د.نضال الشمالي
ناقد وأكاديمي أردني
إنَّ القارئ لشعر نضال القاسم لا يعدم وسيلة للنفاذ إلى عمق أسلوبيّة التكرار فيما يقدِّمه، فقد شغلت سمة التكرار حيّزًا منظمًا من لغة ديوانه "أحزان الفصول الأربعة"، فكانت أسلوبًا معينًا للشاعر على تمثيل مراده وتجسيد غاياته، خاصة في توثيق علامة الفقد، وهي علامة ذات تمثيلات متعددة ظهرت في الوطن والأب و"ليلى"، وعكست قيمة التكرار بوصفه لازمة أسلوبيّة؛ سواء كان ذلك في التكرار التام أو تكرار الترادف، أو تكرار الاشتقاق.
التكرار سمة أسلوبيّة أساسيّة في الشعر، يتباين الشعراء في توظيفها واستنطاق طاقاتها، ويختلف النقاد في فهمها ووزنها وتأويلها، ولا يخلو ديوان شاعر منها قلّت أو كثرت، فعليها اتكأوا في التصريح والتلميح، وخلالها استهدفوا الغايات واستنطقوا اللاشعور، خاصة وأنّ التكرارَ مخوّل في إحداث الترابط بين المتباعدات، ومضاعفة الطاقة الدلالية للمفردات، وصون بنية الإيقاع وتجليات موسيقى النص، وهو مرتَكَزٌ لتنامي صور المجاز الدالة على الذات. يقول ابن الأثير عن التكرار في المثل السائر: "يأتي في الكلام تأكيدًا له، وتشييدًا من أمره، وإنَّما يفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك".
والقارئ لشعر نضال القاسم لا يعدم وسيلة للنفاذ إلى عمق أسلوبيّة التكرار فيما يقدِّمه، فديوانه الأخير "أحزان الفصول الأربعة" الصادر عام 2019 بُني عنوانه على عتبة التعاقب الزمني وتكراريّته الأزليّة من خلال لفظة الفصول التي تتخذ من سمة التكرار أسلوبًا بيّنًا قائمًا على التنويع والمراوحة، وهذا ما تجلّى في قصائده التسع عشرة كلها.
برزت سمة التكرار في وجوهها المتعددة لدى نضال القاسم في ديوانه "أحزان الفصول الأربعة"؛ أكان تكرارًا تامًا محضًا، أم تكرارًا جزئيًا اشتقاقيًا، أم تكرارًا قائمًا على فعل الترادف والتوليف. إنّ الشاعر له الحريّة كلّها في الاستعانة بالأساليب اللغوية التي تُغدق عليه كرم الوصول إلى الغايات، شرط أن يرتقي في استعانته إلى مستوى التوظيف. والتوظيف مصطلح أسلوبي قائم على إحداث الانسجام بين المعنى واللفظ وصولًا إلى وظائف تتجاوز الإبلاغ إلى الإمتاع والإقناع والشعرية والرمزية...
فالتكرار التام المحض يشير إلى تكرار اللفظة بتمامها لتأكيد المعنى تعزيزًا للجسور الدلالية بين أجزاء النص وشذراته، وبين نصوص العمل وتنوُّعاته. ومثال ذلك تكرار أفعال الحصار في قصيدته "أحزان الفصول الأربعة"(ص41):
"أرتال أسئلة تحاصرني.../ يحاصرني الخوف والصبية الطيبون...
يحاصرني العمر والذكريات..../ تحاصرني السجون....
تحاصرني غصون البرق.../ تحاصرني الفصول الأربعة...
تحاصرني الوصايا العشر...".
وهذه العبارات السبع لا تتابع، بل تفصّل بينها الجمل المفسرة لها، وتأتي كل عبارة بمثابة عتبة تفتح الباب أمام حالة مختلفة من حالات الحصار، وفعل الحصار يأتي مقترنًا بياء المتكلم بوصفها المتأثرة مباشرة بالفعل. وقد وُظّف التكرار هنا لغايات الكشف والتفسير، فالأحزان لها مسببات جسام فسّرها تكرار أفعال الحصار.
ومن نمط التكرار التام المحض تبرز قصيدة "كل شيء يذكِّرني بليلى"(ص63): فعنوان القصيدة يتكرر ست مرات ليعلن عن عتبة جديدة تدخلنا إلى علامة الفقد، وهي علامة أثيرة في هذا الديوان، فالشاعر يفتقد لليلى و"ليلى" رمز عصيّ:
"كل شيء يذكرني بليلى../ روائح عطرها الفوّاح
ضحكتها الخجولة/ شعرها الفحمي/ أهدابها القاتلة".
وفي كل عتبة يستذكر ليلى بأمر يفتقده، وممّا عزّز فقدان الشاعر لليلى وتكراره لها توظيف ضمير الغائب لليلى ثماني عشرة مرة في القصيدة (عطرها/ ضحكتها/ شعرها/ أهدابها/ أقراطها/ مرآتها/ ثغرها/ فكرها/ نداءاتها/ صوتها/ ثوبها/ قلبها/ قامتها...)، إذ يمثل هذا التكرار دفقة شعورية تجعل من ليلى الرمز متماهية مع جميع الأشياء التي يراها الشاعر من حوله فتذكره بليلى، فذات الشاعر تظهر في عتبات القصيدة الست، وليلى تتسيَّد المحتوى وتبرز قدرتها على حرمان الشاعر من حالة الاستقرار والسكينة المفقودة. والأمر أنَّ حالة التكرار أدّت وظيفة أسلوبية في ظاهرها قادت إلى وظيفة نفسيّة مؤرقة تجعلنا نستفهم عن معنى ليلى فيما ينهض به في القصيدة.
ومن التكرارات التامة المحضة التي تولّدت في غير قصيدة تكرار علامة "الأب" في قصيديتن؛ "أنا يا أبي كالمطر"، و"الخيل والليل"، وجرى تأكيد هذه العلامة في عتبة الإهداء كذلك: "إلى أبي الذي علمني الشعر والثورة"، يظهر الأب بوصفه مهد الشاعر وانبعاثه مخاطَبًا يتلقى حديث ابنه وبشائره:
"أنا يا أبي كالمطر/ يبلل روح الجبال/ رويدًا/ رويدًا...
أنا يا أبي كالمطر/ معلق في دهاليز السحاب وأنتظر
أحدق صوب المدى في كل شيء.../ أنا يا أبي كالمطر
لا شيء يشبهني هنا".
وتكرار الأب في ثلاثة مواضع من القصيدة دال على وعد انقضى بالوفاء والتحقيق، وهي رسالة طمأنة يرسلها الشاعر إلى مرجعيّته متباهيًا تارة ومتوعدًا تارة أخرى، يقول في قصيدة "الخيل واليل"(ص95):
"أنا ظلك البهيّ يا أبي العاطفي كسحابة
أنا غبار الطلع، وردة الصباح، رفاقك الشهداء، رائحة القمح والبرتقال...
حصانك الفضي يا أبي أنا/ أنا أبي الجديد في خيال التائهين".
ويتكرر الأب تارة بالتصريح وتارة بصورة ضمير المخاطب (الكاف)، وتارة يقرن بأسلوب النداء خمس مرات "يا أبي الصاعد..."، والشاعر بالتركيز على هذه العلامة فإنه يبحث عن حالة من الأصالة التي يفتقدها وتمنحه فعل التجذّر في فعل صراعه الحياتي مع قضايا عديدة ليس أقلها الوطن الضائع. وكما تضاعفت حالة التكرار بالتلاحم مع ضمير الكاف تارة والنداء تارة أخرى، تتلاحم فكرة تكرار الأب في قصيدة "أنا يا أبي كالمطر" بالنفي الذي يقود إلى التفرُّد، فالشاعر وظف أسلوب النفي أكثر من خمسين مرة نشدانًا لهذا المراد: "لا شيء يشبهني هنا/ لا البلبل الضحوك/ لا القيظ الشديد/ لا الأيائل/ ..." ممّا يشير إلى حالة من الانعتاق عن موجودات المكان ليس نكرانًا، بل تفرُّدًا واستحواذًا وتمرُّدًا على حالة من الانتظام النمطيّة.
ومن أنماط التكرار التي حقَّقت حضورها الوظيفي في الديوان الترادف؛ فالترادف يكون بين ما اختلف لفظه واتفق معناه، وهو حالة من حالات تماسك النص، وتتأتى فكرته من أنَّ الشعر يؤمن بخصوصية كل لفظة على حدة، ولا يمكن أنْ تحلَّ لفظة محلّ أخرى حلولًا تامًّا، فحساسية الألفاظ عالية عند الشعراء وما يتوافق في المعنى قد لا يتوافق في الإيقاع. ومن ذلك قصيدة "كان طيفًا وغاب"(ص17)، يقول فيها:
"وجدولًا يموج في الحياة والحنين/ كالمزن في تشرين كان
نهر ينام على ضفاف الأرجوان/ له رقة الموج والاغتراب".
تترادف المفردات الدالة على الماء لتشكل إيقاعها الخاص المستلّ من المعنى لا اللفظ، فالماء حاضرٌ في صورة جدول ومزن ونهر وموج وبحر، والغاية من هذا التكرار استدراج طاقة كل صورة على حدة لصناعة صورة الطيف الذي غاب، وهو طيف استثنائي يضاهي الماء حضورًا. وهذا النمط من التكرار أكثر تضمينًا من النمط التام المحض، وأكثر إقناعًا في استدراك المراد، فالوصول إلى المعنى لا يتم عبر اللفظ فقط، بل بحضور المعنى أيضًا.
ومن الأمثلة الدالة على تكرار الترادف، قصيدة "نجمة بيضاء"(ص13)، وفيها يبحث الشاعر عن علامة العلوّ والارتفاع والارتقاء فيحشد ألفاظًا عديدة دالة على هذه العلامة ليس أقلها عنوان القصيدة:
"إلى قمّة في سماء الجليل/ خذوا حذركم/ فالنجوم البعيدة حالكة
وموعدنا المساء خلف البحر في الأفق العليل/ قمر على الميناء
وحمامتان تسافران إلى رذاذ الماء في الغيمات".
فالنجمة والقمّة والسماء والقمر والغيوم والأفق والحمام والنجوم البعيدة مفردات تجمعها فكرة العلوّ والسموّ، وتتماسك هذه الألفاظ بتكرارها، فهذه القصيدة يستهلُّ بها نضال القاسم ديوانه ناشدًا الارتقاء على أن يختتم بقصيدة ملؤها الارتقاء هي "هناك خلف المدى الأزرق"(ص101)، وكأنَّ الشاعر بين ارتقائين وأحزان لا حصر لها. وفكرة الارتقاء هذه لا تتحقق بعبارات عامة تتصادى فيما بينها، بل تمثل كل قصيدة وحدة حال ومآل، فالشاعر لا يحرص على ترتيبها زمنيًّا ولا مكانيًّا، بل هي تتقافز في أفقه كما شاء لها أن تتقافز، إنها كالفصول متبدّلة الخصائص متقلّبة الأهواء.
أمّا النوع الثالث من التكرارت فهو التكرار الجزئي (الاشتقاقي) وهو تكرار يشير إلى اختلاف اللفظتين في الشكل والتقائهما في الجذر اللغوي، وهذا النوع هو أقل الأنواع حضورًا في ديوان نضال القاسم، ومن شواهده تكرار مشتقات الجذر (ح ك ي) في قصيدة "لشتاء خيل الذاهبين إلى يبوس"(ص45)، تلك القصيدة المهداة إلى إيلياء بن نوح ومليك صادق، وهي مبنية على فكرة حكاية يرويها الشاعر مستلهمًا تاريخ القدس وأحقيّتنا بها، لذا يمكن لاشتقاقات (حكي) أن تتوارد: (تحكي/ حكايانا/ وتحكي/ حكاياه). وفعل الحكي فعل سلطة وبيان. وقد أدى التكرار هنا وظيفة توثيقية تؤكد الحق لصاحبه.
كما ظهر مثل هذا التكرار الاشتقاقي في قصيدة "منافي"(ص21)، وهي قصيدة تشكلت من أحد عشر سطرًا موزَّعة على أربعة مقاطع، كل مقطع معزول أو منفي في صفحة مستقلة، وقد اشتق الشاعر من (ن ف ي): منافي (الجمع)/ منفى (المفرد)/ منفيّ (اسم المفعول). كما اشتق من (و ط ن): موطن/ وطن. والمقصد أنَّ الإنسان لا حق له في اختيار وطنه مهما تعدَّدت الأوطان وتعدَّدت المنافي والتسميات، فالشاعر واقع بين الوطن والمنفى ومنشغل بالتسميات.
وبعد، فقد شغلت سمة التكرار حيّزًا منظمًا من لغة ديوان "أحزان الفصول الأربعة"، فكانت أسلوبًا معينًا للشاعر على تمثيل مراده وتجسيد غاياته، خاصة في توثيق علامة الفقد، وهي علامة ذات تمثيلات متعددة ظهرت في الوطن والأب وليلى عكست قيمة التكرار بوصفه لازمة أسلوبيّة ذات مقروئيّة عالية.