د. زياد أبولبن
ناقد وأديب أردني
سعى الناقد فخري صالح للعمل على مختارات من قصائد محمود درويش للإضاءة على تطوُّره الشعريّ وتطوُّر لغته وموضوعاته وفكره ورؤيته السياسيّة وطريقة نظره إلى الشعر وفهمه العميق للتحوُّلات التي مرّت بها تجارب الشعراء في العالم. وقد أنجز فخري دراسة ضافية عمّا أدرجه من مختارات في كتاب بعنوان "محمود درويش- على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، فاختار القصائد ووضعها في مجموعات وفق أهميّتها التاريخيّة أو كونها علامة كبرى من علامات شعر درويش الأساسيّة. وفي الوقت نفسه فإنَّ تلك القصائد المختارة تؤشِّر على صعود تجربة هذا الشاعر الكبير، وبلوغها حدودًا مدهشة لامست آفاقًا عالية من التعبير الشعريّ.
لعلَّ صداقة الناقد فخري صالح مع الشاعر محمود درويش فتحت له أفقًا واسعًا على معرفة الكثير من خصوصيّاته ومفاتيح أسراره، ولعلَّ معرفة الناقد بالشاعر قد شكّلت ثنائيّة معرفيّة عميقة، إلى جانب ثنائيّات أخرى بين درويش وأدباء عرب وغربيين وشرقيين، وقد حظي درويش بشهرة طالت الآفاق، ومردُّ تلك الشهرة لثلاثة أسباب، فالسبب الأول، وهو سبب يقع في دائرة ضيّقة ألا وهي دائرة الشعر العربي، بوصفه أحدَ أهمّ شعراء المقاومة الفلسطينية، فكانت قصيدته "سجِّل أنا عربي" انطلاقة المرحلة الشعرية الأولى في حياته، وانعكاسًا خاصًا ومبكّرًا في تشكيل الهوية الفلسطينية في بُعدها العربي، ومقاومة المحتلّ الصهيوني، ويرى فخري صالح أنها تجربة تتَّسم "بنبرتها العالية أحيانًا، وصيغتها المباشرة أحيانًا أخرى، وتأثرها الواضح بما كان يتسرّب من شعر عربي ينتمي إلى مرحلة الخمسينيات والستينيات في التجربة الشعرية العربية المعاصرة"(ص8)، ويشير فخري صالح إلى أنَّ درويش "تمنّى كثيرًا لو أنه لم يُدرج الكثير من قصائده في مجموعاته الشعرية الأولى، وكان يقابل مَن يطالبه بقراءة بعض قصائده الأولى، وعلى رأسها "سجِّل أنا عربي" بالضيق وعدم الرضى"(ص8)، كما فعل في مجموعته الأولى "عصافير بلا أجنحة" (1960)، وكما ذكر د.عادل الأسطة في مقالته المنشورة على صفحته (الفيسبوك) بتاريخ (10 آذار/ مارس 2016) بعنوان "محمود درويش ومراحله الشعرية": "كان درويش في هذا الديوان صدى لنزار قباني، وقد اعترف هو لاحقًا بهذا، وربما كان هذا أحد أسباب حذفه للديوان من أعماله الكاملة. إنه أراد أن يكون صوتًا لا صدى".
السبب الثاني يقع في دائرة أوسع، وهي دائرة الشعر الإنساني العالمي، وبذلك نقل درويش تجربته الشعرية من الفردي والشخصي إلى البُعد الإنساني، واستطاع -كما يرى فخري صالح- "أن يكتب قصائد في أهميّة ما كتبه شعراء عالميّون كبار في وزن فيدريكو غارسيا لوركا، ولويس أراغون، وبابلو نيرودا، ويانيس ريتسوس، ووليم بتلر ييتس، وآخرين من شعراء القرن العشرين البارزين"(ص8-9).
أمّا السبب الثالث، فهو سبب يجمع ما بين الدائرة الضيّقة والدائرة الأوسع، بارتباط درويش بالعمل السياسي، وبما حظي به من مكانة مرموقة في منظمة التحرير الفلسطينية، فهو عضو المجلس الوطني الفلسطيني، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكاتب وثيقة إعلان قيام دولة فلسطين في المنفى.
لكنَّ فخري صالح يعزو سبب شهرة محمود درويش إلى "قدرته على جعل نصّه الشعري يتمتع بطبقات متراكبة من المعنى، بعضها قريب من أفهام الجمهور العام، الذي يعثر على فلسطين وصورها وهي تتخايل في قصائد درويش، في الوقت الذي يسعى فيه الشاعر الخلّاق إلى جعل فلسطين مجازًا لعذابات الإنسانية ومجلى لمآزقها الوجوديّة"(ص11-12). هذا ما بسطنا القول فيه للقارئ في السبب الأول والثاني من شهرته.
سعى فخري صالح للعمل على مختارات من قصائد محمود درويش، وقد اشتغل على دراسة ضافية عمّا أدرجه من مختارات في كتاب بعنوان "محمود درويش- على هذه الأرض ما يستحق الحياة"(*)، وقد صدر الكتاب في عمّان عن الدار الأهلية عام 2021، وقال في تصدير الكتاب (هذه المختارات): "اشتغلتُ على هذه المختارات، وفاضلتُ بين وضع هذ القصيدة، أو تلك ضمن هذه المجموعة، لأسباب تتعلّق بأهميّتها التاريخيّة في شعر درويش أو كونها علامة كبرى من علامات شعره الأساسيّة"(ص8). وعن سبب اختيار فخري صالح قصائدَ من مجموعات درويش كلها، قال: "للإضاءة على تطوُّره الشعري، وتطوُّر لغته وموضوعاته، وفكره، ورؤيته السياسية، وطريقة نظره إلى الشعر، وفهمه العميق للتحوُّلات التي مرّت بها تجارب الشعراء في العالم"(ص9)، وفي الوقت نفسه فإنَّ تلك القصائد المختارة "تؤشِّر على صعود تجربة هذا الشاعر الكبير، وبلوغها حدودًا مدهشة لامست آفاقًا عالية من التعبير الشعري"(ص10).
وكما أشرتُ في بداية المقالة إلى صداقة فخري صالح بمحمود درويش، فإنَّ تلك الصداقة دفعت فخري لاحترام رغبة درويش في عدم إدراج بعض كتاباته الشعرية في الأعمال الشعرية الكاملة، مثل قصيدة "عابرون في كلام عابر" وقصائد "خُطب الدكتاتور الموزونة"، وتبرير درويش في تنحية تلك القصائد مردّه للسخرية السوداء من الواقع العربي المعاصر المستبد وانسداد أفق التغيير في العالم العربي، وأظنُّ هذا التبرير لا يخضع لمنطقيّة الشعر، ولو فعل الشعراء كما فعل درويش لأسقطنا عشرات، بل مئات القصائد من دواوينهم الشعرية! وكان على الناقد فخري صالح أن يُخضع ما وقع بين يديه للنقد بعيدًا عن الرّغبات والأهواء.
لعلَّ الرأي الذي رمى به الناقد فخري صالح في مقدمة المختارات أثار ويثير غضب الشعراء العرب، عندما ألغى الشاعرية العربية المعاصرة قبل درويش؛ إذ يقول: "قبل درويش كان الشعر العربي شيئًا وصار بعده شيئًا مختلفًا"(ص13)، وهنا تبدو المفاضلة بين الشيئين لمكانة الشعر نفسه، كما "غيّر [درويش] الذائقة وأقنع قرّاءه وسامعيه أنَّ الشاعر يمكن أن يكون نجمًا جماهيريًّا دون أن يخاطب الغرائز [كما فعل نزار قباني]، أو يكرر السائد المعروف وما يحب الناس أن يسمعوه [كما فعل محمد مهدي الجواهري]. لقد قاد قرّاءه إلى قمّة الشعر فاتحًا الآفاق وسيعةً لخيال السامعين والقرّاء"(ص13).
يقف فخري صالح الناقد على تجربة محمود درويش الشعرية، ومؤشّرات شعره على صعود التجربة بدءًا ببعض القصائد الأساسية، وبلوغًا لحدود الدهشة في أفقها العالي من التعبير الشعري، وهذا "المنحنى التطوُّري لتجربة شعرية فلسطينية عربية لا تقل أهميّة عن تجارب الشعراء الكبار في العالم"(ص10)، وإنَّ تلك البدايات تركت أنفاس الشعراء العرب في قصائده الأولى علامة بارزة على جماهيرية الشعر، وعلى الهوية الوطنية الفلسطينية، وتتَّسم بالشعاراتيّة والبطوليّة، فتأثّر ببدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونزار قباني وأدونيس وسعدي يوسف، "سواء على صعيد الشكل أو على صعيد المنحى التعبيري والمجازات والاستعارات، والصور الشعريّة بعامة، التي درج استعمالها في تلك المرحلة من مراحل تطوُّر الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين"(ص17). سرعان ما تحوّلت قصائد درويش إلى قصائد كونيّة طاولت الشعريّة العالميّة المميّزة، وعبّرت عن عذابات إنسانيّة مرتكزها القضية الفلسطينية، فأصبح "واحدًا من شعراء العالم الكبار"(ص8).
قدّم فخري صالح المختارات بدراسة مطوَّلة بعنوان: "محمود درويش: من شعر المقاومة إلى إدراج فلسطين في وعي العالم"، وجاءت الدراسة تحت خمسة عناوين فرعيّة: أسطرة التجربة الفلسطينية، مشاغل شعريّة بطموح كوني، شبه سيرة ذاتيّة، شاعر حبّ أيضًا، شاعر يتأمّل موته.
تناول فخري صالح محطات مهمّة في حياة محمود درويش على مدار سبعة وستين عامًا عاشها درويش، فشكّلت علامات بارزة في شعره، وجعلت "موقع درويش على خارطة الشعر العربي يتمثّل في قدرته على تزويج الإيقاع للمعاني والتجارب الوجودية العميقة، في تلقيح هذا الشعر بغبار طلع الكتابات الشعرية العالمية المميزة؛ بشعر فيدريكو غارسيا لوركا ووليم بتلر ييتس وبابلو نيرودا ويانيس ريتسوس وغيرهم من الشعراء الكبار الذين تتألق قصائدهم في ذاكرة الشعر العالمي، ولأنه عرف كيف يطعّم شعره بشعرهم، ويزوّج التراجيديا الفلسطينية لتراجيديات البشرية وعذابات الإنسان في كل زمان ومكان، فقد أصبح، قبل وبعد رحيله، واحدًا من شعراء العالم الكبار"(ص15).
يرى فخري صالح أنَّ مجموعات درويش الأولى (أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين) تمثّل "بذور تطوُّر تجربة الشاعر الطامحة إلى الانفلات من أسر الشخصيّة القالبيّة لشعر المقاومة، وذلك عبر الاحتفال بالحسّي وتوليد الصور المركّبة والغريبة التي أصبحت من العناصر الأساسية في تجربته، عبر منعرجات تطوُّرها"(ص18)، إلى أن شكّلت مجموعة "هي أغنية، هي أغنية"، ومجموعة "ورد أقل"، "انعطافة حاسمة في شكل قصيدته وصوره وطبيعة بناء عمله الشعري"(ص21)، وقد أخذت مراحل تطوُّر تجربته منحىً جديدًا في مجموعته "أرى ما أريد"، فنقل التجربة الفلسطينية من مركزية الوطني والقومي إلى مركزية الإنساني، بما تنطوي عليه التجربة الفلسطينية من عذاب البشر في مكان ما وفي زمان ما من العالم، لينتقل مرّة أخرى إلى كتابة شبه سيرة ذاتية في مجموعتيه "لماذا تركت الحصان وحيدًا" و"سرير الغريبة"، من خلال "توليف عناصر من عيشه الشخصي مع عناصر من التاريخ الفلسطيني الجماعي، والحكايات والأساطير والاقتباسات القرآنية والتوراتية، للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي والشخصي"(ص41).
كما يرى فخري صالح أنَّ محمود درويش يغيّر الصورة النمطية السائدة في شعره، فيكتب قصائد حبّ في مجموعته "سرير الغريبة"، متخذًا "من بعض العشاق الأسطوريين قناعًا له. إنه يختفي وراءهم ليحكي لقارئه عن طبيعة مشاعره التي يمتزج فيها إحساسه بالمنفى والغربة، بالعبث والخسارة والامّحاء من الوجود"(ص41)، كما هو في قصيدة "قناع لمجنون ليلى". كما يتأمَّل درويش موته من خلال حوار مع ملاك الموت في قصيدة "جدارية"، و"هي نتاج تجربة شخصية مع الموت"(ص47)، وتتَّضح ثيمة الموت في مجموعته الشعرية الأخيرة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي".
يبقى القول إنَّ الدراسة التي قدّمها فخري صالح لقصائد من شعر محمود درويش تحمل رؤى نقديّة متعددة، وتفتح بابًا واسعًا أمام الدارسين والباحثين وقرّاء شعر درويش، وهي إضافة نوعيّة للدراسات التي تناولت شاعرًا كبيرًا بحجم محمود درويش.
- - - - - - - - - - - - - -
(*) فخري صالح (اختارها وقدَّم لها)، محمود درويش على هذه الأرض ما يستحق الحياة، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021.
وقد سبق أن نشر فخري صالح الجزء الأكبر من دراسته للمختارات في صحيفة "الدستور" الأردنية بتاريخ 15 آب/ أغسطس 2008، بعنوان "صانع أسطورة الفلسطينيين"، ثم نشر الدراسة كاملة في مجلة "الكلمة"، في العدد 164، ك1/ ديسمبر 2020.