د. إياد كنعان
باحث وفنّان تشكيليّ أردني
iyadkanan@gmail.com
تتناول هذه الدِّراسة تحوُّلات "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، من تمثُّلات حالة "الاستشراق" إلى تمثُّلات حالة "ما بعد الحداثة"، مرورًا بدراسة "المقدَّس" في حقبة "الحداثة" التشكيليّة الأردنيّة، من وجهة سيميولوجيّة خِطابيّة نقديّة مقارنة. وتخلص إلى وجود ارتباط وثيق بين التحوُّلات التي طرأت على تمثُّلات "المقدّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، وبين الانتقال من حقبة "الحداثة" التشكيليّة، وصولًا إلى تبنّي قِيَم "ما بعد الحداثة".
• مقدّمة
إنَّ الحديث عن "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ بحلُّته النصيّة أو التمثيليَّة أو المفهوميَّة، يتَّخذ أهميّة بالغة من وجهة نظر خِطابيَّة، لجهة محاولة فك التشفير الخِطابيّ المرتبط بسياقات تطور الفنّ التشكيليّ في الأردنّ، في علاقته مع هذا المعطى العابر للحياة العامّة والخاصَّة، فضلًا عن كونه عابرًا للأجناس الإبداعيَّة المختلفة. وهو مبحث يتخذ أهمية نقديَّة بالغة في "المملكة الأردنيّة الهاشميَّة" بشكل خاصّ، التي استمدَّت ملامحها كدولة ونظام سياسيّ، من حالة فريدة في التاريخ العربيّ الحديث، قامت على اتِّحاد "المقدّس" السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، في بوتقة مشروع وطنيّ وحدويّ (بأبعاد عربيَّة وإسلاميَّة متباينة)، أثبت مقدرة على تجاوز متغيّرات شديدة الحساسيَّة، أحاطت به منذ تأسيسه، وصولًا إلى صموده في وجه رياح "الفوضى" العاتية التي هبّت على المنطقة، منذ نهاية عام (2010). فضلًا عن كونه يشكِّل نموذجًا ناجحًا لاندماج "المقدّس" الدينيّ والدنيويّ في مستويات عدَّة، كما تجسّد في "الثورة العربيَّة الكبرى" (1916- 1918). بالإضافة إلى ارتبطه بنيويًّا ومنذ نشأته وتبلور خِطابه السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ بـ"المقدَّس" الدينيّ الإسلاميّ والمسيحيّ على حد سواء، الأمر الذي يعتبر أساسيًّا على مستوى "الخِطاب" الوطنيّ والعربيّ والإسلاميّ الأردنيّ، يظهر جليًّا من مسمّى "الدولة" الأردنيَّة، المرتبط من جهة بنهر الأردنّ، كواحد من أهم المواقع المسيحيّة المقدّسة، ومن جهة أخرى يرتبط برمزيّة إسلاميّة، على قدر كبير من الأهميّة في حضورها التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وتاليًا الموقع الذي اتخذته في المشروع النهضويّ العربيّ والإسلاميّ الحديث والمعاصر، المتمثّل بـ"العائلة الهاشميَّة"، بما تشكّله من ارتباط عضوي برسالة الإسلام، وبمشروعه الحضاريّ.
أمّا الجغرافيا الثقافيَّة الأردنيَّة فقد ارتبطت بـ"السرديّات" الدينيّة المؤسسة للديانات السماويّة بتنوُّعها وثرائها. وهي حالة بكل غناها الثقافيّ والدلاليّ، فرضت تداخلًا بين الحيّز الدينيّ والدنيويّ في كل مفاصل الدولة والمجتمع، بل في مختلف مظاهر الحياة العامّة والخاصَّة الأردنيّة. أمَّا على المستوى التاريخيّ؛ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، فقد ارتبطت "الدولة الوطنيَّة" الأردنيّة بنيويًّا بحالة جيو- ثقافيّة وسياسيّة نادرة، متمثلة بحالة "احتلال المقدّس" الدينيّ (المسجد الأقصى والأماكن المقدّسة في فلسطين المحتلة)، برمزيّته الدينيّة والدنيويَّة على حد سواء، ووجودها في بؤرة المواجهة التاريخيّة؛ بأبعادها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيَّة، ضدّ المحاولات الصهيونيّة لوضع اليد على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وضدّ محاولات قوى الاحتلال المستمرة للتعرُّض للأماكن المقدسة المسيحيّة في القدس بشكل خاصّ. علمًا أنّ تلك الأماكن المقدَّسة شكّلت جزءًا من الدولة الأردنيَّة، إبان "الوحدة" بالضفة الغربيّة، في الفترة الممتدة ما بين عامي (1950- 1988).
في هذا السياق تطرح هذه الدراسة إشكاليّتين أساسيَّتين، أمّا الأولى فتتمحور حول مدى ارتباط حضور "المقدّس" (نصًّا أو تمثيلًا أو مفهومًا) في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، سواء كان حضور "إثبات" أو حضور "نفي"، بالانتقال من تمثّل قيم "الحداثة" التشكيليّة، وصولًا إلى تبنّي قيم "ما بعد الحداثة". أمّا الثانية فتتمحور حول مدى نجاح الفنّ التشكيليّ في الأردنّ (خِطابيًّا) في التملص من التحوّلات في القيم التاريخيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيّة، التي ترافقت مع تبنّي تيّارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة، لجهة الإخلاص لقيم "المقدّس" الدينيّ والدنيويّ، ومدى نجاح الفنّان الأردنيّ في المواءمة بين تبني القيم المؤثرة في بناء وثبات الحياة العامَّة الأردنيَّة (تاريخيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا)، وبين موجة ترويج "اهتزاز" مكانة "المقدّس" في "الخِطاب" الثقافيّ العربيّ والعالميّ، التي ترافقت مع تبنّي القيم الغربيّة المعاصرة، الداعية إلى تجاوز وتقويض "المقدّسات" بكافة أشكالها الدينيَّة والدنيويّة.
• خِطاب "المقدَّس" في حقبة الاستشراق التشكيليّ الغربيّ
إنَّ المتابع لسياقات تطوُّر الفنّ التشكيليّ في الأردنّ يلحظ هذا التمحور حول فكرة "المقدّس"، نفيًا أو إثباتًا، سواء في حقبة "الحداثة" التشكيليّة (1950- 1988)، أو في حقبة "ما بعد الحداثة" التشكيليَّة (1988- حتى اليوم). هذا التمحور يكاد يكون ملفتًا، خاصَّة إذا ما تمَّ ربطه بسياقات تطور الدولة والمجتمع الأردنيّ. فأغلب الرحَّالة الذي أتوا إلى الأردنّ، ارتبطت زياراتهم وإقاماتهم، أو عبورهم لهذه الأرض بفكرة "المقدّس". في حين تمَّ النَّظر إلى الأردن كامتداد للأرض المقدَّسة، وهي حالة تُلحظ بوضوح في أعمال هؤلاء الرحَّالة، كما عبَّرت عنه المطبوعات الحجريَّة للأسكتلنديّ "دايفيد روبرتس" (David Roberts) (1796- 1865)، حيث احتل "الأثر" كموروث مقدّس من حقب موغلة في القدم، العنصر الأساس في العمل الفنيّ، بوصفه "أثرًا" عابرًا للأزمنة. في المقابل جرى تصويره في إطار من المؤشرات البصريّة والمرجعيات الثقافيَّة المتداخلة و"المختلطة" زمنيًّا، دون أن يظهر أي انسجام بينها، لتُظهر مؤثّرات زمنيّة مختلفة في النسيج التشكيليّ الواحد، بشكل متقطّع ومتباعد، مع تغييب لحلقات التواصل الثقافيَّة أو الاجتماعيّة التي تربطها بالمكان، وبشكل انتقائيّ مقصود. في المقابل تمَّت المبالغة في إبراز مظاهر الحضور السياسيّ المرتبط بالمؤثرات الثقافيَّة التي تبنّتها "السلطة العثمانيَّة"، التي سيطرت على مناطق شاسعة من العالم الإسلاميّ آنذك، بما فيها منطقة شرق الأردنّ. في حين تمَّ تصوير تدفُّق الحياة حول ذلك "الأثر" بالحالة الطارئة أو الهامشيّة المؤقتة، المنقطعة تاريخيًّا وزمنيًّا عنه، التي تشكل عبئًا على المكان، وليس في إطار الامتداد الزمنيّ والثقافيّ التلقائيّ له، في تفاعله البديهيّ مع محيطه الاجتماعيّ، الذي يحمل تراكمات ثقافيَّة متداخلة وظيفيًّا، ضمن أشكال من التفاعل الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ والتاريخيّ الطبيعيّ والإنسانيّ المنسجم. فجاءت أعماله تعزيزًا للأسطورة الاستعماريّة التي تبنّت أكذوبة (أرض بلا شعب)، خاصّة تلك التي روّجت لها أغلب الحملات الاستكشافيَّة الغربيّة لفلسطين المحتلة.
على نقيض من أغلب الأعمال التصويريَّة الاستشراقيّة التي نُفّذت في الحقبة نفسها، جاء ظهور "المقدّس" في أعمال روبرتس تعبيرًا عن حالة من الماضي، في لحظة تصادم ثقافيَّة مع الحاضر (زمن إنجاز العمل)، وليس جزءًا من التفاعل الحيويّ المتدفّق مع المكان، أو من الواقع اليوميّ المعاش للمجتمع الذي يحتضنه، في إطار الحالة التي شكّلت جزءًا من ثقافة المجتمع وبداهته وغذائه البصريّ اليوميّ المُعاش. كما أنّه لم يكن في إطار استكشاف الممكن الجماليّ الجديد للمكان، الذي يستلزم بالأساس وجود مشروع سياسيّ بالمعنى الوطنيّ، تلك الحالة التي تشكّلت مطلع القرن العشرين، مع انطلاق "الثورة العربيّة الكبرى" المؤسّسة للدولة الأردنيّة، كما تمَّ التعبير عنها في أعمال فناني جيل "ما قبل الروّاد" في الأردنّ، الذين حضروا إلى منطقة شرق الأردنّ، في حقبة الانبعاث السياسيّ الأول للدولة الاردنيَّة، المتمثلة في "إمارة شرق الأردنّ" (1921- 1946).
لوحة رقم (1)
ديفيد روبرتس، القدس، ليثوغراف، (1839)، نقلًا عن: https://pixels.com.
• خِطاب "المقدَّس" ومقدّمات "الحداثة"
في المشهد التشكيليّ الأردنيّ
في هذا السياق المتداخل سياسيَّا واجتماعيّا وثقافيَّا، أعطى حضور وإقامة مجموعة من الفنانين في الأردنّ، في ما عُرف باسم "جيل ما قبل الروّاد"، في حقبة الإمارة، إشارات لانبعاث سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ جديد، بُنيَ على إمكانٍ جماليّ وطنيّ جديد، بأبعاد سياسيّة وثقاقيّة واجتماعيّة واضحة التوجّهات، وضعت "المقدّس" الإسلاميّ في بؤرة اهتماماتها، بحيث شكّل "محورًا" لاستكشاف الحالة الوطنيّة الأردنيَّة الجديدة جماليًّا، في إطار الكيان السياسيّ الناشئ آنذك، فجاءت أعمالهم متضمّنة لمظاهر "المقدّس" الإسلاميّ بشكل أساسيّ، حيث احتلَّ المسجد والجامع، برمزيّته الدينيَّة والاجتماعيّة الجامعة، التي تصهر المتناقضات، وتطوي المتباعدات، موقع الصدارة في العمل الفنيّ، في إطار من التفاعل العمرانيّ والتاريخيّ الحيويّ مع المكان، الذي ربط الماضي بالحاضر، خاصّة لجهة التأكيد على طابع البناء الصخريّ والحجريّ للمدينة الأردنيّة، والعاصمة الجبليَّة الحديثة عمَّان، وإبراز الخصوصيَّة الثقافيّة للمكوّن الاجتماعيّ الأردنيّ المتمدّن (بمقاييس تلك الحقبة)، المتجذر في التاريخ، الذي عرف العمارة الحجريّة متعددة الطبقات، كما ظهر في مجموعة من الأعمال الحقليَّة لجيل "ما قبل الرواد"، خاصّة التركيّ ضياء الدين سليمان (1880- 1954).
لوحة رقم (2)
ضياءالدين سليمان، مدينة عمَّان، زيت على قماش، 55×73 سم، 1932، نقلًا عن وجدان العلي: الفنّ المعاصر في الأردنّ، الجمعيَّة الملكيَّة للفنون الجميلة، الأردنّ، ط1، 1996.
هكذا بدأ "المقدّس" باتخاذ طابع تاريخيّ تصويريّ (مكانيّ وزمنيّ)، في إطار المنظر الطبيعيّ والحقليّ، أكثر منه طابعًا دينيًّا أو لاهوتيًّا، متواريًا خلف الرؤية الاستعماريّة للمكان. لكنه لم يتخذ طابعًا مؤسلبًا أو نصيًّا أو مفهوميًّا في تلك الحقبة، أي أنَّه لم يتحوّل لـ"رمز" تشكيليّ بالمعنى الوطنيّ، ولم يتم تكريسه كـ"رمزيّة" وطنيّة جامعة، ولم يكتسب شموليّة الهويّة الوطنيّة الأردنيَّة في تمايزها الجمالي والخِطابيّ، ولم يصل للمعنى الخاصّ لـ"المقدّس"، كممكن وطنيّ وجماليّ مؤسس لـ"الدولة الوطنيَّة" المستقلة، ولخِطابها الجامع.
في هذا السياق المتتابع كان على الفنّ التشكيليّ في الأردنّ أن ينتظر ولادة جيل "الروّاد"، خاصَّة أعمال كل من رفيق اللّحام (1931- 2021) ومحمود طه (1942- 2017)، لنشهد ولادة "المقدّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، بالمعنى "الوطنيّ" المؤسلَب المؤسّس لـ"الدولة الوطنيّة" المستقلة، ولقيمها الجماليّة الجديدة، التي ارتبطت بولادة المملكة الأردنيّة الهاشميّة (1946)، وتاليًا "الوحدة" بالضفة الغربيَّة من نهر الأردن، وبداية تبلور الطابع الملكيّ بشكل تدريجيّ في المشهد التشكيليّ الأردنيّ جماليًّا، وبروز "المقدّس" السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ في المشهد التشكيليّ الأردنيّ، عبر إبراز مركزيّة العائلة الهاشميَّة في قيام واستمرار المشروع الوطنيّ الأردنيّ، كما ظهر في أعمال فاطمة المحب (1920- 2006)، التي أبرزت أهميَّة الوعي بمركزيَّة العائلة الملكيَّة تشكيليَّا، كأساس للمشروع الوطنيّ الأردنيّ، فرسمت رمز العائلة المالكة بواقعيَّة تصويريَّة (لوحة الملك عبدالله الأوَّل). فضلًا عن رسمها وإبرازها لمظاهر من "الاندماج" الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ بين كافة فئات المجتمع الأردنيّ، الذي كرّسته حالة "الوحدة" بين ضفتي نهر الأردنّ، والمشروع الوطنيّ الأردنيّ الوليد في تلك الحقبة.
لوحة رقم (3)
فاطمة المحب، زيت على قماش، 75× 50سم، 1963، نقلًا عن:
وجدان العلي: مرجع سابق.
في حين لم تشهد الساحة التشكيليَّة الأردنيَّة ولادة أعمال مؤسلبة للعائلة الملكيَّة، إلّا مع قدوم الفنانة التركيَّة الأردنيّة العالميّة فخر النساء زيد (1901- 1991) للأردنّ في سبعينات القرن العشرين، التي دشَّنت في لوحاتها نماذج من "أسلبة" العائلة الملكيَّة تشكيليَّا (لوحة الملك حسين).
لوحة رقم (4)
فخر النساء زيد، الملك حسين، زيت على قماش، 1973، Andre Parinaud & Others: Fahe El Nissa Zaid, The Royal National Jordanian Institute Fahrelnissa Zeid of Fine Arts, Jordan, 1984.
أمّا "المقدّس" الثقافيّ فتمحور في تلك الحقبة حول إبراز مركزيّة الثقافة الإسلاميَّة، في خصوصيَّتها النصيَّة واللغويَّة والثقافيَّة العربيَّة، كطابع لـ"الدولة الوطنيَّة" الأردنيَّة، كما ظهر في أعمال جمال بدران (1909- 1999)، التي أسهمت بشكل أساسيّ في بلورة الطابع الملكيّ الإسلاميّ لنظام الحكم والدولة على حد سواء.
لوحة رقم (5)
جمال بدران، عمل زخرفي، نقلًا عن: وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيَّة "وفا".
• خِطاب "المقدَّس"
في حقبة "الحداثة" التشكيليّة الأردنيَّة
في هذا السياق السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والقيميّ والعقائديّ الراسخ، والمتماسك سرديًّا وجماليًّا، أثّرت "الوحدة" بالضفة الغربيَّة، على مجريات تطوُّر "الخِطاب" الثقافيّ الأردنيّ، لجهة بداية ظهور مدينة "القدس" كـ"مركزيّة" قيميّة خالدة لـ"الدولة الوطنيَّة" الأردنيَّة، التي ضمّت حدودها جزءًا من أرض فلسطين التاريخيَّة في تلك الحقبة. كما بدأت المقّدسات الإسلاميَّة في "القدس" تحتلّ موقعًا أساسيًّا في اللوحة الأردنيَّة، وفي "الخِطاب" الوطنيّ التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ للدولة، الجامع لكل مكونات الشعب الأردنيّ، على اختلاف منابتهم وأعراقهم وطوائفهم الدينيّة، هذا شمل أيضًا المكوّن المسيحيّ في الأردن، الذي أخلص بدوره تشكيليًّا لقيم المجتمع المسلم.
لوحة رقم (6)
رفيق اللحام، زيت على قماش، 50×40، 1973، نقلًا عن وجدان العلي: مرجع سابق.
لقد استمرَّ هذا التأثير لـ"المقدّس" الدينيّ في جيل السبعينات، أي جيل المخضرمين، لكن بوتيرة أقل، حيث بدأت تظهر مواضيع أكثر آنيّة ودنيويَّة. في المقابل جرى التأكيد على الطابع المؤسلب لـ"المقدّس"، حيث عادة ما تمَّ رسم "القدس" على سبيل المثال في إطار مؤسلب، وغالبًا ما ظهرت بعيني ناظر من جهة الشرق، أي من جهة الأردنّ، خاصّة بعد احتلال الضفة الغربيّة عام (1967)، تأكيدًا على أهميّة الأردنّ الدينيّة كممرّ ومنطلق لتحرير فلسطين والأقصى، بحسب السرديَّات الدينيَّة الإسلاميَّة. كذلك ظهر في أعمال المخضرمين مواضيع تعتبر من المقدَّسات الدنيويَّة، مثل التركيز على قيم "الأسرة" كمقدّس اجتماعيّ، والارتباط بـ"الأرض"، والتضحية بالنفس من أجلها كمقدس سياسيّ. فضلًا عن التأكيد على الهويّتين العربيّة والإسلاميّة الجامعة كمقدّس ثقافيّ، وبداية تبلور المعطى الجماليّ الوطنيّ المرتبط بالحالة الفلسطينيّة الثقافيَّة والنضاليّة في إطار مؤسلب، تأكيدًا على اندماجها في القيم الوطنيَّة المؤسّسة للدولة الأردنيَّة كحالة خالدة، كما ظهر في أعمال أحمد نعواش (1934- 2017)، على سبيل المثال.
لوحة رقم (7)
أحمد نعواش، إنسان عربي وهمومه، زيت على قماش، 55×65سم، 1984. نقلًا عن وجدان العلي: مرجع سابق.
• خِطاب "المقدَّس"
في حقبة "ما بعد الحداثة" التشكيليّة الأردنيَّة
هذا في ما يخصّ جيل "الحداثة" التشكيليَّة الأردنيّة، أمّا جيل "ما بعد الحداثة"، فقد بدا واضحًا انحياز بعض رموزه لليوميّ والآنيّ، وخضوعهم الحذِر لتناقضات "الخِطاب" الثقافيّ الغربيّ تجاه العالم العربيّ والإسلاميّ، خاصّة لجهة الترويج لقيم "نفي" الثوابت، و"اهتزاز" المقدّسات الدينيَّة والدنيويَّة بشكل موارب، على حساب القيم المؤسّسة لحالة "الثبات" في المجتمعات العربيّة، على المستويات كافة؛ التاريخيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة. فبدأت ميول طائفة من الفنانيّين الأردنيّين لتبنّي رؤى تصبّ في الدعوة إلى "إعادة النظر" في دور "المقدّسات" الدينيّة والدنيويّة في صياغة "المجال العام" (Public Sphere, fr.: Sphère publique)، بتعبير الألمانيّ "هابرماس"، في أبعاده التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديَّة والقيميّة العامَّة، موجهين نقدهم الحذر لبعض المفاهيم الدينيّة والدنيويّة التي يُساء استخدامها، وغدت مع الوقت أشبه بـ"مقدَّسات"، خاصّة في الإطارين العربيّ والإسلاميّ، في حين تحاشوا في الغالب الاصطدام بـِ"المقدّس" الوطنيّ الأردنيّ، أو التعرُّض للمقدّسات الدينيَّة بشكل مباشر. في المقابل طوَّع عدد من الفنانين الأردنيّين تيارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة لرؤية ثقافيّة تستلهم الموروث، ولا تتخلى عن الثوابت والجذور.
في هذا السياق شكَّلت ولادة "التعبيريَّة التجريديَّة" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ نفيًا لـ"المقدّس" بصوره كافة، خاصّة لجهة تكريس "اللا تشخيصيَّة" في الفنّ الأردنيّ، والابتعاد عن "الواقعيّة" بمحمولها الدلاليّ والتاريخيّ من المقدّسات الدينيّة والدنيويّة على حد سواء. فتيّار "التعبيريّة التجريديّة" الحاضر بقوة في المشهد التشكيليّ الأردنيّ، هو نمط من التشكيل الآنيّ الانفعاليّ متعدِّد البؤر، الذي يعتمد على التوليد البصريّ والحركيّ لحالات من "التناغم البصريّ"، دون الاعتماد على أيّ مَرجع من الذاكرة. وبالتالي، هو فنّ منقطع عن الواقع والتاريخ والجغرافيا والموروث والجذور بصوره كافة، يسعى إلى خلق تاريخه الخاصّ، ويجعل من الفنّان الذي يمارسه بطلًا أوحدًا، وصانعًا للتاريخ، ومنافسًا للنزوع التاريخيّ في مجتمعه. وهو بذلك يناقض فكرة تمثيل "المقدّسات" السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في العمل الفنيّ نصًّا أو شكلًا أو مفهومًا، المرتبط بصور من الماضي أو الحاضر أو المُتَخيَّل أو الواقع المُعاش. في المقابل سنجد محاولات تشكيليّة أردنيَّة سعت لتطويع هذا الاتجاه للشَّرط التاريخيّ، وتطعيمه بمؤثرات ثقافيَّة من البيئة الثقافيَّة الأردنيّة، كما هي الحال في مجموعة من أعمال سهى شومان على سبيل المثال.
لوحة رقم (8)
سهى شومان، أسطورة البتراء 2، مجموعة من 21 عمل، رمل ومواد مختلفة على ورق، 77x58 سم، 1992- 1993. نقلًا عن:
(Suha Shoman: Suha Shoman- Of Time And Sand- Petra 1986- 1996, Darat Al- Fonoon, 1st edition 1996, p. 45)
أمّا حضور "الفن الأقليّ" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ فقد شكَّل بدوره انقطاعًا آخر عن فكرة "المقدّس"، بكافة مرجعيّاته الدينيّة والدنيويّة، خاصّة لجهة تجاوز كافة المرجعيّات البصريَّة الممكنة في العمل الفنيّ، فهو فن منقطع عن الجذور في الغالب. في المقابل نجد بعض الحالات التشكيليَّة الأردنيَّة، التي حاولت استدراج مؤثرات تاريخيّة وسياسيّة واجتماعيّة وثقافيَّة إلى هذا التيار، فضلًا عن استدعاء الموروث الثقافيّ الأردنيّ، بأبعاده الوطنيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة بدرجات مختلفة، إلى نسيج العمل الفني الأقليّ، كما ظهر في بعض أعمال نزيه عويس على سبيل المثال.
لوحة رقم (9)
نزيه عويس، من معرض هنوفر، الجناح الأردني، ألمانيا، 2000، صورة تفصيلية، تصوير إياد كنعان.
وهي الحالة نفسها التي كرّسها "الفن البيئيّ" عالميًّا، الذي انحاز للبيئيّ خارج أي تمثيل تاريخيّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ، ومع ذلك نجد استثناءات في الفن التشكيليّ الأردنيّ، حاولت إخضاع هذا التيار الفنيّ للمؤثرات الثقافيَّة الوطنيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة، منها بعض أعمال محمد أبوعزيز، على سبيل المثال.
لوحة رقم (10)
محمد أبوعزيز أثناء عمله على معرض "مقولات الملح"، في منطقة البحر الميت. تصوير جان لو دو سوفرزاك (J-L De Sauver Zac)، صورة من أرشيف الفنان محمد أبوعزيز.
أمّا "الفنّ الشعبويّ" فقد قام في الغالب على استحضار "المقدّسات" كافّة؛ التاريخيّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيّة والاقتصاديَّة، وعلى نفيها خِطابيًّا ومفهوميًّا بكافة الصور. وفي الأردن كان هناك انسياق حذر خلف هذا التيار التشكيليّ، حيث توجَّهت مجموعة من الفنانين الذين اشتغلوا ضمن مبادئه إلى تفكيك مجموعة من المفاهيم التي شكَّلت مع الوقت "مقدّسات" دينيّة ودنيويّة، سواء كانت مرتبطة بالحالة الوطنيّة، أو الحالتين العربيّة والإسلاميّة، وأخضعوها للمساءلة النقديّة الواعية، دون الانسياق وراء "الخِطاب" التحريضيّ المباشر. في المقابل حاولت طائفة من الفنانين المواءمة بين آنيّة ولحظيّة "الخِطاب" الثقافيّ التفكيكيّ المرتبط بهذا التيّار، وبين التحدّيات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي يواجهها المواطن العربيّ، نتيجة مشاريع الهيمنة الجديدة في المنطقة، منها بعض أعمال الفنان عدنان يحيى (1960- 2020)، على سبيل المثال.
لوحة رقم (11)
عدنان يحيى، أفريقيا، زيت على قماش، 120x110سم، 2005. نقلًا عن: موقع الفنان: http://yahyaart.wordpress.com/.
أمَّا على مستوى "الفنّ المفهوميّ"، فقد دشَّن بدوره أشكالًا من الانقطاع عن التاريخ والموروث، بوصفه اعتراضًا على فكرة العمل المنجز، وترويجًا لمفاهيم "ما قبل العمل" المكتمل. وعلى المستوى الأردنيّ فإنَّ هذا التيّار لم يحظَ بحضور مهم، في حين لم تخرج الأعمال التي تبنَّته عن الأطر الخِطابية الغربيّة، التي دعت إلى تفكيك الثوابت وطرح المرجعيّات التاريخية جانبًا، ومنها شرعيّة بعض المفاهيم التي أصبحت أشبه بـِ"المقدَّسات" الدنيويّة، التي أخضعوها للمساءلة النقدية في سياق تفاعليّ وحواريّ، خاصّة لجهة شرعيّتها في توجيه "الوعي الجماعيّ".
في حين شكَّل حضور "فنّ الجسد" عالميًّا وسيلة للتركيز على الذاتيّ، في سياق التعرُّض لمفاهيم ذات طابع جماعيّ. أمّا في الأردنّ فلم تخرج التجارب التي استلهمت هذا التيار عن هذا المعطى العامّ، لكن ما يميِّز التجربة الأردنيّة هو محاولتها توظيف هذا التيار في إطار تقديم مجموعة من المفاهيم "الجماعيّة" ذات الطبيعة السياسيَّة، منها بعض الثوابت و"المقدّسات" الوطنيّة والعربيّة، في إطار توظيف حساسيّة الجسد الإنسانيّ في استشفاف معانٍ سياسيَّة مرتبطة بحالة الصراع الدائرة في المنطقة، خاصة في ما يخص القضيّة الفلسطينيّة، وحالة الصراع الدائرة مع قوى الاحتلال، التي شكَّل فيها الجسد الإنسانيّ المحور الأساس، كما ظهر في بعض أعمال عريب طوقان، على سبيل المثال.
لوحة رقم (12)
عريب طوقان، فوتوغراف، 2007، نقلًا عن النشرة المرفقة بمعرض عد الذكريات- دارة الفنون، 2007.
في حين كُرِّست نماذج من فنّ الجسد في الأردن لطرح قضايا سياسيّة ذات صلة بالمشروع النضاليّ العربيّ المتجدِّد، المرتبط بالحالة الاستعماريّة الجديدة في العالم العربيّ، القائمة على تثوير "خِطاب" الصراع الداخليّ، وتداعيات ما يسمى "الربيع العربي".
• خاتمة
في ختام هذه الدراسة التي تناولت تحوّلات "المقدَّس" في الفنّ التشكيليّ الأردنيّ، من تمثلات حالة "الاستشراق" إلى تمثلات حالة "ما بعد الحداثة"، مرورًا بدراسة "المقدَّس" في حقبة "الحداثة" التشكيليّة الأردنيّة، من وجهة سيميولوجيَّة خِطابيَّة نقديَّة مقارنة، فقد خلصنا إلى وجود ارتباط وثيق بين التحوّلات التي طرأت على تمثلات "المقدّس" في الفن التشكيليّ الأردنيّ، وبين الانتقال من حقبة "الحداثة" التشكيليّة، وصولًا إلى تبنّي قيم "ما بعد الحداثة"، وهي تحوّلات عزّزت قيم الثبات في المجتمع الأردنيّ بشكل عام، وأخلصت إلى حدّ كبير إلى قيم "الدولة الوطنيّة" الأردنيّة في أبعادها العربيّة والإسلاميّة، على المستويات النصيَّة والتمثيليَّة والمفهوميَّة العامَّة، مع وجود استثناءات لم ترتقِ إلى مستوى التأثير الطاغي على المشهد التشكيليّ الأردنيّ. في المقابل نجح الفنّ التشكيليّ في الأردنّ في التملُّص من حالة "الاهتزاز" في القيم السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيّة التي ترافقت مع دخول مؤثرات تيارات "ما بعد الحداثة" الغربيَّة إلى المشهد الثقافيّ الأردنيّ، وبالتالي النجاح في المواءمة بين حالة المعاصرة المنشودة تشكيليًّا، وبين القيم المؤثرة في بناء وثبات "الدولة الوطنيَّة" الأردنيّة، واستقرار الحياة العامَّة الأردنيَّة (تاريخيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا)، وعدم الخضوع الأعمى لموجة "اهتزاز" القيم، التي ترافقت مع تبنّي التوجّهات الغربيّة، الدّاعية إلى تجاوز "المقدّسات" بكافة أشكالها الدينيَّة والدنيويّة.