيم، وأرتاح؟ أنا مسافر لمّا أصل إلى بلدي، وسفري سيطول، إنّني أطلب الخلاص، الخلاص، يا أورميلا، الخلاص، لكن كيف؟"( )، ومعَ انحلالِها كما صوّرتْ نفسَها، وصوّرَها السّارد، وكشفتْ عنها الأحداث والشّخصيّات، تبرزُ متمرّدةً على الصُّعُد كافّة؛ فشتّان بين عالَم الجامِعيّ الأديب والتّشكيليّ والنّحّات النّجيب، وعالَم الشّهوانيّ المنافق وتاجرِ السّلاح والمُحرَّمات؛ في حين تتّضحُ على الصّعيد المادّيّ ظروف الفَقْرِ والبطالة والقَهْر، وعلى الصّعيد النّفسيّ الوَحدة والقَلَق والعُزلة، لتبرز ازدواجيّته المُنشقَّةً والمُفتّتةً بين التمسُّك بالعُرْف وإباحة الانحراف، والذّات المضطرِبة الوُجود والمتمزّقة بين الظّاهر والباطن، وحرّيّة التّعبير والكَبْت، والاستقرار وعَدَمِه؛ لذا تبدو الشّخصيّة مُتناقِضة في ذاتها ومع أهدافها، إثرَ عوامل نفسيّة واجتماعيّة وبيئيّة، تحكّمت في تحوّلها، فبدا (العطّار) بطلًا خارقًا، معَ ضعفه وتمزّقه وعزلته؛ منتهجًا سبيل الخلاص، كتابةً ورِحلةً، راصدًا تعدّد الثّقافات، ومُصوِّرًا مُعطياتِ الأمكنة، ووجوهَ الإنسان، وصراعَ المُهمَّشينَ والحياة والحريّة، وصولًا إلى العمق، والجديد، والمُغيَّب، واللامرئيّ.
وقد أثار العمل سؤال التّشكيل العامّ والخاصّ، والجنس السّرديّ وقيمته وخصوصيّته، وسؤال الكتابة والقراءة، وتكامليّة العلاقة بين الكاتب والقارئ، وصراع العوالم الدّاخليّة والخارجيّة، والذّاتيّة والغيريّة، والأساليب القديمة والجديدة، والمسكوت عنه؛ فلم يُكتب للاقتفاء أو التّمرّد، بل تعزيزًا للصّوت وبصمة التّشكيل، ولِذاتِ الكتابة، تأمّلًا في الواقع والمتخيَّل، والمرويّ والمَكتوب، والمَسموع والمَقروء، والشّخصيّات والأحداث والعالَم والإنسان، ما وَسَمه بالجُرأة والطّاقة والغموض والمزج الحكائيّ المَعنيّ بالمكان ودورِه في الخَلْق والاستيعاب، نبشًا في العُمق واللاحَدّ (الأفقيّ التّشكيليّ، والعموديّ)، والثّابت والمُتغيِّر، والظّاهر والباطن، والخير والشّرّ...؛ وانشغالًا بفعل الكتابة واشتغالًا على الأثرِ السّيكولوجيّ، والبنائيّ، والتّفكيكيّ، علاوةً على الأبعاد الفلسفيّة والفكريّة والذّهنيّة والواقعيّة والغرائبيّة؛ كَسْرًا للنّمطيّة وتعزيزًا للتّغيير، بجنوح نحو الشّعريّة والسّرّيّة، فالّذي يعني الكاتب ما تحتاجه اللغة في الرّواية المنتمية إلى (السّرد التّحتيّ) في فضاء جماليٍّ حاوٍ وهَجين وعميق، تفكيكًا للإنسانِ، وفَضْحًا للجانب الشّرّير، وقراءةً للينابيع، كما فعل (دوستويفسكي) في شخصيّات رواياته، مِنَ المَجانين، والمُجرِمين، والعَدَميِّين، وهنا يبدو الكاتبُ فذًّا وقادِرًا ومُغايِرًا قَلْبًا وقالبًا؛ يقول (فلوبير): "على الفنّان أن يكونَ في عَمَلِه، أشبه بالخالق: عليه أن يكون لا مرئيًّا، ولكن له من القوّة ما يجعله حاضرًا، في كلّ مكان، من دون أن يراه أحد"( )، كما كانت كتابته قادرةً ومتجدّدة، وذات فعاليّة مؤثّرة، وبِنْية متفجّرة وغنيّة، وفنًّا مَلغومًا بالأسئلة، وفِعْلَ مقاوَمة وحَفْر في المَعرفيّ والجذور.
وعلى الرّغْم من واقعيّة الحكاية المتوالدة، وأحداثها المألوفة، تبدو الرّواية مُتشعّبة مُتحرّرة، لا تحتكم إلى طابَعٍ بعينه وتيّار بذاته؛ فهي ذاتُ طابَعٍ فلسفيّ تأمّليّ، وفي جانبٍ واقعيّ، تستحضرُ المَوروث لتسلّطَه على الواقع؛ طابَعٍ يبوح بموقف من التّشكيل والوظائف: "لا أحبّ الرّواية الّتي تقصّ قصّة، وتروي حَدَثًا، وتُشوّق القارئ، وتجعَلُهُ يشفق أو يرفض أو يعرف أو يتعرّف أو يتعلّم، لم أحبّ أبدًا النّصّ الّذي يسجّل الوقائع"( )، ولعلّ لاهتمام الكاتب بالجسد ارتباطًا بذلك، لاسِيَّما أنّه كتب عنه في شعر (محمود درويش)، طرحًا لإشكاليّة المادّيّ والمعنويّ طرحًا فلسفيًّا عميقًا، والثّابت والمتغيّر على مستوى الحكائيّ والمَحكيّ، والحقيقة والوهم، والحضور والغياب، بما يعكس تصوّراته ورؤيته للعالَم والوجود والإنسان، وبما يبرز وعيهُ وصوتهُ، رؤيةً وتشكيلًا، وبصمته في التّكثيف؛ فالرّوايةُ عندَه فنّ إغواء ونبش وإثارة، بطابع سينمائيّ دراميّ مُحفّز للفاعليّة؛ وبنية ذهنيّة تسعى إلى الانعتاق من الخطابات التّاريخيّة أو الأيديولوجيّة، وأيقونةٌ تُفجِّر القَصْد، وتعبّرُ عن عبثيّة التّأقلُم بالكتابة؛ بتسليط الضّوء على الفضاء المأزوم، من خلال المحسوس، فينطلق من المادّيّ إلى المجرّد، مُترحِّلًا بمَرجعيّاته إلى البعيد، في مُتخيَّل سِيَريّ عن البَطَل جمال الدّين العطّار، الّذي بدا مُتمكّنًا من خيوط لُعْبَتَي الأدب والحياة، في مسرح أحداثٍ متأثّرة بعوالمِهِ الدّاخليّة القَلِقة والفارّة من واقع اختارَ له أن يجمعَ اسمُهُ التّراثيُّ الأنفاسِ بين الجمال المُفتَقَد، والدِّين الرّاصِد، والجَسَد الّذي تَرَكَ شيئًا من عِطرِه، في كلّ رُكنٍ من كلّ بلدٍ وجَسَد.
• الهوامش:
( ) سامي، نصر(2019م). العطّار، دار الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، ص5.
( ) المصدر نفسه، ص9.
( ) انظر: المصدر نفسه، ص9، وغيرها.
( ) المصدر نفسه، ص13.
( ) انظر: بروب، فلاديمير(1996م)، مورفولوجيا القصّة، (ترجمة: عبدالكريم حسن وسميرة بن عمّو)، شراع للدّراسات والنّشر والتّوزيع، دمشق، ص42-82.
( ) المصدر نفسه، ص69.
( ) المصدر نفسه، ص247.
( ) المصدر نفسه، ص119.
( ) انظر للأعلام: معجم الأعلام في الأساطير اليونانيّة والرّومانيّة، (ترجمة: أمين سلامة)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1955م، ص112-116.
( ) للاستزادة، انظر: فولر، إدموند (997م)، موسوعة الأساطير، (ترجمة: حنّا عبّود)، دمشق، الأهالي للطباعة والنّشر.
( ) انظر: ملحمة جلجامش، (ترجمة: فراس السّوّاح)، دار الكلمة، بيروت، ط2، 1983.
( ) مطلعها: أعلنتُ في حبِّ جُمْلٍ أيَّ إعلانِ * وقد بدا شأنُها مِن بعدِ كتمانِ؛ انظر: المفضّل الضّبّيّ، ابن محمد بن يعلى(ت168هـ). المفضليات، (تحقيق: أحمد شاكر وعبدالسلام هارون)، دار المعارف، القاهرة، ط6، ص370.
( ) (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل).
( ) المصدر نفسه، ص162.
( ) المصدر نفسه، ص73.
( ) المصدر نفسه، ص16.
( ) المصدر نفسه، ص166.
( ) المصدر نفسه، ص150.
( ) المصدر نفسه، ص24.
( ) انظر ما نشره (إبراهيم العريس) عن مراسلاته لموباسان، في صحيفة (الحياة)، تحت عنوان: مراسلات فلوبير، بتاريخ: 28/5/2012م، www.alhayat.com.
( ) العطّار، ص96.