د. عبد القادر الرّبّاعي
أكاديمي وناقد أردني
تصدير:
نبدأ بإعطاء مفهوم عام لما تعنيه القراءة التأويلية هنا. إنَّها تستند إلى ما يعنيه التأويل حسب النظرية الهرمنيوطيقا- التّأويليّة. إنَّه يعتمد أسساً ثلاثة للوصول إلى المبتغى، وهي الفهم أولاً، والتفسير ثانياً، والتطبيق المسبوق بالتمثل ثالثاً ( انظر ذلك في كتابي: حفريات النص الشعري الجذري- التأويلية إطاراً) . وبناء عليه نبدأ من العنوان كونه الإضاءة الكاشفة عن وجه المسار الذي يسلكه النص. فالعنوان( فليكن ) عبارة مضمرة تثير أسئلة؛ لأنَّها تعقب حالة سابقة وتنير حالة لاحقة. فالكينونة القريبة هي قوله تعالى ( وإذا قضى أمراً فإنَّما يقول له كن فيكون). فالآية الكريمة تعني أن يتوج الديوان بالاستجابة اللدنية الممتدة إلى رحلة عائمة في الخيال، تتخطى المادة الزائلة إلى التجوال في عوالم الروح، مبتدئة بالبوح، فكان وقعها الأول على إيحاءات الصوفي ابن عربي يقول: ( من أحبك من حيث أنت فقد أحبك ). ومثنية بتأكيد الشاعرة مقولة الحب تلك في مفتتح الديوان:
( أحبك من حيث أنت ومن حيث أنت، ومن حيثُ وحدك؛ فأيّ فضاء تولى، وأيَّ فضاءٍ تجلى، وأيَّ فضاءٍ تنسك).
قد يغرينا هذا إلى أنَّ النزعة الصوفية هي التي تتملك الشاعرة في الديوان كله. لكنَّ الأمر بحاجة إلى تأنٍّ، فالشَّاعرة من جهة ثانية تترسم بعض ومضات محمود درويش، وخاصة في ديوانه ( لماذا تركت الحصان وحيدًا ). وبناءً على هذا لا نستبعد أن ترتد بعنوان ديوانها إلى مقولة مختلفة، ومتطابقة معه حين يقول درويش: ( إن كان لا بدَّ من عَلَمٍ، فليكن، هكذا من رموز تجعِّده ). فعنوان ديوانها ( فليكن ) قد تكون اتخذته من مقولة درويش هذه أيضًا؛ ولهذا فإنَّ مهمتنا أن ننظر في شعر الشاعرة بعيدًا عن فضاءات فكرية مسبَّقة، وأن نستقي أفكارها البعيدة من خلال النص وتشابك سياقاته، حتى مع التقاء بعضها فيما ذُكر من توجّه دينيٍّ، أو درويشيّ؟
تعيش الشاعرة في البداية حيرة تأخذها هنا وهناك؛ لكنَّها تستقر حيث واحة الاستقرار الملأى بالتولُّه والتراتيل والقلاع التي تغمرها شمس الضياء، ونور اليقين. تصوّر الشاعرة ذلك الصراع الداخلي بصورة يحبكها التّضاد بين الزجاج الشفيف من جهة، وحتف الشظايا من جهة أخرى. ويبدو أنَّه صراع مهلك حيث التداخل الضدي في مثل قولها : ( فكيف سأغفو وقد لونتني العطايا وأصبحت حتف الشظايا: جليّا )
إنَّ هذا الصّراع العاتي داخل النفس شكّل صورةً شعريّةً بارعةً من كلمتين متضادتين معنىً، ومتوافقتين إيقاعاً هما: العطايا/ والشظايا؛ فالأولى منحة من الله تعالى، والثانية دفع النفس الأمارة بالسوء. تفيدنا هذه الصورة المثيرة إلى أن نحكم منذ البدء أنَّ الشاعرة بارعة في تشكيل الصور الحيّة، وبخاصة حين الإيحاء بملاذات الذات الإلهية؛ مثل تمثّل حالة الطائر المحتمي بالخالق في قولها:
( حين تصير أنت سماوة الإيقاع في جنحي... لن أحتاج قشي ).
إنَّها صورة إيحائية محبوكة جيداً. استنطقت الطير بإيحاء رمزي لصوت الإنسان؛ ثم ربطتهما معًا بحماية الله وحكمه. ومن ناحية الفن فإنَّ الصورة يجمّلها الإيقاع في كلمتي: جنحي وقشي. وهكذا يتمحور الشّعر في اللغة شكلاً بديعاً وإيقاعاً ناظماً، ومعنى بعيداً.
وفي جلال هذا الفكر الممتد إليه تعالى؛ ترسل الشاعرة رسائل إلى أحبتها: أولاها إلى أمّها بصفتها حالّة بين الأرض والتجلي. إنَّ أمّها هي حلمها وباقة عطرها، وخائطة ثوبها، وحاميتها من التوهان. أمَّا أبوها فهو الذي أورثها الشعر، وعلّمها كيف تخط دربها إلى الصراع في كل الدروب، والمشي الثابت إلى اللاوصول.
وفي رحلتها إلى روح اليقين تسلك الشاعرة طريقاً متعرجاً منهكاً خلف رموز تأخذ بعض مسمياتها من ديوان صوفي يمنحها معاني قريبة وبعيدة تتراءى لها الحياة فيها صورة قطار يدخل فضاءاته أناسٌ مختلو الأشكال والمقاصد، ثم يخرجون مثلما يدخلون.
وتتهيأ لها الذاتِ الإلهية ضميراً للمخاطب، ليعيش معها في رحلة الإيمان الشاقة حيناً، والشافية حيناً. وقد تتجلى لها امرأة محجوبة محبوبة، لكن صحبتها تدخلها متاهات من القبول والرفض. إنها ثنائية تحتويها الأيام في صراع أبدي قد لا ينتهي إلا عند أفق مفتوح على اللامحدود.
اللغة في الديوان كينونة ذات حياة نشِطة، تخرج من هنا، وتدخل إلى هناك وقد امتلأت ألفاظاً، وجمالاً، وأشكالاً، وأبعاداً مستنبطة من الماضي والحاضر في أنظمة من البناء المتأرجح بين البناء المطلق، والمقيّد.
أما المشاعر المتأججة فقد استمسكت عراها حتّى لم تجد لها منفذاً تركن إلى سكونه. إنها تعيش في قلق وعنفوان صارخين؛ تصعد يقيناً، وتهبط استكانة، لكنَّها في كلِّ هذا وذاك لا تسقط، لأنَّها في صحبة إلهيّة تستمد منها العون للثبات على ما تحب وترضى باطمئنان داخلي بعيد، وعميق.
كم تكررت في الديوان ألفاظ العتمة في مواضع مصاحبة لغيرها، لكنَّها احتاجت معها إلى رؤية صافية لإيمان صادق. إلا أن تلك الرؤية الصافية لم تكن هينة، لأنَّ الصراع مع الآخر النقيض كان صراعاً عاتياً بين الاستسلام المهين أو الرفض العنيد. كل هذا منح الشعر حياة نابضة بالتوتر والحيوية التي يراد لها أن تستقر، لكن هيهات ذلك، والنبض لا يتوقف عن الحركة والحياة السائرة إلى الاندغام في كينونة الوجود.
وبين المتن والهامش يؤول الاحتراق ضياءً بعد احتوائهما معاً. في التصوف يصبح العمى منارةً مضمومة في قولها: ( إنَّي أرى في عماي). لكن الشك يعود: ( فقناصة الشك لا يهدأون ). هم في شكهم يصوبون ناحية القلب: صورة لنصف جناح يطير؛ قصد الـتأرجح بين الشك واليقين. وكذا الشعر شر جليل اقتنص من الوقت خنجراً غاص في دم هابيل من يد قابيل الأنيقة في الذبح؛ مشعراً كل حرب بموت حاسم. وفي الحلول يتجسد الغراب الصوفي رجالاً صوفيين.
تذهب الشاعرة إلى المعري لتؤكد أنَّه جناية أبيه (هذا جناه أبي)، لكنَّها تؤلف من حقيقة مأساته في عماه ومحبسه، نماذج تتضاد والواقع من أجل أن تفسح الطريق إلى أن يسير عماه إلى بصيرة يرى فيها أبعد مما تراه عين زرقاء اليمامة، ورغيف حبسه إلى انثيال جداول. كل هذا يتجسّد في صور شعرية أخّاذة مستعرة. ومن أمثلتها أيضاً بعض ما عرف عنه من غناء الحمامة أو بكائها، وإلى زهد يملأ خاصرته إذا جاعت، وإلى إبداعات في علم الحلول وشعر الطلول.
نظرة الشاعرة الإيجابية تحول السواد بياضاً، معتمدة في ذلك على تحويل المعنى إلى معادل موضوعي مستفز بما يستثيره من قلق وارتباك، ومن ثم إلى انسجام . وهي هنا تستفيد من آليات الرواية كالإرجاء، وأفق الانتظار؛ لذا هناك فسحة من تباعد بين العبارات والجمل والنصوص، الأمر الذي يشد القارئ إلى الشعر كي يعيش فيه مع التحدي الصارم للقبض على المعنى الخفي الكامن وراء ذلك التباعد. هذا فضلاً عن ابتكار الشاعرة للغة شعرية عميقة الجذور، فصيحة الامتداد، قوية الجملة، متجددة الصور والإيقاعات الموضعية المفاجئة، المزدانة بالقوافي الحادة. إنَّ شعر الديوان تحكمه قصيدة التّفعيلة؛ لكنَّه حريصٌ على توافر الإيقاع.
الشاعرة مختلفة بموهبتها الشعرية العالية. لذا أتت القصيدة عندها عالماً من التجلّي والغور البعيد. إنَّها متشابكة الحلقات، معقدة التركيب، ليس سهلاً فيها أن يصل القارئ إلى المعنى الرمزي، لأنَّه بعيد المرمى، ويحتاج جهداً مضنياً، وممارسة وافرة، وعلماً شاملاً، وثقافة واسعة، ونضجاً صابراً، ومستويات نقدية عالية.
سنشهد ذلك كله عملياً في متابعتنا للنصوص الإبداعيّة حين نشغل في تحليلها من جميع مستوياتها، العلمية، والفنية، والتركيبة؛ للوصول بها نحو الغاية الفضلى في التشكيل اللغوي والموسيقي والوحدة والتجلي الأخاذ.
• البناءُ الكليُّ:
بعد إعطاء بسطة عامة في التصدير، أتّجه إلى البناء الكليّ. فالديوانُ يستند على محطات متداخلة ومتفاعلة هي المحطات الأربع التالية:
1- في شهوة الإهداء. 2- ما يضاء بها. 3- في وضَح الكينونة. 4- يخيل في عتمتي.
تؤشر هذه المحطات إلى أنَّ الكيان الكلي للديوان مبنى ومعنى، مرسوم في خيال الشاعرة وقلبها وعقلها. وإذا كنا طرحنا الإطار العام الذي حام حوله الديوان؛ فإنَّ أمامنا الآن الغوص في الأعماق مهتدين بتنوع المحطات الشعرية أعلاه. لكن تلك المحطات لا ينفصل بعضها عن بعض، وإنَّما هي نسمات داخلية تتسلل الواحدة إلى غيرها لأنَّنا في جوٍّ شعريٍّ ذي خبرة وقّادة داخلية لا تستطيع أن تنفصل عن ذاتها الكلية في أية محطة قادمة، بل هي معنية بوحدة الرؤيا واكتمالها معاً.
أولاً: في شهوة الإهداء:
تطالعنا في الإهداء، الذي وسمته الشاعرة بالشهوة؛ نماذج شعرية ذات عناوين متعددة. وأحسب أنَّ في العنوان استبطاناً للمعنى المخبوء داخل الصور المتلاحمة. فشهوة الإهداء ابتدأتها بما كتبه طائر العش الذي وقفنا عنده. وتعقيباً عليه نؤكد أنَّنا في التحليل نحتال كي نستبدل بالطير إنساناً. فإذا كان الطائر يغنيه الله بحمايته عن العش، فالإنسان يستحق مثل هذه الحماية التي تبعده عن كل ما يسوؤه. لكن حماية الله للإنسان تتأتى بعد أفعال خيرة يؤديها بين يديه تعالى. وحين ندقق في المعنى الخفي ضمن صورة العش المركبة، نكون قد وصلنا إلى المبتغى منها ( فحين تصير أنت في جنحي )؛ أي حين يرضيك عملي، تصبح مرضاتك سماوة الإيقاع عندي. الإيقاع ليس مطلقاً، لكنَّه يعلو هنا العلو المتسامي. إنَّ هذا هو تحديد لصيرورة الفعل المطلوب من الإنسان تجاه ربه كي يكتسب حمايته.
وأتبعت الشاعرة شهوة الإهداء بضدها؛ أي بما أسمته: (شقوةَ الإهداء). وفيها اجتمع الثلاثي في الحدث الجرمي الأول للإنسان: الغراب الذي وصف بالصوفي، وهو عنوان الموت، موت هابيل على يد أخيه قابيل. ويثير وصف يدي قابيل بــــ (الأنيقة بالذبح) مفارقة عنيفة، وبعيدة، وغريبة، ومقلقة.
وتعْبُر شقوة الإهداء من الغراب إلى المعري، والولد الصومالي اللذين يستحقان منا بعض التمهل. فالنص يثير في القارئ رغبة المعرفة بين نقيضي الإهداء: الشهوة / والشقوة. فإذا كانت الشهوة انتهت إلى الانسجام بين العش وسماوة الإيقاع، فإنَّ الشقوة تستثير التوازن بين حدّين متجاذبين: المتن من جهة، والهامش من جهة ثانية. إنَّ في النص تصوّراً لحلٍّ كامن، هو التطلع إلى تسوية المثيل الأجمل، مع دفع ثمن ذلك الاحتراق، والإضاءة وسط النص. إنَّه العمل الأعتى والأجمل والأكمل.
وفي المتابعة نكتشف رؤى المثال: الأم، الأب، الآخرين. ومع الأم تستعاد كرامتها: أمك. أمك. وأما الأب فيذكر بآدم. وأما الشعر فهو باب مفتوح على مدارات ضمنية كالجب، والحب. لكأن قدر الشعر أن يقف على المفترق في كل فلق وقلق، كالحرب التي تكورت في صورة كونية للخنجر في دم هابيل. ولهذا اجتمع في النص الصوفي شاهدو المأساة الكونية الأولى، الثلاثة: قابيل، وهابيل، والغراب الصوفي. لكن النص لا يكتفي بالمشاهدة، وإنما يضيف إليها صدمة البشرية ببشاعة الفعل من خلال صورة الفعل ذاته عندما يصف بسخرية صادمة يدي قابيل بأنها أنيقة في الذبح: ( لقابيل ... من يديه الأنيقة في الذبح ). أعلم أنني أكرر هنا ذكر المأساة، لكن لك أن تضع هنا كل المصطلحات النقدية الغالبة القاسية على التماس مع الصورة وإيحاءاتها:
كالسخرية، والمفارقة، وما لا يُتوقع وغيرها. ثم تتوقف وتتملى قدرة الشاعرة على إبداع ما لم يبدعه غيرها. لكن بقية النص في عبارة (شهود البلاد) يمكن أن تمتد إلى أن هذا النموذج كان رمزاً ثابتاً مستمراً في البشرية أمام مرأى ومسمع من الناس في كل زمان ومكان، وكأنه لم يذكر للاعتبار، وإنما ذكر للتكرار؟! .
وتمتد شقوة الإهداء إلى أبي العلاء في محنته. لكنه وهو الذي حمل جناية والده إلى الدنيا، قفز بشخصه فوق المحنة، حيث تجاوزت رؤياه مع عماه ما رأته أسطورة الرؤية الأبعد عند العرب. كما استبدل بالمحبسين انكشاف الخلد في الفردوس، والدرك الأخير من الشقاء، وغدا وحيداً في المجاز وفي الحقيقة حتى انتهى إلى أن قال مُنتشياً:
( ولقد تركت قصيدتي تمضي لحتف الريح
في هذه الطريق المستبد ... بلا غطاء )،،،.
ويحضر في شقوة الإهداء الولد الصّوماليّ عنواناً متسعاً ومحفزاً لما سماه الشعر( بالبصيرة ). فالتركيز هنا على صورة الصّوماليّ النحيلة التي جلبت إلى الخيال ( شارلي شابلن ) الشهير:
( لو أن شابلن رآك لمثَّل في الصمت فيلماً طويلاً )
فهذا النص المرتبط ب"شابلن" يختصر كلاماً كثيراً، لكنه وإن كان مرتبطاً بهيئة الطفل النحيل، إلا أن المشكلة محصورة فقط بالنحالة التي تثير أسئلة، مثل: هل هذه النحالة خاصة بأولاد الصومال وحدهم؟. وهل هي مرتبطة بالفطام المبكر عندهم؟. والواقع أنه لو كان الحال لصيقاً بطبيعة الحياة لدى الصوماليين وأولادهم فقط، لما احتجنا إلى كتابة هذا النص الشعري!؟. لكن الأمر يخص شيئاً آخر أبعد من ذلك، كما يتضح من النص:
( الفطام... احتمال نقي السريرة ... كأم تخاف عليك من الجوع، لكن ثديين في حُلمها، استؤصلا بالذخيرة... فأوّلْتَها أنت: أمي... ولا شيء بعُد يُهمٌّ... إذا ثَمّ أمٌّ ).
المسألة أبعد من أن تكون فطام أمٍّ، وإن استصغره الصبي، ما دام قد حظي بسلامة أمه (لا شيء بعدُ يُهمُّ.. إذا ثمّ أمٌ)!!. إنها الحرب التي لا تهدأ، وإن وقودها الأطفال في الغالب. فمشعلو الحرب لا يهمهم ما أهم الصبي (حياة أمه) وإنما غايتهم من الحرب ما يكسبونه هم منها؛ سواء أطاحت بالأم، أم بطفلها، أم بهما معاً؟!. في النص إيحاءات رمزية بكراهية الحرب الباغية أينما حطت رحاها. ولذا كثر في النص ما يوحي بالمأساة: سواء الإيحاء بالتشريد، أو بما جرى للطفل الصومالي الذي كان رمزاً لما يجري في أفريقيا من حروب ودمار وعبودية، أو قد يمتد إلى الإنسانية جمعاء لبشاعة الحروب ونتائجها الكارثية التي تخلف أطفالا مشردين:
( كطفل الخيام له نصف روح ونصفا وتَدْ). ( أفريقيا قارة للعبيد ... الأنيقينَ في نخبوية أسمائنا السلطوية، نحنُ ولا شيءَ غيرُ ... أنيقون حد العدمْ )
تذكرنا الشاعرة بين الحين والحين بمأساة الكينونة ( الذبح الأنيق ) سخرية النقاء والدهاء: النقاء في احتمال النحافة جوعاً، والدهاء في صيرورة النحافة طريقاً للحرب، والقسوة، والظلم، والعبودية.
ثانياً: ما يضاء بِها:
وفي الحلقة الثانية: (ما يضاء بِها) رحلة في انتصار الروح على الجسد منذ البداية؛ فالمثال الذي خاتل فيه الجسد ظلَّه بعد أن مَلَّه، وسار متخففاً من كثافة أشيائه، متلهفاً، إنَّما هو جسد تملؤه الرّوح بعيداً عن كثافة الأشياء المادية. كانت هذه بوابة القصيدة التي رسمت مسارها في كل جوانب هذه الحلقة الشّعريّة الغنيّة بفيض الروح؛ فالرؤيا مثلاً تخايل مثيلتها، مرتهنة إلى الصورة التشخيصية التي يغدو فيها الظمأ خارجاً من الأوراد الباكية مطراً، حتى اكتسبت محبة الإنسان التي مثلتها عشرة أبيات شعرية عمودية منها الأبيات التالية:
لو كان للمعنى دمٌ لأرقتــهُ لقــرأتــه في جــثـــة الكــــــّراسِ
أنثاه مسألة الوجود وحبلها السِّريُّ (م) جهر الخلق دون مساسِ
وأعيذني بالحب من إشراكها وإعيذها بالتَّوبِ عن وسواسي
لا أريد أن أبدأ بما أستحدثته الشاعرة من المزج بين الشعر العمودي، وقصيدة التّفعيلةِ في نصٍّ واحد. فهذا يعد من ابتكاراتها المميزة، لكنّي أريد أن أتابع مسرى الروح في النص، لأقول:
إنَّه الحبُّ المخبوء بهذه الأنثى؛ رمزية الوجود وحبلها السري. فالشّاعرة متعلقة بها، ولا ترى شيئاً يشبه ظلها، لكنها تتجسد لها بصورة أنثى تمشي على (موت قصي مترف، يرتاد هامتها رؤى وتولُّهًا). فما هي هذه الأنثى؟ إنَّها التي انتبذت مكاناً قصيّاً (مريم العذراء)، ومكانها( كعبة المثال ولا مثيل لها؟!). هذه القصيدة ملأى بالصّورِ الإيحائية المثيرة للتسآل عما تعبر عنه، ذكرياتُ التاريخ من شغف في النفس. إنَّ تلك الصور تتعلق بالمكان الذي اكتسب القداسة. هذه القداسة مرتبطة بالسّري في المعراج الذي ما سبقه سر مثار. وهي التزمت حكمة الصمت؛ إلا أنَّ لغزها الشفاف انكشف من أثر الوضوء، وعشق الركوع، حتى غدت أكثر الأسماء بسملة. وإذا سألت عن حاضرها أتاك الجواب المعتم:
"الغيمُ يحشدُ زرقةَ المعنى بقُــبـّــتـِها ... ويـنْـزِفُ حولَها."
لكن ذلك الغيم النازف حولها سيزول بإيحاءاته، في يوم قادم. فحتى التوقع بين أبيضها الخلي وبين أسودها المسافر، ليس يخطب ذلها. ولهذا كان مستقبلها كامناً في نفوس أهلها الذين يقولون -صبح مساء- ما رددته الشاعرة إيماناً بها، واحتفاء لها، حيث وجّهتْ نهاية كل الصور السابقة بسوادها وبياضها:
(سيكونُ صُبْـحٌ آخرٌ ... ماذا وراء الصبحِ؟
حينَ تقـَمَّصَتْ عينُ الغزالةِ كُحْـلَها).
لا شكَّ أنَّ الشاعرة كانت بارعة في رسم الصور وإيحاءاتها، التي تستثير المتلقي الذكي القادر على ربط المعنى الكلي العميق من خلال شفافية اللغة الشعرية، وإيحاءاتها الروحية البعيدة. فالشعرُ لم يكن شفافاً بحيث يجلي المعاني للقارئ لكنَّه استنفر في التراكيب البعيدة شيئاً من الثقافة التي توحي ببعض الظلال المتباعدة لتبقي للشعر غموضه وجلاله من جهة، ولتعطي المتلقي إشاراتٍ خفيّةً وبعيدة ضمن تشكيلات مخاتلة، ارتقاء بالمخيلة اللازمة لأي قارئ للشعر البليغ. فالشعر القوي متمنع على القراءة، وهذه هي ميزة الشعر الجليل. يريد أن لا يقتحم ساحته إلا من هو قادر عليه. ولعلي أضع شعر الشاعرة إيمان، في هذا التصنيف الشعري الصعب البعيد، والجليل الجميل في آن. ولعل تركيب هذه القصيدة خاصة أثبت ذلك بكفاءة عالية.
وفي السياق نفسه تابعت الشاعرة صورة ذلك المكان فرأته في عنوان جديد ( حديقة )، تاركة دمعها عالقاً على وردها. دخلت الحديقة وخرجت منها، لكن الورد حين دخلت تثاءب فحفزها تثاؤبه على أن تلتفت إلى أن كثيراً من العشب (نام عند أصابع أشجارها واستحالَ). فما سر هذا العشب؟ وأجابت عن السؤال بالقول: (إنَّه الذي أيقظنا ثم حنطنا الأخضر الحلمي). وأقول: إنَّه مرقد الفارس الشهيد الذي تشكّل نبتةً متسلقةً في الصلاة… ومضى (فضاءً متاحاً، أخضرَ سوسناً) . هذه الكلمات المنتقاة من آليات شعرية متراصة، متناسقة ذات إيقاع موسيقي رهيف عميق، لتسجل في المكان الواحد ثلاثة أزمنة متتابعة مع فجوات متتالية بينها:
أمَّا الزمن الأول فهو التاريخ الماضي البعيد الأجلّ، الذي شهد فوق المكان صراعات عاتية سقط فيها شهداء كتبوا سجل حياتهم بماء الذكريات التي لا تزول على الأيام. وهذه هي ما حملته صورة التحنيط التي آلت شهادة على فدائهم كي توقد هممنا حاضراً ( أيقظنا ثم حنطنا). وأما الزمن الثاني فهو زمن الاقتداء والفداء الذي ينتظرنا لنسجل فيه ما سجله الأسلاف من بطولات الشهداء، من أجل أن يبقى المكان شاهداً باقياً على تاريخ من النضال ممتد لا يخبو ذكره على الأيام. وأما الزمن الثالث فهو زمن الرسالة المستقبلية الأعظم التي تستثير الأجيال التالية، لافتداء هذا المكان المقدس العظيم، بما يستحق من نضال وشهادة. فهو مكان الأبدية ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً. وفي أي وقت من هذه الأزمنة. وقد رددت الأبيات التالية تخليداً له:
( وأنت تمر بمنديلك الحجري ... وتمسح عجمة بعض الغيوم، وتمحو الذي قدْ تلوَّنَ من سور هذي الحديقة... تنجز بعض الظلام... فيأوي لأخضره سوسنا ).
يبدو في الأبيات بعض التناقض بين الكلمات كالأفعال: تمسح وتمحو من جهة وتنجز ويأوي من جهة أخرى. وكالأسماء: الظلام والغيوم من جهة، والأخضر وسوسنا من جهة أخرى. يثير التضاد هنا تأرجحاً تاريخياً مر بهذا المكان. ومن ذلك الحروب المختلفة ذات السمات الدينية المتباينة التي تركت آثاراً متناقضة بين الظلام والنور؛ وعبارة (تمسح عجمة بعض الغيوم) تذكرنا بما شهده المكان من ادعاءات خارجية لامتلاكه- بصفتها علامة سيميائية سلبية على معتقدات أخرى. وهذا يحتاج منا محواً لإظهاره علامة سيميائية سوية على نصاعة الحق فيه وله؛ لذا أصبح الدفاع عنه، والشهادة من أجله واجباً، ليظل (أخضر سوسناً). وتبقى عبارة - ذات إشكال معنوي حاد- هي التي (تنجز بعض الظلام). لكنَّ هناك إشكالاً في فهم الفعل وتفسيره. فالفعل مفرداً يوحي بالإنجاز الإيجابي، فكيف يمكن تفسيره هنا حين يلتصق إنجازه بالظلام؟! والواقع أنَّ ذلك الإنجاز يحكمه السياق؛ فحين ربطه بما سبق من ضرورة مسح عجمة بعض الغيوم، يكون هذا المسح بالذات، هو إنجاز من بعض ذلك الظلام . وهكذا يبدي هذا الفعل هنا ضد مفهومه؛ لأنَّ السّياق له فاعلية ملزمة حسب نظرية التأويل المتبعة.
وفي قصيدة تالية عنوانها ( للتو ) تسير الأحداث ضمن حكاية بسيطة تحكمها المتناقضات، كما كان الحال في جزئية من المكان في النص السابق. تحكي القصة تجربة صياد أضاع شبكة صيد سمكة، وحين أحست السمكة بضياعه للشبكة بادرت بملاحقته سعياً منها لاصطياده. وكانت النهاية كما قال:
(هكذا يا قدري، ربما مت بمحض العشق ... محض الحسكة)
فإذا كان قدر العشق اصطياد المعشوق، فإنَّ القدر ذاته أسعف المعشوق لاصطياد العاشق. وهنا تتحقّق المفارقة، أو ما قيل في نظرية التلقي (حدوث اللامتوقع). وهذه من خصائص الفن الشعري في التعامل مع الأضداد، الذي يمكن أن يعبر عنه أيضاً بتواؤم الأنداد كما أكدت ذلك في تفسيري له في شعر أبي تمام.
وهكذا سيطرت أمثال هذه المفارقة الضدية على نصوص تلك القصيدة المسمّاة بـــ( للتو )، منها أنَّ أحداً ظهر وحيداً كئيباً في العراء؟! وافترض أنَّ حاله هذه ستثير شاعراً يسأله. والشعراء لا تغيب عنهم الحالات الغريبة المستثيرة. فكان هذا الحوار:
( سيسألني شاعر ما جنيتُ؟ ...ليصبح لي في العراءاتِ بيتُ
لتستنسخَ امرأةٌ ما وعيتُ!
لأصبح: هذا!! )
المفارقة في أنَّ الرجل سعى في الأرض وجنى ما يوفر له استقراراً أي بيتاً وعائلة؛ شأن الناس العاملين الطيبين. لقد تركت الشاعرة في النص فجوات ككل شعر ناجح؛ يفترض بالمتلقي وعياً كافياً لإملائها. لقد فعلنا ذلك فسددنا بعضها، لكن بعضاً منها ما زال ينتظرنا أن نفعل. نفترض أنَّ المرأة المذكورة هي زوجته التي اختارها ليكتمل بها البيت: الهدف والغاية. والمرأة في المفهوم الإنساني، دينياً وخلقياً، شريكة الرجل وكاتمة سره. ولقد فعلت ذلك كما هو متوقع، لكن غير المتوقع أن تخطّط سراً كي تمتلك كل ما جنى زوجها. وقد نجحت فأعادت الرجل إلى العراء ثانية. وهكذا تمت حبكة المفارقة.
استكملت القصيدة مجموعة أخرى من المفارقات التي أساسها الخداع. ونتيجتها كنتيجة كل مفارقة: الضحية. وكان صاحب كتاب: المفارفة (س. د ميويك) قال: لا بدَّ لكلِّ مفارقة من ضحية. سأكتفي بمفارقة أخرى. ستتنبه الضحية المقصودة بما يُخطّط لها؛ فتفسد الخطة المرسومة. ونص المفارقة كالتالي:
( السِّوى يابس القلب. ... من ذا أنا؟
كي أغني ( عتابا ) البكاءِ
وأمسحَهُ بصدى ( الميجنا ) )
يبدو أنَّ الشاعرة بلغت من القدرة الشعرية أن طرحت في كل الديوان شعراً عميقاً غامضاً، فيه فجوات أو فراغات مثلما ذكرنا، متروكة للمتلقي الفهيم، وكأني بها تابعت أسلوب درويش الذي قرأته جيداً، وتأثرت به كثيراً كما ذكرنا. الفقرات الشعرية في النص تفترض أن هناك مصيدة لخيانة وطنية نصبت لأحدهما. والصائد مثلما وصفته كلمات النص (يابس القلب). وهذا الوصف جميل في مكانه لو وصف به وطني شجاع، لكنه هنا ازداد قبحاً لازماً؛ لأنَّ من استخدمه عدو، أو خائن يكيد هذا الكيد لتلبيس الخيانة الوطنية لغيره. ولهذا كان (يابس القلب)، قادراَ أن يكون ماكراً، شاذاً عن البشر؛ معتقداً أنَّ أمثاله موجودون، وأنَّ بإمكانه أن يغريهم أو يودي بهم إلى التهلكة كما يشاء. لكن مكيدته أفشلها المخلص لوطنه، فارتدّ كيده لنحره.
والأهم هو اختيار السؤال والجواب من الشاعرة. إنها بذكاء نادر استطاعت أن تشكل من كلمات بسيطة جداً حكاية وطنية عالية المقام! بعد أن استوحت بذكاء فني صفقة بائسة من التناقض في الوعي الوطني بين خائن عرفناه، ومخلص تعرفنا عليه جيداً الآن في جوابه الرافض من جهة، والمؤكد لإخلاصه من جهة أخرى: من أنا لأخون وطني؟! فأغني اليوم غناء البكاء، وأمسحه غدًا بغناء الميجنا؟! وهكذا تكاملت وسائط المفارقة بما لا يُتوقَع. وهذه حنكة تحسب هي وأمثالها لهذه الشاعرة القديرة.
وأختم بنصٍّ لمفارقة مبنية على التضاد أيضاً، وماضية إلى شعرية رفيعة بكلمات سهلة في متناول اليد كما عرفناها في شعر سابق فذ:
(لم يكن خطأه ... كانت امرأةً من بنات الضٍّياء
وسارت به صوْب هاويةٍ مطفأة.)
كأنَّ هذه المفارقة تشكّل خلفية توضح بنوع خاص، المفارقة المختارة سابقاً، التي كانت بطلتها المرأة أيضاً، بينما كان الرجل فيها ضحية المفارقة. استنسخت المرأة خططه، وخدعته حتّى أعادته للعراء كما كان، قبل ما جناه وبنى بيتاً تمناه.
ثالثاً: في وضَح الكينونة:
اعتدنا في المحطتين السابقتين أنَّ كلاً منهما بدأت بمفتتح يوحي بطبيعة البوح في شكله وإيحاءاته. ويبدو أنَّ هذا نهج الشاعرة في بداية كل محطة!. ولم تكن المحطة الثالثة هذه خلافاً لما سبقها؛ حيث افتـًـتِحت بفقرة دالة تماماً كما سبق. ومن هنا ننقل نصَّ الفقرة المبتدأ بها:
( لو أنّ فيَّ نبوءةً منكَ اهتديتُ إلى قميصي
غير أنّ ليَ العمى
ولكَ الطّريقْ )
المخاطب في النص هو الذات الإلهية، التي تمنح وتمنع، واعتماداً على هذا الإيمان القاطع بنت الشاعرة نصَّها الشّعريّ لا بصفتها الذاتية وإنما بصفتها الإنسانية. وكأني بها تريد القول: إنَّ من كان الله معه اهتدى أن يسلك طريقاً واضحاً لا لبس فيه، وبالعكس فإنَّ الاعتماد على غير الله يؤدي إلى هداية منقوصة ومضلّلة. وهذا الفهم يقودنا إلى ما عنته الشّاعرةُ بكلمة (نبوءة). فإن أخذنا المعنى الحرفيّ ضللنا الطريق؛ لأنَّ النبوءة الحقيقية لا توزّع، وإنما يخصّ بها شخص الرسول عليه الصلاة والسلام. لذا تؤول الكلمة إلى البصيرة وليس مجرد البصر؛ لأنَّ البصر حاضر، لكنَّه لا يقود بالضرورة إلى ما تقود إليه البصيرة. إنهما رؤيتان مختلفتان: البصر للرؤية الخارجية، والبصيرة للرؤيا الداخلية.
وتبقى في النص إشكالية القميص. إنه يأخذنا إلى (سورة يوسف) عليه السلام. وهذا الاحتمال وارد، ويؤيده ما عرف عن تأويل الشعر في أن النص الواحد يحتمل التعدد في المعنى. ثم إن إمكانيته التعددية هذه تمهد للحدث القادم: حدث يوسف وامرأة العزيز!. لكنها في الوقت نفسه تثير إشكالاً جديداً حول زمن نبوءة يوسف؛ أكانت قبل حدث قدِّ قميصه من دبر أم بعده؟ وهذه مسألة دينية بحته لا نستطيع نحن البت فيها. لكنها حاضرة وغير بعيدة عن أجواء النص.
وفي كلتا الحالتين تظل مسألة حل التضاد بين العمى/ والطريق، لأن فك التضاد يعتمد على توزيع الخصوصية بين ما للمتكلِّم، وما للمتكلَّم عنه؟ لماذا أعطي المتكلم وهو الإنسان العمى، وأعطي المتكلَّم عنه وهو الله تعالى، الطريق. لا بدَّ لنا هنا من أن نلوذ بمسألة الظاهر والخفي في العمى، لأنَّ الله تعالى الذي له ملكُ السماوات والأرض، يملك العمى والطريق معاً حين يكونان حدثين حقيقيين، لكن الإنسان ملّكَه اللهُ البصر، وهي ملكية عامة للناس جميعاً على الأغلب، أمَّا البصيرة فإنَّها هبة خاصة من الله، ليست ملكية عامة، وإنَّما الذي يستحقها من الناس، هو من اختار سلوك الطريق التي أرادها له الله. وبهذا نفهم قول الشاعرة: "لي العمى/ ولك الطريق".
وتتابع الشاعرة بناء الرؤى المتغايرة المفضية إلى ما لا يُتوقع في قصيدة تالية عنوانها (فتنة).
حَوتِ القصيدةُ حالاتٍ متناقضةً تؤول إلى حسرات وألم لأنَّها تمسُّ الأخلاق بين الإخوّة والقرابة. وقد ظهر فيها كمٌّ من الإيقاع المتوازن السّاحر ما جعل القصيدة أشبه ما تكون بنايٍ ينوحُ على القاتل والقتيل:
( ويمضي الذي... قاتلٌ وقتيلٌ... يموت كلانا )
تعالج القصيدة موضوع التعاون على البر والتقوى من جهة، واغتيال هذا التعاون بخيانة الوفاء في اللحظة الحاسمة. ففي مقطع من القصيدة يبرز عتاب من أحد الطرفين المتعاقدين على الكتمان، للطرف الآخر بنشره الأسرار التي تعاقدا على حفظها بالكتمان، كالتالي:
( ونحفظ أسماءنا... ثم ننشرها في الرياح ... كأنَّا سوانا؟! )
صورة النشر مع الرياح صورة سيميائية تعبر عن صدمة صاحب النص من لا مبالاة الآخر الذي لا يردعه عقد، ولا أمانة، ولا إيمان.( كأنَّا سوانا ؟!). عبارة صادمة. سوانا: ليس إيّانا!. نحن بيننا عقد جامع مانع؟!. هذه الرسالة تعبر عن فاجعة على المستوى الإنساني، لكنَّها على المستوى الفني صدام بين الأفعال والأقوال أكبر من أن توصف بالتضاد، أو باللامتوقع، أو بالمفارقة، إنَّها تعبّر بأكثر من ذلك، لكن هذا هو المتاح.
وتتعرض القصيدة ذاتها - بطريق ملتوٍ- لحادثة قتل قابيل لأخيه هابيل. إنَّها تقول بلا مواربة: الحادث لم يعد مفاجئاً، لأنَّه يتكرّر بين الإخوة في عالم الإنسان كل الوقت. لقد أوحت القصيدة بذلك من خلال عتاب أخوين:
( كأنَّ لقابيل – إذ ينفثُ الموتُ في دمِ قربانِهِ –
لجة الدّمِ: كان تُـــقُـــبِّل منك؟!... أليس لأنّي أخوكْ!
أليسَ لِأنَّ المسافةَ بينَ القَرابينِ والأوسِمةْ
جنّةٌ مُحكمةْ
جنّةٌ عَرضُها الملَكوتْ
لِماذا تَموتْ؟! )
بارع هذا الشعر بتصوير القلوب وهي تنبض كلمات وصور وإيقاعات. حوار يهزُّ الإنسان من الداخل حين يجمع القديم والحديث على مأساة الإنسان للإنسان؟ كيف يهون القتل حين يكون الفاعل أخاً!!.
هذه المقطوعة الشعرية تمثّل صورة حيّة. فموضوعها تسليط الضوء على فداحة الخيانة بشكل عام، وبين الأخوين بحالة خاصة. لكن الشاعرة تحتال لها بأساليب عقلية أحياناً، وأخرى عاطفية أحياناً. وهي تشدّد على أخلاقية الأمانة بلجوئها إلى الآية المحكمة حين تجعل الحديث مداره الجنة (التي عرضها الملكوتْ).
وينقلنا الحديث من الحكايات حول الأخلاق الاجتماعية والإنسانية حيث يلزم، إلى الكفاح والنضال حين يكون واجباً سواء أكان ذلك في القديم أم في الحديث. أقول هذا لأنَّ النصَّ القادم ينزِعُ إلى هذا الاتّجاه؛ فعنوانُهُ: (تركتُ الحصانَ وحيداً). فالشاعرة مأخوذة بشعر محمود درويش– مثلما ذكرنا. ولعلّ عنوان القصيدة يذكرنا بديوان درويش الشهير (لماذا تركت الحصان وحيداً؟). والعنوان إشارة إلى حوار أحدثه درويش بين أبٍ وابنه من قلب الشّعور بالنكبة:
( لماذا تركت الحصان وحيداً؟
لكي يؤنس البيت يا ولدي
فالبيوت تموت إذا غاب سكّانُها).
تناجي الشّاعرة عقبة بن نافعٍ الفِهريّ فاتحَ شمالِ أفريقيا وواليه، بعد أن مضى ألف عام على انتصاراته هناك، مثلما قالت. أصبح حضوره الآن مطلوباً لأنَّ الحاجة التي اندفع إلى قضائها في زمنه، استجدت الآن؛ وكما أنجز المهمة ببطولة عظيمة، أصبحت البطولة ذاتها اليوم، حاجة مصيرية فارقة.
( الحصان قصيٌّ وأنت قصيّْ
سُمرة الشمس تلفح قلبي ... وتسطع في قلبك الذهبيّْ
الدَّحَانينُ مُزدانَةٌ في وَتِينِكَ
من ألفِ عامٍ ونيِّفْ
ومِن ألفِ عامٍ وتَنزِفْ
ومِن أَلفِ عَامٍ أَجرُّ المُحيطَ وأَبيضَكَ المُتوسِّطَ
أشحذُ سَيفي لِمَوعِدِكَ الأُمويّْ )
الحاجة بين الماضي والحاضر ذاتها، وإذا كانت الشاعرة تنطق بلغة الذات فإنها تعلم أنّها لسانُ كلّ عربيّ ومسلم ينطق بما تنطق به، لذا تجرأت أن تكون لسان كل واحد منهم. شجاعة عقبة الفهري مطلوبة، فهل يمكن أن يظهر في الحاضر فارس يماثله في شجاعته وقيادته وانتصاره ليكون له هذا الفهري رمزاً حقيقياً؟!.
* * *
ونصل إلى نهاية الديوان لنحظى فيها بمحطاث ثلاث متالية ينتهى فيها اللهاث الحار الذي عاشته شاعرتنا وعشناه معها بنبضات قلوبنا وكلّ حواسنا. تلك المحطات الثلاث ممثلة بقصيدتين وعنوان واحد: (أنا عتمتي).
يضاف إليهما قصيدة بعنوان (ألم يقُلِ المُتَصَوِّفُ). سأؤجل الحديث عن هذا الذي قيلً برسمِ السّؤالِ، وأبدأ بالقصيدتين:
في الأولى يبزغ مسار للفرح، ابتدأ بمقدمة للحب تستذكر فيه الشاعرة (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسيّ:
( أنا لا سَبِيلَ إليَّ
وأقرأ طوقَ الحمامةْ
وأعرف أنَّ التأني – سلامةْ
وأنّي أحبُّكِ أوجعَ ممّا يمرُّ ببالِكْ )
وكما عودتنا الشاعرة؛ فإنَّها تسعى في الأغلب إلى خلق مفارقات مستفزة؛ كاقتران الحب بالوجع؛ من أجل أن يُستثار في النفس القلق. وبالفعل فقد سادت أحوال العتمة الأولى مساراً قلقاً في الحب. فبعد أن تعثّر هنا وهناك؛ إلا أن الصوت العالي فيه ظلَّ الصوت الذي ينشد الحب ممن هو راغب فيه وقادر عليه، بقطع النظر عن هوية المحبوب:
( أنا عتمتي... فأضئني بمحض التفاتك، أو فأضئني بمحض احتمالكْ )
في هذه الفاتحة يقع الحب بين الالتفات وهو قريب، أو بين الاحتمال وهو بعيد. لكن الحب في الحالتين لا يغيب، ولا يراد له أن يغيب، فإما أن يقع حالاً، وإما أن يظل قابعاً في الانتظار!!. لكنَّ النصَّ على طوله يمنحنا فرصة أن يكون الحب منصرفاً من النبي يوسف عليه السلام إلى أخيه، وأنه دائم الشوق إليه، وحين حانت فرصة وجوده إلى قربه حرص على استبقائه إلى جواره قائلاً: أنا أخوك!:
( فألقِ رحالك. هذا صواع العزيز... وضعت أنا سره في رحالِكْ... وأرهقني أن تعود إليَّ... وكم قدْ رهِقتُ بغيبة روحِكَ
أينَ سأذهبُ؟ في كل حتفٍ أنا رهن حالِكْ )
لكن هذا المقطع يؤكد حضور قصة يوسف، التي مرت إشارة لها سابقة. وهي في كل الحالات تؤكد أن الاقتباس من القرآن الكريم يزيد في عمق المعنى.
لكأنَّ القصيدة وهي تؤكد عمق الحب بين يوسف وأخيه، تستعيد النقيض في عداء قابيل لأخيه هابيل على اعتبار أنهما نموذجان متناقضان يتكرران في الحياة. لكن الحب في هذه القصيدة سيبقى عنواناً بارزاً ومفارقاً، حتى والحبيب يبقى على انتظارٍ، وحتّى مع عدم وجود ما يبعث في الروح الاطمئنان.
والنص على طوله يمتاز فنياً بغنى الصور، مثل: ربوة من سراب، ولجة من زلال، وجمر القصيدة، وتعثر الصوت، وموت النصوص. كما يمتاز بجلال الموسيقى والإيقاع، مثل: للنص إيقاع وقافية مستمرة على وزن فعالك، "مثالك، هلالك، جلالك...". وفيها عنفوان التسآل المحتَفَى به، في غير أسلوب التسآل. وفيها أيضاً مسارب فنية ومعنوية متلازمة، وتثير الغموض المستفز أحياناً مثل: (دماء القصيدة أبعد عني، وأقرب مني الذي في انهمالِكْ). وتنتهي القصيدة كما بدأت، مفتوحة على النقيضين: الاحتمال من جهة، والاطمئنان من جهة.
( هذي أنا لست غيري ... وهذي القصيدة
ليست تبارح قصد جلالكْ )
أما العتمة الثانية، فهي عكس ما كانته الأولى؛ فالحب تمر كلماته إلى الانغلاق. إنه أبعد ما يكون عن الاحتمال؛ إذ إنَّ مسارَ القصيدة جافٌّ، تكثر فيه خيبات الظن، ذلك أنّ الحب مبتعد عنه، والحبيب فيه غائب لا أثر له، وإن تراءى من بعيد، فإنَّ الأمل في عبوره مطفأ تماماً:
( لقد صار قلبي- ولم ألق في اليم حبي
فراغاً...
لقد صار قلبي فراغاً كجبي )
ويراودُ قارئَ هذا النص، والنص السابق عليه سؤالٌ: مادام العنوان واحداً (أنا عتمتي) فلماذا كانت النتيجة متناقضة؟! الحب في الاحتمال أولاً، والحب إلى الانطفاء تالياً!.
أظنُّ أنَّ الإجابة يمكن أن تكون في النصِّ الصوفي الذي أجلنا النظر فيه إلى هنا. لقد انتهى ذلك النص الشعري إلى الأبيات التالية:
( ألم يقل المتصوف؟
أستْرة الروح محكمة ... مثلما هي شفّافة
إذ يحاولها الشعراءُ؟! )
هكذا إذن: جاء النّصان ذوا العنوان المزدوج (أنا عتمتي) متضادين في نهاية كل منهما. ولا أظنُّ أنَّ ذلك كان عفوياً؛ بلْ كانَ بتخطيط مبهم وذكي من الشاعرة، كي تربط أول النص بخاتمته!. كيف؟!. أسترة الروح حسب وصف الصوفي لها (محكمة، مثلما هي شفّافة). ذلك يعني أنَّنا عندما نصل إلى فهم الإنسان، نجد أنَّ له كامل الاختيار في أن يسلك ما يريد من الطريقين: المحكمة القاسية من سترة الروح، أم الشفافة اللينة.
إنَّها الإرادة الإنسانية القادرة على أن تكون كما تريد. وأنا أرى أنَّ الشاعرة بهذا تكون قد ربطت فعلاً بداية الديوان بنهايته، وأجابت – بقصد أو بغير قصد – عن غاية العنوان (فليكن) بما تريد أيّها الإنسان أن تكون: الحب مبسوط لك إن أردت، والكره كذلك مبسوط لك إن أردت. وعليك أن تتحمل مسؤولية اختيارك. ومما يعزّز هذا تكرار الشاعرة - بأكثر من صورةٍ - تجربة قابيل وهابيل.
المصادر:
- القرآن الكريم، سورة يوسف.
- ديوان ( فليكن ) إيمان عبد الهادي، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، 2015.
- حفريات النص الشعري الجذري – التأويلية إطاراً، عبد القادر الرباعي، دار الأهلية للنشر والتوزيع، عمان. 2020.
- لماذا تركت الحصان وحيداً، لمحمود درويش ( On Line )
- ميويك (س.د) المفارقة، ترجمة عبدالواحد لؤلؤة، بغداد،1982
- نهلة شهاب أحمد، عقبة بن نافع، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989.