هاني حوراني
رسام وباحث في الفنون البصرية
استقبَلَ الأردن في العقود الأولى لنشأته عددًا من الفنّانين العرب والأجانب الذين أقاموا فيه لفترات طويلة نسبيًّا. وخلال إقامتهم هذه خلفوا وراءهم رسومات ولوحات فنيّة توثِّق مَشاهد من طبيعة البلاد ووجوه مجتمعها. ومن المؤسف أنَّ الذين تصدّوا لمهمة كتابة تاريخ المشهد التشكيلي الأردني، اكتفوا بالإشارة المقتضبة إلى هؤلاء الفنانين، ولذلك فقد ظلّت المعلومات القليلة المُتداولة حولهم تتكرَّر في مختلف المراجع والمؤلّفات التي رصدت تطوُّر الحركة التشكيليّة الأردنيّة، دونما تحديث أو إضافة.
• توطئة
تتوقَّف المقالة التالية عند الفنان اللبناني عمر الأنسي الذي قدم إلى الأردن، وهو يافعٌ، في العام 1922، أي في العام التالي لقيام أوَّل حكومة أردنيّة (11 نيسان 1921)، وقد أقام في عمّان مدة خمس سنوات، حتى غادرها عام 1927 للالتحاق بأحد المعاهد الأكاديمية الفرنسية.
ومن المرجو أن أردف هذه المقالة بأخرى، أو أكثر، عن فنانين آخرين، من بينهم الفنان التركي ضياء الدين سليمان، الذي قدم إلى الأردن في العام 1930، وعاش ورسم وأقام معارض مبكرة له قبل أن يتوفي في عام 1954. فنان تركي آخر أقام في الأردن لردح طويل من عمره، هو الأمير عمر فوزي أفندي، حفيد آخر السلاطين العثمانيين، محمد رشاد. وقد انتقل من الإقامة في مصر وفرنسا، حيث درس، إلى الأردن ليلتحق بشقيقته المتزوجة من سمو الأمير نايف، وقد توفي في عمّان في 24 نيسان 1986، دون أن يعرف أحد عن نشاطه كرسّام، ربّما باستثناء محيطه العائلي وأصدقائه.
اعتبارًا من عقد الخمسينات سوف تتعرَّف عمّان على "جورج ألييف" (1887- 1918) الذي كان ضابطًا في الجيش الروسي حتى ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917، حيث التحق بالجيش الأبيض (القيصري)، قبل أن يرحل إلى إسطنبول، وفي عشرينات القرن الماضي تحوَّل "ألييف" إلى رسام محترف، ثم انتقل بعدها إلى فلسطين. ومع النكبة الفلسطينية، انتقل "ألييف" إلى عمّان، حيث افتتح استوديو له في جبل عمّان، وتتلمذ عليه جيل من الفنانين الأردنيين الأوائل. وفي العام 1967 وبعد وفاة زوجته انتقل للعيش مع ابنته في بيروت حيث توفي هناك عام 1970.
وإلى جانب "جورج ألييف" سوف تستقبل عمّان فنانين أجانب آخرين، أبرزهم، أو أكثرهم شهرة، هو عازف البيانو والرسام الإيطالي "أرماندو برون" الذي عمل مع "معهد الموسيقى والرّسم" الذي تأسس عام 1952، وعلى الرّغم من أنه كان قد علَّم نفسه بنفسه أصول الرّسم، إلا أنه درَّس عددًا من الفنانين والفنانات الذي شغلوا فيما بعد الساحة الفنية بمعارضهم. ومن سيرة مهنا الدرة، كما كتبها بنفسه، نتعرَّف على اسم فنان هولندي كان يقيم ويعمل كرسّام في عمّان الخمسينات، وهو "وليم هالوين"، والذي كان له دورٌ في تعريف مهنا الدرة على أعمال الفنان الهولندي الكبير "رامبرنت". لكن لم أجد أية معلومات أخرى عنه.
إذن، هذه مقالة أولى في إطار التعريف بفنانين عرفهم الأردن في عقوده المبكرة، كان لبعضهم أثرٌ واضحٌ في تدريب الجيل الأوّل من رسّامي الأردن على أصول الرَّسم، فيما لم يترك بعضهم الآخر مثل هذا الأثر، لا لشيء سوى أنَّ المرحلة التاريخيّة المعنيّة، لا سيّما في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي لم توفِّر "حاضنة اجتماعية أو ثقافية"، للاستفادة من هؤلاء الفنانين العرب أو الأجانب في تعليم أبناء البلد على مهارات الرَّسم واكتساب الثقافة الفنيّة التشكيليّة.
• عمر الأنسي
الشاب الحائر ما بين الطِّب والرَّسم
كان عمر الأنسي (1901- 1969) أوَّل فنان تشكيلي عربي يعرفه الأردن في السنوات الأولى لنشأته ككيان سياسي. فقد قدم من بيروت في العام 1922 لزيارة ابن عمِّه محمد الأنسي (1880- 1951)، الذي كان يعمل رئيسًا لديوان الأمير عبدالله بن الحسين. لكن هذه الزيارة لم تلبث أن تحوَّلت إلى إقامة طويلة استمرَّت لنحو خمس سنوات في عمّان، عمل خلالها مدرِّسًا للغة الإنجليزية لابنَيْ الأمير عبدالله، طلال ونايف(1).
وُلد عمر في بيروت، حيّ الزيدانية، لأسرة بيروتية عريقة ومثقفة. أمه السيدة عتيقة سلام "التي تنتمي إلى إحدى العائلات المدينية الصاعدة"، ووالده عبدالرحمن الأنسي كان طبيبًا، يمارس الرسم المائي كهواية، وكان يملك صيدلية "تضمن مدخولًا مريحًا للعائلة"(2). التحق عمر بالكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأميركية لاحقًا) لدراسة الطب، غالبًا تحت تأثير والده ورغبته في ضمان حياة مريحة لابنه. لكنَّ الأب الطبيب- الرسّام، نقل إلى ابنه أسرار الرَّسم بالألوان المائيّة عندما أهداه أوَّل علبة ألوان مائيّة(3).
لا نعرف على وجه الحصر المدة التي أمضاها في دراسة الطب إن كانت سنةً واحدةً أم سنتين، لكنَّنا نعرف أنه زيَّن إحدى صفحات المجلة الطلابية بلوحة لمنظر بحري في العام 1918، وعلى إثرها أطلق عليه زملاؤه في الكلية لقب "فنّان". وفي العام 1919 اطَّلع الفنّان خليل الصليبي على التجارب الأولى لعمر الأنسي، وكانت رسومًا لأشجار غابة بيروت ولحدائق الجامعة الأميركية، فأعجب بها وشجعه على "احتراف الرسم" وممارسته في الهواء الطلق. وخلال دراسته الطب ظلَّ عمر الأنسي على احتكاك بمحترف خليل الصليبي الذي كان يقع في مكان غير بعيد عن الجامعة الأميركية. وقد تأثَّرت تجارب الأنسي المائيّة الأولى بأعمال الصليبي، ولا سيما في رسمه المباشر من الطبيعة لبوّابة حديقة تلة الخياط (1921) ولوحة الجسر (1922)، وفي غضون ذلك ثقَّف الأنسي نفسه فنيًّا من خلال التردُّد على "مكتبة الفن" التي كان قد افتتحها الشاعر شارل قرم(4).
في العام 1920 توفي والده، ويبدو أنَّ ذلك ساهم في حسم تردُّده ما بين مواصلة دراسة الطب أو امتهان الرَّسم. وينسب الناقد العراقي فاروق يوسف لخليل الصليبي قوله: "سواكَ خُلق ليكون طبيبًا، أنتَ خُلقت لتكون رسّامًا"، وذلك في معرض تشجيع الأنسي على الانصراف إلى الرسم وترك الطب لسواه(5). كما شجَّع الصليبي عمر الأنسي على المشاركة في معرض بيروت الدولي، في العام 1921، حيث نال الميدالية الفضيّة لذلك المعرض عن أعماله(6).
كان عمر في سن الثانية والعشرين حين زار ابن عمّه محمد الأنسي في عمّان، عام 1922. وليس معروفًا دافع تلك الزيارة؛ كان محمد الأنسي قد خدم في الحكومة الفيصلية، ثم التجأ إلى الأردن ليلتحق في خدمة الأمير عبدالله بن الحسين في أواخر عام 1920، وهنا نقول: هل أنَّ محمد الأنسي شجَّع عمر على زيارة عمّان، ربّما لمساعدته على إيجاد عمل له بعد وفاة والده، وتوقُّفه عن دراسة الطب؟! أم أنَّ عمر الأنسي الرسّام الناشئ اغتنم وجود قريبه محمد الأنسي في مركز رفيع في ديوان الأمير، لزيارة الأردن، ممّا يسمح له بالتجوُّل والرَّسم في أرجاء البقاع الأردنيّة، والوصول إلى مناطق مثيرة لاهتماماته الفنية مثل البتراء، والبحر الميت والطبيعة الصحراوية، وكذلك للتعرُّف على عالم البدو، حيث لم تلبث هذه أن تحوَّلت إلى موضوعات أثيرة لرسومه المائيّة؟!
الرِّواية الوحيدة ذات المصدر الأردني عن زيارة الفنّان الشاب عمر الأنسي للأردن هي تلك التي يرويها عميد التشكيليين في الأردن محمد رفيق اللحام في سيرته المنشورة "رحلتي مع الحياة والفن"، يقول اللحام:
"بدأ الأنسي دراسته للفن على يد الفنان اللبناني حبيب سرور، ومن ثم على يد خليل صليبا. جاء إلى الأردن عام 1922 ليحلَّ في ضيافة ابن عمه محمد الأنسي، الذي كان رئيسًا للديوان الملكي (...) فأقام في الشونة وجاء إلى عمّان ليقضي فيها أسبوعًا. لكن حدث أن غادر ابن عمه إلى لندن برفقة الأمير عبدالله، على أن يعود إلى عمّان بعودة الأمير، فامتدَّت إقامة الأسبوع لعدة سنوات في الأردن. وفي هذه الفترة بقي عمر يرسم البدو والنخيل والصحراء. وخلال إقامته في الأردن علَّم الأميرين طلال ونايف اللغة الإنجليزية"(7).
مهما كانت أسباب ودوافع عمر الأنسي من القدوم لعمّان، إلّا أنَّ ذلك فتح له الباب للإقامة، في ظروف مريحة، في عمّان، قريبًا من ابن عمّه الأكبر سنًّا، صاحب الخلفيّة العسكريّة والخبرات الصحفيّة. هذا فضلًا عن كونه صاحب المنصب الرفيع والقريب من الأمير عبدالله(8)، وقد استمرَّت إقامته في الأردن حتى عام 1927.
• المرحلة الأردنيّة في مسار عمر أنسي
قلّة من النقاد الذين توقفوا عند "المرحلة الأردنية" من تجربة عمر الأنسي الفنية، غالبًا لأنها تنتمي إلى بدايات عمره الفني، حيث كان ما يزال في السادسة والعشرين، أو السابعة والعشرين حين غادر عمّان إلى لبنان، ومن ثم إلى فرنسا.
يصف فيصل سلطان، الفنان التشكيلي والأستاذ الجامعي والناقد الفني اللبناني، "المرحلة الأردنية" (والتعبير لفيصل سلطان) فيكتب أنها فتحت أمامه "نوافذ التأليف البانورامي للمنظر، حيث تتدفق ينابيع صور لصخور ومياه وأشكال غيوم في سراب المدى الصحراوي(...) فقد سحرته مشاهد الصحراء، واستوقفت ريشته كثيرًا حياة البداوة"(9).
وبعد أن يذكر فيصل سلطان المواقع التي جال فيها بين الأردن وفلسطين، ومنها العقبة والبتراء والبحر الميت في شرقي الأردن، والقدس وطبريا في فلسطين، يتوقف أمام لوحة مائية بعينها يعتبرها "أروع لوحات المرحلة الأردنية، وتتمثل بمنظر المدرَّج الروماني في عمّان، الذي رسمه في العام 1926، وأظهر فيه رشاقة أسلوبه الانطباعي (ما قبل تعرُّفه الكامل على الانطباعية) في التأليف المحوري من زاوية واسعة وإيقاعات التلوين (التكثيف اللوني عبر طبقات للوصول إلى الشفافية والتناغم والمناخ الشعري)".
ويخلص فيصل سلطان إلى أنَّ هذه اللوحة التي أمضى الأنسي أكثر من أسبوعين في رسمها، ستشكل فيما بعد المنطق الحيوي لتفهُّم أسرار الانطباعيّة، التي ما لبث أن اكتشف حقائقها وإنجازاتها أثناء دراسته في أكاديمية جوليان في باريس ما بين العام 1927 و1930، أي في مرحلة صعود الانطباعيّة في الحياة الأكاديمية الفرنسية"(10).
يتوقف فيصل سلطان عند تعرُّف عمر الأنسي على "برترام توماس" Bertram Thomas في عمّان، الذي يصفه، بـِ"الباحث الاجتماعي الإنجليزي"، حيث تعرَّف منه على كتابات الأخير عن الربع الخالي، وكيف أنَّ الأنسي كان يستعير منه كتبًا فنيّة تهتم بجمالية الفنون الإنجليزية (على الأخص في مجال المائيّات).
ويضيف: "هذا الاطلاع، سرعان ما جعل الأنسي يتحوَّل في مزاجه اللوني من القتامة والقساوة إلى الشفافية والاندماج الحسي باللون. هذا ما نشاهده على الأقل في التغييرات التي حدثت في لوحات البحر الميت، حيث شفافية اللون والأفق والمدى الأزرق المائل إلى البنفسجي". ويتحدَّث د.سلطان أيضًا عن أمثله أخرى تعكس تحوُّل مزاجه اللوني. ففي منظر مائي من القدس.. "يرسم طيف المدينة عند الغروب مع إيقاعات الألوان المتداخلة"، وفي مائيّة "بوابة البتراء"، يهيمن "لون الغبار الصحراوي وضبابية الغموض الذي يكتنف الأثر". وينتهي إلى القول إنَّ "المنظر الطوبوغرافي كرؤية واقعية ظلَّ يلاحقه لسنوات"(11).
ويهمّنا هنا أن نتوقف قليلًا لنفتح قوسين ونتعرّف بـ"برترام توماس" والأثر الذي تركه على الفنان الشاب عمر الأنسي. إنَّ "برترام توماس" (1892- 1950) هو المكتشف والرحالة الإنجليزي الشهير الذي قطع الربع الخالي، وكان عالمًا ودبلوماسيًّا. عمل في العراق بين 1916 و1922، قبل أن ينتقل إلى الأردن ليعمل مساعدًا للمعتمد البريطاني في عمّان ما بين 1922 و1924، لينتقل بعدها للعمل لصالح سلطان مسقط وعُمان. اشتهر "برترام توماس" بسمعته كأوّل أوروبي يقطع الربع الخالي، خلال عامي 1930 و1931. وهي التجربة التي وثّقها بنفسه في كتاب له صدر عام 1932، حيث وصف فيه الصحراء وسكانها وثقافتها وحيواناتها(12).
يبدو من إشارة فيصل سلطان إلى علاقة عمر الأنسي مع "برترام توماس" أنها كانت، من جهة، عاملًا محفزًا لاهتمامه بالصحراء وبالبدو، وهو الاهتمام الذي لم يتوقف أبدًا، وحفّزه على تجسيده في رسومه المائية في أكثر من مرحلة لاحقة. أمّا الجانب الآخر من هذه العلاقة فهو استفادته من مكتبة "توماس" الفنية للاطلاع على نتاجات رسّامي الألوان المائية الإنجليز.
وهنا نلاحظ أنَّ صلة القرابة التي تربط عمر بمحمد الأنسي، رئيس الديوان الأميري، قد سهّلت له فرص الاحتكاك بالدبلوماسيين الأجانب، كما هي حال "برترام توماس"، الذي كان الرجل الثاني من حيث المرتبة في التمثيل السياسي لبريطانيا في الأردن.
إلى جانب د.فيصل سلطان التفت الناقد العراقي فاروق يوسف إلى فرادة تجربة عمرالأنسي عن بقية الفنانين اللبنانيين الروّاد، من حيث كونه "المؤسس والفاتح في الوقت نفسه"، إذ بينما كان معظم جيل الروّاد اللبنانيين قد انهمك في رسم الطبيعة اللبنانية، "فإنَّ فرصة لم تتح للآخرين مكّنت الأنسي من أن يكون رسام الصحراء الوحيد، وهي صفة ربما لم يكتسبها رسام عربي آخر"(13).
ويسجل فاروق يوسف عن نتاجات عمر الأنسي في "مرحلته الأردنية" فيقول: "الأنسي الذي تعرّف على الصحراء في سنّ مبكرة من حياته قُدِّر له أن يترك إرثًا تصويريًّا نادرًا، يوثّق من خلاله لحظات جمال نادرة، لتحتفظ دائمًا بنضارتها الفنيّة وقوّة حضورها التاريخيّ، بسبب أنّ أحدًا من الرسامين العرب لم يقتفِ أثر الأنسي"(14).
أمّا "كرستن شيد" التي كتبت عن سيرة عمر الأنسي، وثبتت قائمة بمعارضه والمراجع المهمة التي تناولت أعماله، فقد اكتفت بفقرة صغيرة عن سنوات إقامته الخمس في عمّان، وتقول: "عمل الأنسي من سنة 1923 إلى 1927 في البلاط الأردني أستاذًا لطلال، ابن الأمير عبدالله. وقد استغلَّ هذه الفرصة لإجراء توثيق بصري وإثنوغرافي للسكان المحليين، ممّا يشير إلى اهتمامه بشعوب المنطقة وثقافتها، وهو اهتمام أظهره فيما بعد في منطقة أهوار بحيرة الحولة (فلسطين) وجبل السويداء (سوريا) وبين السكان البدو الذين كانوا يقطنون في بيروت"(15).
وأمّا زياد سامي عيتاني، وهو إعلامي وباحث لبناني، فقد كتب بمناسبة مرور 51 سنة على رحيل عمر الأنسي مقالًا، استهلّه بالحديث عن بدايات عمر الأنسي في الأردن. ويقول: إنَّ تعلقه بالفن وسفره إلى الأردن(...) جعله يهجر كلية الطب في الجامعة الأميركية، ليقضي خمس سنوات في عمّان، أمضاها وهو يرسم عالم الصحراء بكل ما يتضمّنه من مشاهد ساحرة، ووهبته القدرة على تمييز الأشكال والألوان التي لا تُرى بيسر. وأضاف: "وهذا يتجلّى بوضوح من خلال معرضه الأول سنة 1927 الذي حمل عنوان "في القدس"، الذي خُصِّص لعرض ما أنتجته ريشته الساحرة، من لوحات انطباعية، عكست بألوانها مشاهداته الصحراوية، والتي كانت ملهمته الأولى في رحلته مع عالم التشكيل"(16).
• عمر الأنسي في عمّان... أسئلة تنتظر الإجابة
يبقى أن نتساءل كيف عاش عمر الأنسي في عمّان؟ وكيف كان يقضي وقته؟ ومع من؟! ثم هل ترك وراءه أوراقًا أو مذكرات أو ملاحظات مكتوبة عن السنوات الخمس التي قضاها في العاصمة الأردنيّة؟!
ما من إجابة شافية عن هذه الأسئلة. لكن من المفيد أن نتذكّر أنَّ عمّان كانت في مطلع العشرينات وفي منتصفها، أقرب ما تكون إلى بلدة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها 6400 نسمة(17). لكن في الوقت نفسه كانت هذه البلدة الصغيرة تستقطب مئات المثقفين والسياسيين والعسكريين العرب، ممّن لجأوا إلى الأردن بعد معركة ميسلون (24 تموز 1920) وسقوط الحكومة الفيصلية. وهكذا فقد كانت عمّان تحتضن جماعات من مختلف الأقطار والخلفيّات الثقافيّة والمهنيّة. ولا شك بأنَّ عمر الأنسي وجد في صفوف هؤلاء نوعًا من الحاضنة الاجتماعية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار صغر سنّه في ذلك الوقت وتكوينه النفسي، فإنه من المرجّح أن يكون قد ملأ الفراغ في حياته اليومية بالرسم والتنقل عبر الأردن، بحثًا عمّا هو مثير فنيًّا لرسمه أو عمل تخطيطات له. على أنَّ القليل من الكتابات المنشورة عن سنوات إقامته في الأردن، لم يقدِّم معلومات كافية عن حياته اليومية أو عن علاقته بمحيطه الاجتماعي.
بيد أنَّ ثمة إشارات مقتضبة إلى أنَّ عمر الأنسي ربما ترك نوعًا من المدوّنات عن فترته العَمّانية، وقد تكون منها "ملاحظات عن حياة البدو"، وهي مخطوطة غير منشورة، لا تحمل تاريخًا محددًا، محفوظة لدى أرشيف ندى الأنسي، بيروت، لبنان(18).
خلال سنوات إقامة عمر الأنسي لم يكن ثمة مكان أو قاعة عامة في العاصمة الأردنية لعرض الأعمال الفنية، بل ولم تكن هناك فنادق كبيرة كي تحتضن هكذا أنشطة، كما هي حالها في العقود اللاحقة. وكان أول فندق كبير يُقام في عمّان، وهو فندق فيلادلفيا، قد دشّن في العام 1928. ولذلك فإنه من العبث البحث عن تأثيره كفنان تشكيلي شاب على محيطه الاجتماعي. وبهذا المعنى فإنَّ أثره الوحيد والباقي هو رسومه ولوحاته التي نُفِّذت على يده داخل الأردن، وعن مواقع ومشاهد في الأردن.
لقد أثمرت المرحلة الأردنية عددًا غير معروف من الأعمال المائيّة التي صوّرت مشاهد طبيعيّة، من الصحراء، ومن عالم البدو، إضافة إلى رسومه الأخرى، التي نفّذت عن البحر الميت والبتراء. كما أنتج خلال هذه المرحلة العديد من الرسوم المائيّة عن القدس ومواقع أخرى في فلسطين كان قد زارها خلال السنوات التي قضاها في عمّان.
ومن المرجّح أنَّ رسومه المائيّة في الأردن كانت مادة معرضه الشخصي الأول الذي أقامه في العام 1927، وحمل عنوان "في القدس". لكن لا توجد معلومات مفصّلة عن هذا المعرض، الذي يقال إنَّ عائدات بيع لوحاته قد ساهمت في تمويل نفقات سفره إلى باريس للدراسة في إحدى أكاديمياتها الفنيّة(19).
ومن ناحية أخرى، فإنَّ قائمة معارض عمر الأنسي، كما وثقتها "كرستن شيد"، تتضمن إشارات إلى معرضين لعمر الأنسي في القدس، أولهما معرض جماعي تحت عنوان "فنون عربية"، وهو غير موثَّق من الناحية الزمنيّة، لكنه، كما يبدو، أقيم في عام 1932 أو 1933. أما المعرض الثاني فهو معرض فردي للوحات عمر الأنسي، بالألوان الزيتيّة والمائيّة، من تنظيم "س. كوري"، في مدرسة تيراسانتا القدس، وتاريخه غير موثَّق أيضًا، وقد أقيم في عام 1931 أو 1932(20).
ومن المؤسف أنَّ المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة لا يحتوي على أية أعمال للفنان الأنسي، سواء في مرحلته الأردنية أو في المراحل الزمنية اللاحقة. لكن المعروف أنَّ العدد الأكبر منها محفوظ لدى متحف نقولا إبراهيم سرسق، الذي كان قد أقام له معرضًا استعاديًّا كبيرًا، ضمَّ أعماله من مختلف المراحل، واستمرّ من 14 شباط إلى 14 نيسان 1997.
• الهوامش:
(1) انظر رفيق اللحام، معلومات عن الفن التشكيلي في الأردن، مخطوط أعاد اللحام نشره في اكثر من مكان أبرزها كتابه "رحلتي مع الحياة والفن" الصادر عن دار سندباد للنشر وأمانة عمّان الكبرى، عمّان، الأردن، 2011.
كما أورد المعلومات في مقابلته مع صحيفة "الدستور"، 23 أيار/ مايو 2007.
(2) انظر عمر الأنسي بقلم كرستين شيد، ترجمة فيفيان حمزة:
www.encyclopedia.mathaf.org.qa
انظر ايضًا فيصل سلطان "التحولات الخفية وأسرارها في مناظر أنسي"، مقدمة تحليلية لمسيرة عمر الأنسي الفنية، منشورة في كتالوج معرض عمر الأنسي الاستِعادي، في متحف نقولا إبراهيم سرسق، بيروت، لبنان، 1997.
(3) فيصل سلطان، المصدر السابق.
(4) فيصل سلطان، المصدر نفسه.
(5) فاروق يوسف، "عمر الأنسي الانطباعي الذي انتقل من الصحراء إلى بحر لبنان"، صحيفة العرب اللندنية، 26/6/2016.
(6) فيصل سلطان، مصدر سابق.
(7) انظر رفيق اللحام، "رحلتي مع الحياة والفن"، مصدر سابق، ص156/157.
(8) محمد الأنسي (1880- 1951)، من مواليد محلة تلة الخياط في بيروت، تلقى تعليمه في مدارس لبنان، التحق بالجيش العثماني إبان الحرب العالمية الأولى، ثم بالثورة العربية الكبرى، حيث خدم في الحكومة الفيصلية في سورية، وبعد سقوطها التجأ إلى الأردن، حيث انضم إلى الأمير عبدالله بن الحسين في معان عام 1920، شارك عبداللطيف شاكر في إصدار أول صحيفة أردنية، وهي "الحق يعلو"، أولًا من معان ثم من عمّان.
عُين محمد الأنسي في وظيفة الكاتب الخاص للأمير، ثم عُين في العام 1923 رئيسًا للديوان الأميري لأوّل مرّة. وأعيد تعيينه مرّة أخرى في هذه الوظيفة في أواسط حزيران 1925، وعاد ليشغل هذا المنصب للمرة الثالثة للسنوات 1938- 1942. وإلى جانب ذلك تقلد الأنسي عدة مناصب وزارية. انظر النسخة العربية من موسوعة ويكيبيديا.
(9) فيصل سلطان، مصدر سابق.
(10) المصدر نفسه.
(11) المصدر نفسه.
(12) انظر النبذة المنشورة عن بيرترام توماس Bertram Thomas في موسوعة ويكبيديا:
https://en.m.wikipedia.org/wiki/Bertram -Thomas
(13) فاروق يوسف، مصدر سابق.
(14) المصدر نفسه.
(15) كرستين شيد. مصدر سابق.
(16) انظر: زياد سامي عيتاني، "عمر الأنسي.. شاعر النور ورائد الألوان المائية"، موقع صحيفة المستقبل، 3/6/2020.
(17) انظر سليمان موسى، تأسيس الإمارة الأردنية (1921/ 1925)، دراسة وثائقية، عمّان، 1971، ص178.
(18) كرستين شيد، مصدر سابق، انظر قائمة المراجع عن أعمال عمر الأنسي.
(19) أشار زياد سامي عيتاني إلى معرض "في القدس"، في المقالة المشار إليها آنفًا، لكنه لم يذكر أين أقيم هذا المعرض؟! والمرجح أنه أقيم في القدس أيضًا وقبل انتقال الأنسي إلى باريس للدراسة.
(20) انظر مقالة كرستين شيد، المشار اليها آنفًا، ولا سيما قائمة المعارض التي ضمّت أعمالًا لعمر الأنسي، أو المعارض الفردية التي أقيمت لأعماله في حياته، أو بعد وفاته.