قصة: سهام أبو عواد
كاتبة فلسطينية
كُنْتُ في دائرة الترخيص حين هاتفتني زوجتي تقول: "لقد قُتلت جارتنا أم الودع".
أغلقتُ الهاتف وأنا على غير العادة أبتسم، يا للمفارقة، عرّافة ولم تتنبّأ بمقتلها، كيف هذا؟
كانت تحشد لي الدنيا وقتها كل هَمّ قد يواجه شابًا في مقتبل العمر، لذا تجدني ألقط أخبار مستقبلي من الطالع، كان اليأس قد بلغ بي مبلغه، لذا حين اقترح ابن خالتي "زياد" وهو صديق طفولتي أن نزور "أم الودع" التي أخبرته أمه عنها، وكيف أنها عالجت زوجة أخيه، حين كانت عاقرًا فداوتها "أم الودع" وأنجبت توأمين.
"زياد" لم يذكر لي وقتها، كم اشتكى أخيه من زيارة الأطباء، بل شمل الجميع بجملة واحدة، لقد فقد أخي الأمل من الطب والأطباء. ولم ينفعهم سوى الله وأم الصدف بودعها.
ولم يذكر أيضًا، أنه لمّا سمع بما يُقال عنها، لمعت في رأسه فكرة شيطانية، جعلته الأقرب لودعِها، هو اكتفى بإظهار محفظته المملوءة بالنقود، دون أن يشرح لي كيف ولماذا.
صدَّقتُه كما لو كنت غريقًا تعلق بقشة، ومضيتُ ذات يوم وحدي إليها، لم أشاء أن يذهب "زياد" معي، ففي نفسي صدّقت أنها سوف تكشف لي المستور، وبالطبع لا أريد لكل المستور أن يصبح متاحًا له.
"أم الودع" امرأة بدينة جدًا، وقبيحة الشكل، وجهها مربع، ولونها تحسبه رمادي! لكن حين تدقق في خديها، تشعر أن الرطوبة قد برقعت وجهها فصار كركميًّا تارة وتارة أصفر، كأنه سلخ من حائط عتيق لم يرَ الشمس منذ حين، أنفها مجعد قصير، على رأسه شامة سوداء، تبدو كحبة فلفل أسود نجت من الطحن. لفمِها شدقان متعبان من كثرة الكلام، تظن أن صوتها سمّاعة مثقوبة بدل أن توصل إليك كلماتها تبتلعها، لذا كان حديثها همسًا.
هي كالزوبعة، تهبّ حين تمشي بالعرض، لأنّ طولها على ما يبدو تمدّد في عرضها. لذا بشكلها هذا تعرف أنها لا تصلح إلا لتكون عرّافة، خصوصًا مع عطرها البخوري، وخواتمها المزركشة بأحجار العقيق.
يُقال أيضًا إنها أنجبت طفلًا معاقًا مات بعد مولده بعشر سنوات، وإنّ زوجها تزوّج عليها مرتين، تعرفتُ عليها أول مرة في السوق، كانت يومها قد أضاعت خرقة تخبئ فيها مالها، فصارت تولول وسط السوق وترفع يديها إلى السماء تتحسّب على مَن وجدها ولم يُعدها إليها.
الآن حين أتذكر كل هذي الأشياء حولها أموت ضحكًا، أنتبه كم كنت غبيًا.
ذاك اليوم حين توجّهت إليها، كنت أطمع في أن تمنحني حلًا سحريًا يبدّل حالي، وأن تفتح لي أبواب الرزق المغلقة. فتحت لي الباب صبيّة صغيرة، على ما يبدو خادمتها، أجلستني في غرفة ضيّقة لا تكاد تتّسع إلا لشخصين، وممتلئة بالصناديق المغلقة، عرفت بعد دقائق أنها عطايا وهدايا من أناس غيّرت لهم "أم الودع" حظهم في الحياة، بحسب ما ادّعت. مساكين هؤلاء الناس فهم ضحاياها قبلي.
دقائق وحضرت، رحّبت بي وهي تتأملني من قدمي حتى رأسي، رمقتني بعينيها الكبيرتين الجاحظتين، فارتعشتُ رهبة، كما لو كنت أقترب من شيطان.
ـ لِمَ ترتعش؟
ـ لا لست كذلك، لكنني مريض!
وحين ابتسمت أحسست أنها قرأت ما في رأسي، فسألتني:
ـ أنت لا تعمل؟ أليس كذلك؟ وباب رزقك مغلق؟ ترغب في الزواج، لكنك لا تستطيع؟
انهالت عليّ بما جعلني أذوي في دهاليز ضيّعتني، شعرتُ أنني محاصر وأنها تعبث بعقلي.
تناولت كفّي المفتوحة، وبدأت تخور مثل جاموس.
-عمرك طويل يا بنيّ لكنه شاق...
دققت النظر في خطوط يدي، وأضافت: "أنت محسود يا بني، وهنالك مَن يتربص بك، كلما أوشك الرزق على الوصول إليك منعه أحدهم، وهذا الشخص كاره وحسود".
هذي الكاذبة جعلتني أصدق، بل وبحسب وصفها قد حدَّدت حاسدي.
طلبَت منّي أن أخرج قطعتي نقود كبيرتين من محفظتي، قطعة أضعها في منديل أسود مرصوص داخل علبة زجاجية مستديرة تدلّت حوافه إلى خارج، أظنه كان جزءًا من مجموعة صُنعت لحفظ الشاي والقهوة والسكر، كنت يومها أحمل في جيبي عشرين دينارًا استلفتها من "زياد"، فقد نصحني قائلًا لي لا تذهب وجيبك فارغة، تناولت ورقة النقود، وضعت عشرة دنانير في المنديل الأسود، والأخرى دسّت يدها في صدر ثوبها وأخرجت ورقتين من فئة الخمسة دنانير، أعطتني واحدة والأخرى ألحقتها بصاحبتها داخل العلبة الزجاجيّة، كنتُ أراقبها وهي تقلد دور المُحاسب، منتظرًا بشوق، حل "أمّ الودع"؛ "أمّ الصَّدف"، أمّ أي شيء، أن تخرج لي بحلها السحري، تناولت الدنانير الخمسة وضعتها في كفي قائلة: "هذه لك، هي تفي بالغرض". ثم أحضرت لي قطعة قماش بيضاء، فيها حفنة من ملح، قرأت عليها بعض الآيات من القرآن ثم طلبت أن أضعها في محفظتي، واثقة بوعدها لي أنه بعد يومين سوف أجد ما لا أتوقع من خير ورزق.
مرَّ اليومان والثلاثة، ولم يأت الرزق، بل ازدادت أحوالي سوءًا حتى شارفت على الجوع!
في كل يوم انتظار أصبحت مسكونًا بـ"أم الودع"، فكلما قرع الباب، قلت في نفسي لا بد أن الرزق آت، ولم يأت سوى صاحب البيت يطلب الإيجار، وإنذار بفصل عداد الكهرباء إن لم أسدّد الفواتير.
مرّ أسبوع، وأنا أتقلب في فراشي واثقًا بالرزق الذي سينهال علي من حيث لا أعلم، نفد الطعام والشراب، وجيبي ما فيه من شيء، حتى لأشتري بعض الخبز.
أمسكت بمحفظتي، نثرت الملح، وتناولت الدنانير الخمسة، وتوجهت لدكان "أبو سمير" وابتعت لنفسي كمية كبيرة من الخبز وبعض الخضار، انتبهت أنّ شيئا ما في داخلي ما زال مقتنعًا بكلامها، وأنني لا إراديًا أشتري هذي الكمية من الخبز كي أحتمل السجن الذي فرضته على عقلي بانتظار الرزق القادم.
تناولتُ طعامي، وأنا أضحك من نفسي، فكيف سيأتي الرزق وقد سرَّحتُ حارسه من محفظتي، فهي طلبت مني، إنْ كنت أريد هذا الرزق المجهول أن لا أقترب من صرَّة الملح.
ارتديتُ ملابسي مرة أخرى، وأنا على وشك أن أذهب لـ"أم الودع" وأحطم حصّالتها الزجاجية وأسترد مالي، وبالطبع كنت لأسمِعها ما لم تسمعه في حياتها. خرجت وتمشيت في حارتنا، كنت أشاور عقلي، بين ما يجوز ولا يجوز، وبمحض المصادفة، قابلت صديقًا لوالدي فسلّمت عليه وأخذنا حديث الحياة.
أوشكت من فرط سعادتي بـ"أبو جميل" وكان الصديق الأقرب لوالدي أن أخبره عن "أم الودع"، لكنني تراجعت حين سألني:
ـ ماذا تعمل الآن؟
وأجبت مرتبكًا:
ـ لا شيء حتى الآن!
- إذن ما رأيك أن تعمل لديّ؟ أسست مصنعًا للألبان وأحتاج إلى سائق شاحنة مؤتمن، وموزِّع أيضًا، فاختر أيهما؟
عرض "أبو جميل" أعاد لي الحياة، إلى الحد الذي نسيت فيه أمر "أم الودع"، لكن حال وصولي إلى البيت، وجدت "زياد" ينتظر أمام البيت مرتعدًا.
فتحت الباب، سألته وقد انتقلت عدوى الخوف إليّ:
ـ ما بك؟ ما بك؟
ـ يبدو أنني تورَّطت في كارثة يمكنها أن تلف حبل المشنقة حول عنقي!
ـ اهدأ واخبرني فيمَ تورَّطت؟
ـ تلك الشيطانة أم الودع، لقد أغرقتني بالمال منذ سنوات لأكون مساعدًا لها في أكاذيبها وحيلها، في البداية سيطرت عليّ بالسحر والخوف، ثم أغرقتني بالمال.
ـ حسنًا وماذا حدث؟
ـ كنت أظن أن هذي المرة ككل مرة، لقد أعطتني صرّة فيها أشياء لا أعلم ما هي، وطلبت أن أدفنها أمام بيت "أبو حابس"، ففعلت، وغادرت، ثم فوجئت هذا الصباح بخبر أن بيته تعرّض للسرقة، وأنّ السارق اعتدى عليه وفر من المكان.
ـ وأين هو الآن؟
ـ في المستشفى، وحالته حرجة، وأخشى ما أخشاه أن يكون أحد رآني فيتَّهموني.
ـ ما عليك أن تخشاه هو أن يموت!
- ما العمل يا صديقي؟ ما العمل؟
ينتابني غضب عارم، وليس شفقة بحال صاحبي.
- وماذا فعلت لأجلها أيضًا؟
- مجرد أشياء بسيطة، كانت تطلب مني دفن أشياء في القبور، وطلبت مني ذات مرة أفعى فأحضرتها، ثم أنني كنت أصطاد لها ضحاياها، وأحدِّثهم عن قدرتها وأقنعهم بالتوجُّه لها، بعد أن أجمع منهم كل أخبارهم ومشاكلهم كي يكون الاحتيال مقنعًا.
أضحك قهرًا وأسأله:
ـ وبالطبع أنا واحد من هؤلاء؟ لهذا كانت تعرف عني ما جعلني أقع في أحابيلها! لكنني يا أحمق فقير، أنت أكثر من يعرف هذا! ماذا كنت لتفيد ممَّن هو مثلي أنت وتلك الـ...؟
يُجيبني خجلًا:
- نعم. لكنني اتفقت معها، على إقناعك ببيع قطعة أرضك الوحيدة، ثم نسرق منك ثمنها بالحيلة.
- وكيف عرفَتْني وقد ذهبت إليها وحدي؟
-أنا كنت معها حين أتيت، لكنني اختبأت في غرفة أخرى بمجرّد أن سمعت صوتك.
- وماذا أيضًا يا "زياد"؟ ماذا أيها المجرم؟ ماذا يا ابن خالتي، يا مَن ظننتك أخي؟
"ليس بعد، هنالك أشياء لم أقم بها بعد"، قالها مرتعدًا.
- مثل ماذا؟ أخبرني الآن، أخبرني.
- لقد طلبت أيضًا مني أن أذهب ليلة الجمعة وأتسلل إلى خزان الماء فوق سطح جيرانها لأضع فيه شيئًا، مدَّعية أنها تريد السيطرة عليهم لأنهم يزعجونها، لهذا تريد أن تصلح أخلاقهم وسلوكهم معها!
فأصرخ به:
- هل أنت أحمق؟ ماذا لو كان هذا الشيء سمًّا؟
ـ لا، هو مجرد ثعبان ميت، وخطّتها أنها سوف تحتال على زوجة الجار وتخبرها بعد أيام أنها شاهدت رؤية، تُفيد بأنَّ حياتهم في خطر وسوف تشير إلى خزان الماء، فيجدون الأفعى، وبذلك يؤمنون بها حين تنقذ حياتهم.
- فعلًا أنت مجرم وأحمق، ومَن قال لك إنَّ هؤلاء الناس سوف ينجون بعدها من الموت لتنقذ هذي الشيطانة حياتهم؟ ماذا أفعل بك يا صاحبي؟ ماذا؟ أنتَ أخبرني؟
ـ أرجوك يا "نضال"، أرجوك لا تخبر أحدًا، أعدك أنني لن أذهب إليها أبدًا وسوف أتوقف. لا بل سوف أغادر كل المدينة ولن أعود، حتى تموت "أم الودع".
نهض "زياد" وهو يتلفت حوله. شعرتُ أنّ في فمه كلامًا أسوأ ممّا قال. وصل إلى الباب ثم عاد:
- هنالك ما هو أقبح من كل ما قلته لك.
- ماذا بعد أيها المجرم، فمن مثلك يبيع نفسه للشيطان مقابل حفنة من نقود.
أمسكتُ بكتفيه أهزّه:
- قُل يا أحمق ماذا؟
- لقد طلبَتْ منّي شيئًا بذيئًا، هي تريدني أن أمنحها حيواناتي المنويّة، كي تحقن بها النساء اللاتي يأتين من أجل الإنجاب.
حينها أوشك قلبي أن يسقط منّي، "ويلي أيّ شرّ هذا؟".
- ويلك يا زياد، ويلك هل فعلتَها؟
- ليس بعد، ولن أفعلها.
- وقُلتَ لي إنَّ أخاك وزوجته ذهبا إليها؟
- نعم.
- ديوث أنت ديوث، اخرج سوف أبلغ الشرطة عنك.
انهار بين يديَّ وهو يرجوني، فتركته، وهدَّدته إن هو لم يذهب بنفسه ليبلغ عنها الشرطة سوف أفعل أنا. استحلفني بكل ما يمكنه الشفاعة له عندي، ثم حين قال: "سوف تموت خالتك إن عرفت بهذا"، فسببتُه وسببتُها، وطلبت إليه أن يغادر دون رجعة.
ذهب "زياد" وقد ترك لي همًّا كبيرًا، فهو أوّلًا صديقي، وابن خالتي، لكنه غدر بي، فكيف أكون في أمان مع أيّ صديق إن كانت هذه حال "زياد" معي وهو صديق عمري وقريبي؟
قبضوا بعد أيامٍ على السارق، ونجا "أبوحابس" بأعجوبة من موت محقق، "زياد" ذهب وما رأيته بعدها، اختفى تمامًا، لا بل غيّر رقم هاتفه، فقلت في نفسي: ليذهب للجحيم، فالدهر لن يصلح خيبة العطار، وأنا لا أملك دليلًا يضع حدًّا لشيطانة الثعابين تلك! في النهاية سوف يفتضح أمرها، سوف أواصل تحذير الناس ممّا تفعله، وبلا شك سوف تكون نهايتها على يد أحدهم.
مرَّ عامان، وأنا أسمع أخبار مَن يتهافتون على بيت "أم الودع"، كنت أظن أنّ الوعي والطب، قد يحدّ من جهل الناس، فنحن الآن في منتصف الثمانينات، حيث يمكن إيجاد تفسير لكل مشكلة، بدلًا من اللجوء لمشعوذة مثل "أم الودع".
كنتُ أروي حكايتي لكثيرين، كي يتجنبوا الوقوع في حبال سحرها، ولسانها المعسول، ووعودها المدفوعة الثمن لكن دون جدوى، فنسيتُ أمرها حتى ذلك اليوم الذي ماتت فيه.
عدتُ إلى حارتنا في مدينة السارية، وأنا أعلم بمقتل "أم الودع" بعد مكالمة زوجتي لي، لكن لا أعلم تفاصيل مقتلها، مع أنني حاولت لكن دون جدوى، للوهلة الأولى ظننت أنّ "زياد" هو القاتل، أو علّه جارها، أو ربما هو أحد أولئك المساكين من ضحاياها. بعض الناس تناقلوا حديثًا عن جيرانها، أنه في ليلة مقتلها سمعوا عويلًا وصراخًا يصدر عنها، وكالعادة لم يجرؤ أحد على طرق بابها، لأنهم تعودوا على عراك "أم الودع "وجنيّاتها، هذا ما كانت تجيب به أحدهم حين يسألها عن سبب الأصوات تلك. في حين قال آخرون إنَّ تلك الأصوات كانت لأناس حاولوا استرداد مالهم بعدما اكتشفوا ألاعيبها.
كان الخبر يزلزل المكان، فكل واحد وواحدة في حيِّنا، بل في المدينة، إن لم يكن له معها حكاية مباشرة، على الأقل سمع بحكاية آخر معها، وما أثار جنوني، أنّ الناس انقسموا إلى قسمين، بعضهم يشجب مقتلها، ناعتًا إياها بأنها أصلحت شأنه، وبعضهم الآخر يتهمها بالكاذبة والمشعوذة!
مرَّت أسابيع ثلاثة على شمع بيت "أم الودع" بالشمع الأحمر، لأنه موقع جريمة، حتى فتح التحقيق سيرتها مجددًا، فقد عرفوا قاتلها، وعُرف السبب، ولسخرية القدر، تمَّ الكشف عن مادة عالية السميّة في دمها، وبعد التحقيق، تبيّن أنها تزور مشعوذًا في قرية ليست بالقريبة من المدينة، كان يعطيها مسحوقًا لتشربه كي يخرج الجنّي من رأسها، واعترف المشعوذ الآخر، أنها كانت تعاني من هلوسات تحرمها من النوم، وتفقدها شهيّتها للأكل، لذا صنع لها علاجًا يشفي من الألم لكن للسخرية أدّى إلى موتها.
حين سمعتُ كيف ماتت، ذهبتُ إلى قطعة الأرض التي صارت ثلاث قطع، لأنّني أدركتُ أنَّ تعويذة الرزق في كفّي، وبمشيئة الله لا وشوشات أصدافها، فلو صدقت العرّافة لما جمعت كل بيوت اللؤلؤ الفارغة، لتخبركَ عن بيتكَ العامر.