مها بدّار
كاتبة أردنية
فيلم The Platform بمعنى "المنصة" أو El Hoyo، وهو اسمه الأصلي بالإسبانيّة، الذي يعني "الحفرة"، هو فيلم واقعيّ بفكرته خياليّ بأحداثه، ويسلط الضوء على مُمارسات فرديّة مجتمعيّة مقيتة في صراع البشر من أجل البقاء، عندما تفشل أيّ مساعٍ لشخص يحلم في إرساء العدالة والنّبل بين أشخاص تُسيطر على نفوسهم الأنانيّة، وتتّخذ من شريعة الغاب دستورًا لها، فتكون غريزة البقاء المحرّك الفاعل وراء تصرُّفاتهم. وفي حضور عدد من السّلوكات المُتفسّخة، الّتي يعرضها المخرج تصريحًا لا تلميحًا، فهو يدفع المشاهدين إلى تقييم مواقعهم، وإعادة النّظر في تصرّفاتهم بما يضمن لهم فرصة العيش المُتناغم على كوكب الأرض.
بات من المعروف عند الغالب الأعمّ من أصحاب الدّعوات الهادفة، دور الأفلام السّينمائيّة في تسليط الضّوء على مختلف القضايا الاجتماعيّة؛ فالفنّ السّابع بما يملكه من أدوات مُركبّة قادر على تقديم رسائل تُلبّي حاجات الإنسان وتستميل اهتماماته، وفي هذا الشّأن يقول "د.بول مكارنتي"(1): "إنّ جَمْعَ الفنون يُوّلد مَشاعر خاصّة، قد تكون الدّافع لسعي الفنّانين وراء تعاون الفنون".
وبالتّالي، فالمُنتَج السّينمائيّ بما يتضمّنه من إخراج وتمثيل وتصوير، مُؤهّلٌ لمخاطبة المتلقّي، بصيغة إقناعيّة مُتكاملة العناصر، ومتّسقة الطّرح؛ قادرة على دَرْس معالِم مُمارسات فرديّة مجتمعيّة مقيتة، لا تتناسب والتّطوّر الحضاريّ وما يتبعه من وعي فكريّ. ومن أمثلة هذه النّتاجات فيلم ""el hoyo أو أو "المنصّة" كما تمّت ترجمته.
الفيلم أحد إصدارات شركة "نتفليكس" ويمكن وصفه بأنّه واقعيّ بفكرته خياليّ بأحداثه الّتي نسجها كلّ من السّيناريست "دافيد دي سولا" و"بيدرو ريفيرو"، وجسّدها المخرج "غالدير غاستيلو أوروتيا"، ليُقدّم لنا واقعًا مأساويًّا تدور أحداثه في فضاء مكانيّ واحد وهو الحفرة، الّتي قُسّمت أدوارٌ رأسيّة، تتوّزع فيها إقامة السّجناء عشوائيًّا بشكل زوجيّ، تتغيّر شهريًّا.
هؤلاء السّجناء يصنّفون ضمنيًّا إلى سعداء وأشقياء؛ أمّا السّعداء فيهِم فهُم أولئك الّذين يستيقظون إثر الغاز المنوّم الّذي تنشره إدارة السّجن، ليجدوا أنفسهم في الأدوار العُليا؛ حيث الطّعام الوافر المُعدّ على أيدي أمهر الطّهاة العالميّين، والمكوَّن من أصناف مختارة بعناية تتجاوز حدود الخيال، بينما الأشقياء يجدون أنفسهم في الأدوار السّفلى بلا أدنى حول أو أبسط قوّة، يترقّبون نزول منصّة الطّعام، ويُمنّون أنفسهم بالحُصول على اليسير منه.
لكن للأسف تخيب أمانيهم، فيفرض الجوع سيادته على نفوسهم، عاكسًا تلك الخيبات في مُمارسات عنيفة يعرضها المخرج دون تورية، لتشكّل فعليًّا محورًا لأحداث كانت ستنتهي في دقائق، لو أنّ كلّ فرد من سجناء الأدوار العُليا اكتفى بأكل ما يكفيه فحسب، تاركًا لغيره حقّه المشروع من الطّعام، وبشكل شهيّ!
تلك الحقائق المُرّة بتفاصيلها المُرعبة كانت خفيّة عَن ذهن "غورينغ" بطل الفيلم الّذي يختار أن يُسجَن في ذلك المكان مدّة ستّة أشهر؛ ليحصل على دبلوم دراسيّ!!
"غورينغ" الّذي أتى إلى عالم "الحفرة" بمحض إرادته، حاملًا رواية "دون كيشوت" الفارس النّبيل الّذي حارب طواحين الهواء، تتكشّف له أجزاء من الحقيقة منذ اليوم الأوّل أثناء حواره مع شريك زنزانته العجوز "تريماغاسي" صاحب الخبرة في الصّراع من أجل البقاء.
وبمرور الأيّام يجد "غورينغ" نفسه مُجبرًا على لعب دور "كيشوت" في محاربة جشع السّجناء وأنانيّتهم العمياء، مُختبرًا بحقّ ألم إجهاض أحلامه في إرساء العدالة والنّبل بين أشخاص تُسيطر على نفوسهم الأنانيّة، وتتّخذ من شريعة الغاب دستورًا لها، فتكون غريزة البقاء المحرّك الفاعل وراء تصرُّفاتهم.
عندها، لا بدّ أن يلوح في آفاق المشاهدين مفهوم المسؤوليّة الفرديّة، تلك الصّفة الغائبة بين أولئك السّجناء، في حضور عدد من السّلوكات المُتفسّخة، الّتي يعرضها المخرج تصريحًا لا تلميحًا، ليدفعنا نحن المشاهدين إلى تقييم مواقعنا، وإعادة النّظر في تصرّفاتنا وبالتّالي تعديلها بشكل يضمن لنا جميعًا فرصة العيش المُتناغم على كوكب الأرض.
فمَوارد الأرض وخيراتها تكفي الجميع، شرط ألّا يتعدّى أحد على حقوق غيره تحت أيّ ضغط نفسيّ أو شره عاطفيّ، ولذلك، كان أحد قوانين الحُفرة في الفيلم؛ عدم الاحتفاظ بأيّ شيء من الطّعام المُقدّم على المنصّة، إنّما الأكل خلال الفترة الزّمنيّة القصيرة المحدّدة، فـ"امتلاكنا للمال لا يجعلنا سعداء، ولكن إنفاقه جيدًا هو ما يجعلنا كذلك، السعادة هي ثروة تم إنفاقها بشكلٍ جيد"(2).
إذن، الحُفرة وإن بدت فُسحة مكانيّة مُتخيّلة الوجود، إلّا أنّها تعكس حقيقة كلّ أماكن العالم الّتي يُسيطر فيها الطّمع على نفوس أفراد، أُجبروا على عيش الاشتراكيّة لكنّهم طبّقوا الرّأسماليّة بامتياز.
والآن، وبعد الوقوف عند شواخص مهمّة في الفيلم، يُمكننا أن نتصوّر مضمونه وندرك أنّه قد لا يصلح لأصحاب القلوب الضّعيفة، وأولئك الّذين يعانون "فوبيا" الأماكن المغلقة أو المرتفعات، أو حتّى من يشمئزّون من الدّماء؛ لكنّه بالتّأكيد لن يصلح أبدًا لذوي الوعي المحدود، ومُتبنّي نظريّة المؤامرة؛ إذ يحمل في لقطاته مغزى فلسفيًّا، وينقل دعوة تُشدّد
على تجريد الذّات و إصلاحها ليعمر الكون، فـ"لا يمكن للتّغيير أن يكون عفويًا، ولو انتشر هذا التّضامن بالفعل بين النّاس هنا، سيقومون بمنع حدوثه بالخارج"(3).
- - - - - - - - - - -
• المصدر:
فيلم المنصّة El Hoyo، أو The Platform، إنتاج شركة “نتفلكس، عُرِض لأوّل مرّة في مهرجان تورونتو السّينمائيّ الدّوليّ سنة 2019.
• الهوامش:
(1) بول مكارنتي: مغنٍّ وشاعر غنائي بريطاني، مواليد 1942م، له تجارب ناجحة في السّينما، ففي عام 2019 دخل مجال التأليف الموسيقي المسرحي، من خلال تحضيره لوضع كلمات وألحان لمعالجة مسرحية لأحد كلاسيكيّات السينما الأميركية فيلم (إنها حياة رائعة).
(2) ميغيل دي ثيربانتس: جنديّ وكاتب ومسرحيّ وروائيّ إسبانيّ.
(3) مقولة مقتبسة من الفيلم، على لسان غورينغ، الشّخصيّة الرّئيسة، في حواره مع مديرة المكان (الحفرة).