فضة

قصة من الواقع تحكي عن "علي خلقي الشرايري".
روند الكفارنة
قاصة أردنية.
كانت السماءُ تشبه مصفاةً ضخمةً تصبُّ الماء صبًا بخيوط أولها بالسماء وآخرها على الأرض، استيقظت ووقع المطر، وهناك قطرات قررت أن ترسم خطوطًا على نافذتي التي اعتدت كل صباح أن أرى العالم من خلالها .
كان اليوم مختلفًا، كلُّ ما فيه يدعوني للتساؤل، هل قُدّر لكل امرأة أن تصبح حكاية منسية؟ كيف أستطيع أن أقول لا في عالم كتب على وجه كل أنثى فيه نعم، أو ممنوع الرفض، اغرورقت عيناي بالدمع، ولكن للشتاء حلول كثيرة لمشكلة احمرار العينيين من البكاء مثلاً، أو الشعور بقلبك وهو يعتصر بقبضة رهيبة تمسكه حتى تحبس أنفاسك، تستطيع التهرب من تبرير كل مشاعرك ودموعك بحجة المطر.
حملت حقيبتي وانطلقت تجاه بيت جدتي، المرأة الأغرب في حياتي والأقوى ( جدتي فضة ) وهي الوحيدة التي كانت تُصلحُ كل ما كُسر في قلبي منذ كنتُ طفلة، وصلتُ بيتها ودخلتُ من الباب إلى الصالة التي دفأتها الجدة جيدًا، ورائحة البخار تملأ المكان، وقفت خلفها تمامًا وحضنتها.
- جدتي كيف استطعتِ اجتياز كل هذا العمر دون أن يموت قلبك؟!
- ما بك ليلى؟
- أنا لا أدري ولكنَّني لستُ بخير، العريس الذي تقدم لخطبتي...
- ما به؟
- لا شيء، لا يعيبه شيء، يعمل في سكة الحديد، ولديه في بيت والده غرفةٌ كبيرةٌ سيجهزونها بكل ما أرغب.
- إذن!!!
دفنتُ رأسي بحضنها، لم أستطع أن أجيبها، ولكنَّني همست:
قلبي تعيس يا جدتي، ولا يستطيع أبي أن يفهمني، وأظنُّ أنّني يجب أن أقول له نعم.
- إياك أن تقبلي بنصف حياة، إياك أن تقبلي بنصف قلب، اسأليني أنا لقد بلغت الثمانين يا ليلى، وحين يبلغ أحد عمر الثمانين سيغدو عالِمًا بأسباب الحياة أكثر من الموت، يقولون إنَّ الثمانين عمر الملل من الحياة، أتعلمين ما الذي يبقيني على قيد الحياة، هي ليلة واحدة منذ أكثر من ستين عامًا بالتمام والكمال، في عام 1918في تشرين الثاني.
- كيف ذلك يا جدتي؟
كان آخر موسم الرمان، وتقول الأسطورة آخر مواسم الرمان، بينما ترشق ريشة الخريف المبكر حبات الرمان باللون النحاسيّ، وتتأكد أوراقه أنَّ الوقت قد حان لتفلت أغصانه بينما تتأرجح بين شكٍّ بالبقاء، وريح تدفعها بعيدًا ليكون قرار الإفلات سهلًا، يتردّد صوت لا تعتاده الأذن بسهولة، بل تزعجه وتدفعه ليقوم بأشياء لم يعتد أن يفعلها، ويقول كلامًا ليس من المفترض أن يقوله .
الصوت ذاته يتردد في جنبات الحقل، ذلك الصوت الذي اعتاده أبو محمود ولم يعد يهتم به، لولا أنَّه هذه المرة لم يكن صوتًا عشوائيًّا غير مفهوم، بل كان اسمًا منتظمًا يسمعه كل من يقطن حول مزرعة أبي محمود، والذي زاد الطين بِلةً في صباح ذلك اليوم أن ما حصل كان غير متوقع أبدًا.
كان اسم علي يتردد في جنبات الحقل، ولا أحد يعلم من المقصود أو من هو علي، وكنت أنا في العشرين صبية صغيرة بعمري كبيرة بكل ما أحمله في رأسي، والدي الذي تعلّم في تركيا يصرُّ على أن يمشي عكس التيار، وجعلني انضم للكُتّاب وأتعلم الكتابة والقراءة، وجلب لي بعض الكتب التركية التي تعلمت القراءة منها، كان كثيرًا ما يسألني في كلِّ فرصةٍ عما أقرأه، كأجمل فتاة في حي المحطة، كم حاول جدك كسب قلبي، لم أعطه أية فرصة؛ لأنَّني أحلم بفارسٍ تركيٍّ بحلة كثيرًا ما كنت أراها عندما أمر من سوق المحطة، يمرُّ فرسان، تلمع تلك الأزرار على أكتافهم، إلا أنَّ رجلًا واحدًا كان يمرُّ بهدوء دون أن تلاحظيه، تشعرين أن النجوم المعلقة على كتفيه تحتفي بكونها موجودة هناك، فرسه تشرب من الشمس لا من ماء الأرض، يمرُّ بالطرقات فتشعرين أنَّ الأرض تنثني مع دقة حافر حصانه، ننتظره، وكلما مرَّ تختفي الفتيات، ووحدي من أقف.
لا أخاف أن يحبني، أو أعشقه، فمثله قد تموت امرأة في حبه دون أن تشعر بالذنب، وهو يمرُّ دون أن يشعر بي.
- جميلٌ هو يا جدتي؟
جميلٌ، وكيف لا؛ هو حكاية يخبرني بها أبي عن علي الفارس الذي حمل نفسه على بغلته، وذهب إلى سوريا ليدرس، وباعها عندما وصل، ككل الفرسان لم يلتفت لغير علمه، وأخذه الباشا زوجًا لابنته.
كيف تملك رجلًا مثله سيدةٌ لم يعرفها، لو عرفني لو علم عني، يومًا سيحبني سيعشقني، كنت أكتب له رسائل على زاوية أيِّ كتابٍ يحضره أبي..
كانت مضافة أبي مكانًا لتجمّع الرجال، ما إن يتحلق الرجال حول الفانوس ليلًا حتى أتسلل لأجلس قريبة من الباب، يستمعون لمسعود التاجر الذي يجلب بضاعته الغالية من أقمشة وحكايا من تركيا، يحكي قصصًا عنه تشبه الخيال، كيف استقبله، كيف عامله؟ وأنا يذوب قلبي، كثيرًا ما كنت أبكي، أعاتبُ أمّي التي ماتت وهي تنجبني، لماذا تأَخرَتْ إلى هذا الحد؟ ألم يكن بإمكانها أن تسبق الوقت؟
هو علي من يليق بي وأليق به، كان يجدر به أن ينتظرني أو يسافر ليجدني.
ولكن المناوشات بين العثمانيّ وبين أهلنا تزداد حدةً، الجوع الذي يتفشّى ويجبر والدي ومجموعة من التجار على توزيع المؤن، السخط الذي يتنامى يجبرهم على التحلق كلَّ ليلة في مضافة والدي يتحدثون ويستمعون للأخبار، ينتظرون من يأتيهم بالخبر اليقين.
في صباح ذلك يوم ذاع الخبر، "اللواء علي مسجونٌ في سجن المحطة"، كان مسعود من رآه، وتحقّقت نبوءة الصوت في حقل أبي محمود، ذهب إلى السجن ورأى الرجلَ يقتادونه، خاف عليه الناس وبدأوا يتحدثون، تجمع الرجال ليلًا، كلٌّ يدلي بدلوه، كانت الرجال تغلي؛ لقد قبض عليه العثمانيّ.
"لأنّه يدافع عنا ماذا ستفعلون يا رجال؟" قال أحدهم.
دخل عليّ أبي متجهمًا، ترتسم على وجهه علاماتُ القهر، فمثل علي يُغضب له.
"حضّري الطعام للفارس يا فضة"، قال أبي وصوته يخبر عن حزنه العميق.
عاد وجلس مع الرجال يتباحثون كيف يخلصونه من الأسر.
طرتُ، لم أكن أمشي، بدأتُ أحضر له الطعام وأجهز الخبز والكثير من الفواكه والتمر واللبن، وبدأت أكتب له: (يا ابن الأكرمين أنا خبّازة خبزك، ومن طبخت طعامك، اسمي فضة)
ودسستها داخل رغيف الخبز. في المساء جاءت الصرة رماها أبي لي قائلًا :
- جهزي طعامًا أكثر، نريد أن نطعم الحرس ورفاقه.
فتحتها بسرعة كان بها قطعة من قماش: (سلمت يد طباختي، وسلمت يد خبازتي، ولكن من أنت يا فتاة؟ وكيف واتتك الجرأة أن تكتبي لي؟!)
هل لمست يداه قطعة القماش هذه، هل كتب بأحرفه؟ هل كتب بالفحم الذي بقي بعد أن تدفأ على جمرها؛ فلمسته مرتين بدفئه مرةً، ومرةً بيده.
استيقظتُ من فرحتي على أنَّه قد يُكتشف ما فعلت، وأبي يطلب عددًا من الأرغفة والطعام، صنعت جيبًا للبقجة التي سيحمل بها أبي الطعام، وحمّرت أنا رغيفًا أكثر مما يجب، اعتمدت على ذكائه ليعرف أنَّ الرغيف المحروق سيزهد به الكل، ويكون غريبًا عن بقية الطعام كتبت له: (لقد صنعتُ جيبًا في البقجة، أخفيته فابحث عنه جيدًا، ضع به ردك على سؤالي، من أنت؟ ماهي قصتك؟).
كانت بقجةُ العشاء الفارغة تحمل الردَّ، وبها قصاصة مدسوسة: (ماذا تريدين أن تعرفي؟! أنا علي الذي بشّرت الداية بي في كهف بأعلى تلٍ في إربد، هل تعرفين إربد؟
أرض خضراء على مدِّ النظر، حقول تستند إحداها على الأخرى، تركض الشمس لتصل آخرها ولا تصل، حقول القمح كموجٍ هادرٍ، تتبادل التمايل، وكأنَّ الريح تمرّر يدها فوقها. قطعت الداية حبلي السريّ بالسكين، مزجت ترابها بدمي، امتصصته كله، كان أوّل ما امتزج بدمي تراب إربد؛ لذا كنت أشبُه أرضها كثيرًا،( زرزورية) التي كانت تشاكسني، كلما حاولت أن أمسك رسنها، اتشبث بها وأهرب بعيدًا، وعندما أعود كان أبي يقول لي:
- اترك البغل يا ولد، من يحرث أرضنا يا حفيد علي سليم، إذا لم نكن نحن.
أتعلمين كان هنالك في قلبي بركان صغير يصيح بي( لا)، لن تصبح فلاحًا، لن تصبح فلاحًا أبدًا، علمت أنّني لم أخلق لأكون فلاحًا، كنت أجلس ساعات أتخيل ما خلف المرج، أسمع قصصًا عن الذين درسوا بالشام، وعادوا بطرابيش وطقم فرنجي، في يوم حلمت حلمًا غريبًا؛ أنَّني أركب الريح وأسابقها.
في الصباح حملتُ زوّادة وركبت "زرورية" وأطلقتُ ساقيها للريح، كانت بغلة غالية عليّ، وكان عليَّ أن أبيعها، وعلى أمّي أن تسامحني .
اعذريني كتبتُ كثيرًا عني، أريد أن أعرف من أنت، ومن أين واتتك الجرأة أن تكتبي لي، الفحمُ يكاد ينتهي والليلُ أصبح دامسًا، سأكتب لك غدًا، ولكن عليّ أن أعرف لمن أكتب.)
وكتبتُ له:
"أنا فضة، عندما ولدتني أمي "شمس" ماتت، قال لي أبي إنَّ جبيني كانت تلمع مثل قرش فضة؛ فأسمتني جدتي فضة، عندما كانت البنات يلعبن بألعاب القشِّ، كنت أجلسُ بجانب أبي أسمعُ منه عن كلِّ ما قرأ وسمع، رجوته أن أذهب مع أخي إلى الكُتّاب، فضحك وسمح لي، لكنَّني تجاوزت أخي وأخذت أقرأ، حفظت القرآن قبله، وألفية ابن مالك، وكل ما يخطر ببالك من قصائد، وبدأتُ أتسللُ إلى مكتبة أبي وأقرأ، أنا فضة، لمعةُ شمسٍ في ليل، فمن أنت يا علي؟!.
كان الردُّ:
" أنا رجلٌ متعبٌ، أردتُ أن أتعلّم كيف يخطُّ القلم أحرفه، لي روحٌ توّاقة تطير بي، ولا تقبل أن أستكين، لا تلبس إلا ثوب العزة، بعد أن أتممت دراستي في الشام أحبّني زملائي وأحببتهم، ولكن لا بدَّ للأيام أن تمضي سراعًا وتنقضي، عدتُ إلى إربد، كان أبي سعيدًا بي، يدي التي فارقت المِنجل والمِحراث غدت ناعمةً، لم تعرفني الأرض فلاحًا، ولكن عندما دستُ الحقل انحنت ألفُ سنبلة، كنتُ أعرف أنَّ هناك مكانًا يشبهني، أخبرتهم أنَّني سأدرسُ في" استنبول" فقال لي أبي: اذهب.
كانت أيامًا صعبة، ولكنَّها ليست أصلب من الإربديّ، اذا أراد يثبت لهم أنَّ ابن الفلاح أقوى مما يظنون، حاربت وحاربت، حاربت في حاضرة اليمن، وحاضرة ليبيا، وعدت مثخنًا بالجراح، تحمّلت ضرباتِ كل الأسلحة، ولكن أوجعني صوت الجوع والظلم في البلاد، قلبي يا فضة لا يعرف الظلم، وها أنا هنا رجلٌ مسجون، فقدتُ رتبتي، غدوتُ بلا فرس، فكيف عثرتِ عليَّ يا فضة؟ كيف عرفتِ مكاني اليوم؟ وأنا الذي لا أعرف ماذا سيحصلُ معي بعد يوم أو بعض يوم؟ مسجونٌ أنا، على بابي حارسٌ وقفلٌ كبير، وسجّاني ظالمٌ لا يملك أدنى أخلاق الفرسان.
كتبتُ:
"هم المسجونون، وأنت الحرُّ الطليق، غدًا سأبعثُ بشراب ماء الورد لكلِّ السجن، عليك فقط ألا تشرب، تظاهر أنَّك تشرب، ولكن لا تشرب، وأنا سآتيك.
وقفتُ أمام أبي:
-أوافق على سعد.
-ولكنَّك لا تقبلينه يا فضة!
-أوافق يا ابي أوافق، سأصنعُ شرابَ الورد وأذهب به إلى الجميع، ولا تنس المساجين والسجن.
-صنعتِ يا ليلى أكبرَ قدر من شراب الورد، ووضعتِ فيه عشبة أعرفها، من يشربها ينام نومًا عميقًا.
تسللتُ بثوبي المطرز، جمعت ثوبي وزينتي، كان الكلُّ مشغولاً في ترتيب الحفل، أمَّا أنا فقد دخلتُ إلى غرفتي لآخذ زينتي، هكذا أخبرتُ الفتيات، وتسللت من نافذة الغرفة وأخذت فرسي من إسطبل والدي، كانت إحدى أعز خيوله، اقتدتها بهدوء حتى أنَّني كنت أسمعُ صوتَ رفيف قلبي، كان الجميعُ في العرس، من لم يكن نائمًا كان يغني، وصوت الغناء يغطّي على كل صوت، ولكن، كل من في السجن كان نائمًا، تسلّل علي وفتح الباب وخرج، وكنت أقف بانتظاره، وناولته الفرس، ما إن رآني حتى عرفني.
- فضة؛ أنتِ أجملُ مما يمكن لفضة أو قمر أن يكون!.
تبسمتُ، وقلتُ:
- وأنت أجملُ رجلٍ قد تتمناه امرأة!
- فضة هل أعود؟ هل ستنتظرينني؟!.
- اذهب يا علي، قد يأتي أحدهم، أو يستيقظ النائمون...
ركب فرسه، يتلفّت، وصوتي يدفعه دفعًا، اذهب علي... كلما تلفّت وجد يدي تؤشر له أن اذهب، ثم غاب.
- هل رأيته بعدها يا جدتي؟
- لم أسمع عنه يا ليلى، وتزوجت جدك، أتعلمين؟! عشتُ عمري كله أحمل بقلبي سريّ، لم يعلم به أحد، عشتُ عمري على ذكرى ساعة. يا ليلى، وأحببتُ جدك، كان رجلًا طيّبًا جدًّا، وأنجبتُ أمّك.
- لماذا تخبرينني سرَّك بعد كلِّ تلك السنوات يا جدتي؟
- لأقولَ لك: إذا لم تحبي الرجل الذي ستخطبين له كما عشقتُ عليًّا، لا تتزوجي.