د. مارغو حداد
كاتبة وأكاديمية أردنية
على الرّغم من أنَّ أغلب الأعمال الدراميّة التي عرضتها الشاشات في الموسم الرمضاني الماضي كانت –في معظمها- مزيجًا من ضحالة الفـكـرة وركاكة الأداء والـتنفـيذ الاستهلاكي وسـيـادة التهريج والاستظراف الممجوج، إلا أنَّ إرادة التغيير ما زالت قائمة، لكنَّها في مراحلها الجنينيّة، تحاول بقدر ما تستطيع الخروج إلى الحياة بجماليّات جديدة ومبتكرة، أكثر عمقًا من حيث الرُّؤية، وأكثر إقناعًا من حيث الأداء والسويّة الفنيّة.
في معرض ما نشره المخرج المصري خالد يوسف على حسابه الرسمي في "الفيسبوك"، حول مراجعته النقديّة السريعة لما يبث على فضائيّاتنا العربيّة في الموسم الرمضاني الماضي، حيث قدّم –في حينه- وجهة نظر مهمّة تدعونا جميعًا للوقوف ومراجعة الأداء لما نُنتجه أو نُساهم فيه، وكل مِن موقعه في صناعة الدراما.
هذا الشكل من التفاعل الخلّاق لمخرج مثقَّف هو ما يمنح الفنّ جدواه، فكل عمل فني، ننجزه أو نشاهده أو نكتب عنه، لا يثير مثل هذا التفاعل عبر إشراكنا في محادثة مستمرة حوله، هو خارج الحقل المعرفي للفن، فالكثير من صانعي الدراما ونجوم التمثيل تحديدًا، باتوا خارج تصنيف هذا المفهوم، وأبعد ما يكونون عن أيّ وظيفة مفتَرَضة يؤدّونها في إثارة أسئلة كبرى في عقولنا لا بدّ من الوقوف عندها؛ كونها جاءت لتمثل توجيهات عميقة التأثير، فمَن يمتلك رؤية الماضي بوعي الرّاصد، يحوز ثقافة الحاضر، وذلك امتثالًا لمنطق أنَّ حاضرنا إنَّما هو طفلُ ماضينا.
فالتفسير العميق لكل ما تتضمّنة العملية الفنية، يخلق وحدة متَّسقة مع المنتَج الإبداعي وعلى قاعدة إدراك ضرورة فهم الدراما في بنائها وأثرها الفني. مثلًا؛ إنَّ استخدام فكرة تأكيد ما يتضمّنة العمل والنص بين السطور هو ما يتيح للمخرج أن يعبِّر عن تناول إخراجي يضيف الكثير إلى مستوى أداء عناصر العملية الفنية كافة من ممثّلين وتقنيّين وصُنّاع الفنون المجاورة في صياغة المشهد، فالكتابة الدراميّة وحدها لا تكفي بالتعبير عن الأحاسيس، كونها تطرح أفكارًا عميقة مجرّدة، وهنا لا بدّ من تدخُّل فعل الإخراج، وفق مدى أصالة فكرة المخرج الذى يكتفي بإجادة الحرفة، والمخرج الجيِّد، والمخرج العظيم عميق الرؤية.
إنَّ الوعي بمهمّة المخرج هي نقطة البداية لتطوير العملية الإخراجيّة ومنجزها الفني؛ فالمخرج الحَرفي يكتفي بأن يعثر على طابع واحد للسيناريو الذى يخرجه، أمّا المخرج الجيد فإنه يقدم رؤية أكثر تعقيدًا للنص تحتوي على تراكيب فنية عبر عدة طبقات من التفسير. بينما يحوِّل المخرج المحترف نص السيناريو إلى مستويات تفكيكية من الإيحاءات العميقة والمدهشة، يتجاوز فيها النص نفسه ليجعل التجربة متعددة المعاني، ويضعنا أمام طرق جديدة لرؤية مبتكرة وحلول جمالية مستحدثة يتحقق فيها شرط الدهشة التي لم نعتد أن نراها.
أمّا الصورة التي تعبِّر عن الوجدان والحس الإنساني والجمالي في تكوينها الدرامي، فهي الصورة التي توثق تفاصيل سيرورة الحياة بأشكالها وألوانها كافة، عندما يكون عقل المخرج وإدراكه وإحساسه بـ"علم الأداء الفني"؛ قائمًا على ثوابت صادقة وحقيقيّة في صناعة الجمال والدهشة والإمتاع، محدثًا تعبيرًا جماليًّا في رؤيته الإخراجيّة في مجمل عناصر المشهد المبتكر، من السيناريو وشخوصه والأزياء والديكور والمكياج والإضاءة وجماليّات أثر الصمت والألوان، وزوايا التصوير وحركة الكاميرا...إلخ، والتي يسميها الكاتب والأكاديمي (جوزيف كورنر) "الاستراتيجية البصريّة" التي تقدِّم عبر كثافاتها الرمزية، دلالات إيحائيّة تضيف معنى مبتكرًا للصورة، يتحقق فيها تكييف وتوجيه المُشاهد وإثارة تفسيراته وإدراكه، محفزًا عنده الرغبة القصوى في تلقي بؤرة الرؤية، فالإيقاع الجمالي المتجدِّد واالمتنوِّع هو ما يدفع الإبداع إلى التحليق، ويحقق شغف المتلقي لاستقبال الجمال وخطابه الخلاق.
وهنا، أتفق إلى حدّ بعيد مع ما ذهب إليه المخرج خالد يوسف، فالديكورات في كثير من الأعمال المطروحة لا تمتّ لطبيعة الأماكن بصلة، والملابس مثلًا لا تنتمي لعوالم الشخصيّات كونها جاءت في أغلبها "على مزاج الممثلين والممثلات" فحرفت الدَّور الفني لمصمِّم الأزياء وألغت دوره في أحيان أخرى، فسقط الجميع في دوّامة بسبب قلّة المعرفة العميقة لدلالات العناصر الفنيّة ومعنى الوظيفة الجماليّة للعمل الفني. فالأجزاء لا تكون مؤثرة إلا بقدر مساهمتها في صناعة الجمال في الكلّ، فلا يمكن أن يكون الكلّ جميلًا مركّبًا من أجزاء قبيحة أو خارج السّياق، وغير ذلك يكون جهلًا وعدم إدراك لعلم الجمال، فهناك ثلاثة عناصر ترتبط بالفنان لا بدّ أن تدخل في تكوين العمل الفني هي: المادة، الموضوع، والتعبير، فقوام البناء المكاني هو: المواد والأشياء والأجسام الموجودة في المكان بألوانها وإضاءتها، فمصمِّم الديكور مثلًا يعطي للأشياء والأشكال نمطًا تعبيريًّا مدروسًا وخاصًّا، متناغمًا مع وجود مؤثرات بصريّة لها مفرداتها وأثرها المحسوس وغير المحسوس، وهكذا تصبح لها دلالة ومعنى ووظيفة جماليّة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعناصر المعادلة الفنيّة كافة. أمّا جمالية الشخصيات فتنبع من الفهم العميق للقصة، وطريقة استعمال لغة الحوار الدرامي، وتكنيكات استخدام الجسد والوجه والملامح وطريقة الجلوس والحركة، ودلالات الأزياء الدرامية، خاصة اللباس الذي يتضمَّن أبعادًا ثقافيّة، كونها الصور التي تربطنا بذاكرة ماضينا الأصيل.
إنَّ اللباس ثقافة ولغة لها قيمتها الدلالية الحادة جدًا، والتي تكشف عن الحال المعرفي والعقدي والأيديولوجي للشخصية، على الرغم من كون الزي في الأسساس مفردات لشخصية تعكس عاداتها القومية وضروراتها العملية، إلا أنَّ اللباس ليس مجرَّد هذه المفردات البصريّة فقط، بل إنه البيان الثقافي والإعلان السياسي والمهني والجنساني، والديني...إلخ، وتظهر معه تباعًا الأدوار الاجتماعية للبشر، التي تكشف عن حال النسق الثقافي للمجتمع بكليّته. فإذا خرج فرد عن المنظومة الإصطلاحيّة في اللباس السائد فإنه يتعرَّض لنقد لاذع، ويكون مادّة لعقاب اجتماعي كلي عبر السخرية والنَّبذ، كون سلطة الزيّ واللباس ما زالت تكمن في قبضة المؤسسات الاجتماعية والثقافية والدينية والرأسمالية الاستهلاكية المتنفذة. ففي صناعة الدراما تتمثَّل الشخصية في صور ماديّة مصنّعة يتقمّصها جسم الإنسان، فشكله الخارجي وأزياؤه واكسسواراته وممتلكاته تتحوّل إلى مؤثرات يتبنّاها المُشاهد بمصداقيّة، أو يرفضها إذا غابت عنها القيمة الجمالية أو الثقافية أو الأخلاقية.
أمّا المكان فلا يمكن أن يكون بعيدًا عن فهم أنماط بناء العلاقات الاجتماعية وثقافتها المكانية والعلامات البصرية التي تبني الصورة السينمائية أو المسرحية أو التلفزيونية، أو أن يكون بمعزل عن الموضوعات الثقافية التي تنتجها حركة الإنسان في الطبيعة والمكان الذي يعيش فيه، أو بعيدًا عن النماذج الاجتماعية المرتبطة فيهما، فالخطاب البصري وثقافة الصورة تشكلان اليوم سلطة جمالية خلاقة عالية التأثير، تثير قيمنا المعرفية وذائقة اختياراتنا الجمالية ومستقراتها، وهنا مكمن الخطر في الخطاب البصري المعزِّز لمحتوى لغة الحوار في السيناريو والموسيقى واللون والإيقاع والصورة المحفزة لإثارة خيال المتلقي، والتأثير على تقبُّله للمنتج الفني وتغذيته الراجعة، وغير ذلك نذهب بالملتقي خارج السياق، وقد نُكسبه معارف لا تمتّ لكيانه الثقافي بصلة.
إنَّ أغلب ما يصلنا عبر الشاشات هو مزيج من ضحالة الفـكـرة وركـاكـة الأداء والـتـنـفـيـذ الاستهلاكي وسـيـادة التهريج والاستظراف الممجوج، وإفساد ذائقة الجمهور والتشويش عليها. والسبب في ذلك يكمن في افتقار مخرجي هذه الأعمال لـِ"علم الدراما" والقصور الواضح في الخبرة والقدرة والخيال والرياضة الذهنية في مجالات الدراما وصناعة الجمال.
وعلى الرّغم ممّا يحدث اليوم في الكثير من الأعمال الدرامية، ما تزال لدينا إرادة تغيير في مراحلها الجنينيّة، تحاول بقدر ما تستطيع الخروج إلى الحياة بجماليّات جديدة ومبتكرة، أكثر عمقًا من حيث الرُّؤية، وأكثر إقناعًا من حيث الأداء والسويّة الفنيّة. لتؤكد وبحماسة عالية، على أنَّ وظيفة الفن في الوصول إلى مبتغاها الأول: إمتاع الإنسان وتهذيب غرائزه وذائقته الجماليّة، وإثراء معارفة الحياتيّة الخلّاقة.