"إيقاعاتٌ سرديّةٌ..." تأملٌ نقديٌّ بليغٌ لمثاليات السرد الأردني المعاصر

فرج مجاهد عبدالوهاب
ناقد مصري

لا شكَّ أنَّ مبدعي كل قطر عربي شقيق إنَّما يشكِّلون مع إبداعاتهم وحدة الفنّ العربيّ الذي إن لم تجمعهم السياسة على قلب واحد، فقد جمعهم الإبداع الإنساني على قلم واحد تداخَلَ مع حياتهم، وعبَرَ آمالهم المشتركة، وأحلامهم المتعانقة وأمانيهم المتفاعلة مع ناس المشرق العربي ومغربه.
ومن الساحة الإبداعيّة الأردنيّة، وقد ضمَّت لفيفًا من مبدعي السرد العربي المعاصر متمثلًا هويّته الإبداعيّة والإنسانيّة، يغوص الناقد العراقي "عِذاب الرِّكابي" في المُنتَج السرديّ الأردنيّ ويقدِّم لقرّاء العربية كتابه النقديّ (إيقاعات سرديّة.. قراءة في السرد الأردني المعاصر) والصادر عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية عام 2017.
في التوطئة التي قدَّم من خلالها الكتاب، يقول الركابي: "هؤلاء الأصدقاء المبدعون- كتاب قصة ورواية، لهم حضورهم في السرد الأردني والعربي، وهم -بشكل سرّي- مصّاصو حيوات الآخرين- بتعبير "آندرس نيومان"، ثروتهم في بنك الحياة كلمات برصيد لا ينفد، وهي تنساب من أنهار قرّائهم بنكهة الفانتازيا، منطادهم الخيال قلعة الجمال وشطآن اللانهاية -برأي "دستوفسكي"- ويرصدون حركات أبطالهم بلغة من الرّوح تلخِّص كل شيء –بتعبير "رامبو"- تميِّزها وردة أسرارهم وهي تفوح بعطر أهليهم ومواطنيهم البسطاء الظامئين لحياة لا تشكو من الحياة"(ص7).
قسَّم الناقد كتابه إلى قسمين:
قسم خاص بمبدعي القصة القصيرة في الأردن، فتناول أعمال كلٍ من: بشرى أبوشرار في "من يوميّات الحزن العادي"، وجعفر العقيلي في "ضيوف ثقال الظل"، ومجدولين أبوالرُّب في "الرجوع الأخير".
وقسم خاص بكُتّاب الرِّواية، وتناول فيه أعمال كل من: بشرى أبوشرار في روايَتَيْ "شهب من وادي رم" و"العربة الرمادية"، وصبحي فحماوي في رواية "على باب الهوى"، وهزاع البراري في رواية "أعالي الخوف".
مقدِّمًا بذلك بانوراما نقديّة واعية، كشفت عن مسار السرد في الحراك الأدبي الأردني المعاصر، وكشفت الكثير عن مُناخات ذلك الإبداع السرديّ.
في القسم الأوَّل، المعنيّ بالقصة، يتناول المؤلف بالدراسة والنقد مجموعة بشرى أبوشرار "من يوميات الحزن العادي"، فيرى أنَّها "قصة واحدة لراوية واحدة، تسكب ماء همومها في حوض هموم الآخرين، ممَّن ترتبط بهم بنبض الدم، وتتواصل معهم عبر أثير الهُويّة الضائعة؛ ممّا يجعلها قصص الذات الباحثة عن موطئ قدم برائحته قطرات مطر عافها الغيم المراوغ، وظِلّ شمس خانتها نهاراتها، قصة الوجود بلا وجود، والحياة الحالمة بالحياة، قصة المواطن في بيت بلا سقف، وقصة وطن باحث منذ الأزل عن وطن"(ص13،14).
وباللغة الشعريّة الناقدة نفسها يحلِّل الركابي قصص المجموعة قصة قصة، ويرى أنَّ القصة تشبه سطح الماء، وأنَّ بإمكانك أن تعرف منه الكميّة التي تريدها(ص18)، ويصل إلى أنَّ قصص "أبو شرار" تتشكَّل على الذكرى، الحنين، النستولوجيا العالية، الغربة، قضية وتاريخ شعبها الفلسطيني المغيَّب في أجندة العدالة، والقصص فسيفساء إبداعيّة باهرة الألوان والخطوط والرؤى(ص18).
في القصص يتنامى الحدث، وتتعدَّد الإيقاعات في لغة كثيفة مقتصدة ومعبِّرة عبر حلم الذات/ الكاتبة، الممتدّ العابر للأزمات والمدن إلى العالم حيث الحلم يصعب تأجيله أو قتله، إلى الحريّة.. الوطن بلا بوّابات ولا شرطة ولا نقاط تفتيش(ص25).
أمّا في قصص جعفر العقيلي ومجموعته "ضيوف ثقال الظلّ)، فإنَّه يُشبِّه الواقع بالفانتازيا المموسقة بشاعرية دافئة وعالية في خليط متناغم من الواقع والفانتازي والسردية والمتخيَّل(ص27)، ويحلِّل الركابي قصص المجموعة مستخرجًا قيمها التناوليّة والإبداعيّة، ويصل إلى أنَّه في قصص جعفر العقيلي، يبرز ضجر المتكلم –الراوي- الشخصيّة بإيقاعها السيكولوجيّ بكونه حجرَ الأساس في بناء القصة، وشرطًا في كتابة الذات، كما يبرز في قصصه عنصر التخيُّل؛ وهو ما يتيح الحريّة والقدرة على المناورة أكثر من الكتابة غير التخييلية.
التخييل المقرون بفانتازيا موقظة، ليست هروبية، ولا محبطة، تحييها في القلب والعقل معًا، والفضل لقريحة صافية لا تهدأ، ومثابرة أصابع تزهو بلحظات جنون الكتابة والإيحاء، عبر لغة باذخة الحميمية، لا تبتعد عن ملامح وهواجس الراوي –البطل- في كلِّ قصةٍ وهي تأخذ الشكل الصحيح المُقنع، والتوازن الصحيح أيضًا، حتى ترتيب وإيقاع الكلمات، إلى أن تأتى مُنمقة، شفافة مندلقة، من جسد الكاتب على الورق مباشرة، بهذا الشكل الممتع شديد الإثارة شكَّل مزيجًا من الواقعي- الجمالي والفانتازي الشاعري في إيحاءاته مؤسسًا لبنية سردية مستثمرة للكلمات والأخيلة والرؤى معًا(ص41-42).
ويرى الناقد عذاب الركابي في قصص "الرُّجوع الأخير" للأردنية مجدولين أبوالرُّب قصص الواقع وحكايات الناس الذين غابت الشمس عن بيوتهم، فاستبدلوها بشمس البوح وأبجديّتها، نثار أجسادهم المتشظية، مصحوبًا بتعاطف هائل معهم من قِبَل الكاتبة، وهي تجسِّد واقعهم المعيش بانحياز لا يفقد ضرورته الإنسانية. في "الرجوع الأخير" الواقع يكتب قصصًا والراوي طيف بخفّة النّسمة(ص43).
ويتداخل مع القصص كشفًا وبسطًا وتحليلًا وربطًا بالحال الإنسانية التي تجسِّدها حالة الشخصيات الإنسانيّة بكل حيرة وقلق، مفرزةً قصًّا اجتماعيًّا بامتياز. وخلص في نهاية بحثه إلى أنَّ "أبو الرُّب" في مجموعتها، إنَّما تكتب وترسم تصوِّر، تكتب لأنَّ الكتابة فعل استذكار، وترسم لأنَّ الرَّسم محصّلة ظروف وهو (تخييل وطاقة حيويّة)، وتصوِّر أيضًا بسيل إحساس جارف. والكاتبة مجدولين تكتب وكأنَّها تسعى بمثابرة مخلصة لإنقاذ حياة شخص آخر متسلحة بذاكرة توأم الخيال.. الواقع(ص55).
في القسم الثاني الخاص بالرِّواية يتداخل أوَّلًا مع رواية بشرى أبوشرار "شهب من وادي رم" حيث يبرز السؤال أهي غربة روح أم غربة وطن؟ أم هي حلم وُلد في ليالي زمننا الحالك!
شهب من وادى رم- حلم نزيف عين حزينة لا تنام، وكهرباء جسد لا يهدأ، وهو البنية التحتيّة لمنارة شموخ شاهقة، للتعلق بهذا المكان أو الصلاة الواجبة العطرة(ص42).
وهي غربة المكان المتماهي بإيقاع كل خطوة قدم، ونبضه قلب نحيل، غربة في الوطن الذي تمدّ شريانك إليه وتغذّيه من دمك الطاهر(ص63). هى الغد الفلسطيني المنتظر، والوطن المحرّر حيث يقذف بحر النور والحق والعدل بسفن الظلم والعدوانيّة.
والمبدعة أبوشرار لا تفلت من أنياب هذا الواقع وتدنيه فحسب، بل تحاول بتعويذة الإلهام أن تغيِّر العيون التي ترى الواقع، متخذة من بطلتها مثالًا للرّافض لواقع مظلم بشراسة(ص68).
في الرواية نستولوجيا معذّبة، ووجودٌ قلق، ومكانٌ يضيق كلما اتَّسع الحلم(ص70). وهي غربة، وبرية شرسة تلتف لتقطع أنفاس القلب، ممتدة عبر الأزمان والحقب والعصور، رصدتها الروائيّة بإصبع غير مرتعش، ومعدن ذاكرة لا يصدأ(ص74)، مستخدمة أسلوب التداعي- "الفلاش باك"، وهي تجمع شتات ذاكرة بطلتها المبعثرة بين ماضي الطفولة الجميل، وحاضرٍ قاسٍ بشع.
ومن رواية "شهب من وادي رم" إلى رواية "العربة الرماديّة" للكاتبة بشرى أبوشرار حيث الذات تبحث عن ذاتها، والأحداث تروي نفسها بنفسها؛ في "العربة الرماديّة" يجد القارئ نفسه أمام أسئلة أنثروبولوجيّة تحمل إجابات أكثر عذابًا على مرّ الزمان، فهل هناك عربة رماديّة متهالكة فعلًا؟ أم أنَّها الحياة المهدَّدة بغزو موت جهنَّمي بطيء؟
الرواية لغة جدل لا ينتهي، عربة متهالكة، حياة مضطربة، ماضٍ سعيد، حاضر حزين أشد تعاسة، نحن أمام رواية تفتح لك ذراعيها، متاحة وليست منيعة أبدًا، تمنحك نفسها بكل حميمية وشفافية الراوي الساردة التي هي روح الرِّواية وغرفة عقلها السريّة(ص88).
"العربة الرماديّة" لحظة صراعٍ واعٍ حاد وقاتل بين الماضي والحاضر، الماضي القريب، البعيد بكل تفاصيله: الوطن، الأم، الأب، الطفولة الحارة، الأماسي العائليّة(ص90).
في "العربة الرماديّة" الماضي الحاضر أبدًا، والإصرار على العيش في الماضي هو الحياة في اللازمن، وحياة الراوية في سرير الماضي أكثر سعادة وأحلامًا وأمانًا من حاضر جنته بفاكهة الجحيم(ص92).
رواية "العربة الرمادية" سؤالٌ، الإجابة عنه بمفردات الحنان متعة، تضيف للروح عطرًا وطيبة، ترقق القلب وتقيم كرنفالًا لجسد يتجدّد(ص102).
ومن بشرى أبوشرار إلى الروائي الأردني صبحى فحماوي وروايته "على باب الهوى" حيث إخفاق الذاكرة بين قوة الانتماء وضعف الوجود، فالرواية لحظات صراع يعيشها الراوي بجرح نازف بين انتماء قوي يعزفه كل جزء في جسده، لا يربك إيقاعاته الإنسانية إلا ضعف الوجود وقلقه، الراوي مواطن حالم بوطن يدين بالحرية، يجد نفسه طيرًا ملائكيًا، سندباد عربي فلسطيني، يتأبّط هُويّته العربية –متهمة- التي تجرحُ في كل مكان تطؤه قدماه المرتعشتان، يجرِّب طلسم الحريّة حتى بمذاق مُرّ، يجد نفسه إنسانا حرًّا في الواقع، الخيال، وهو سجين هُويّته ويعالج سجنه الذي يبدو له مؤبَّدًا بقوّة الانتماء الذي لا تنطفئ نيرانه، وقلق الوجود بفقه قوانين الآخر- الغرب ليكون اسمه "اللا أحد"(ص104).
ويرى الناقد الركابي أنَّ صبحي فحماوي يبدع في أسلوب المفارقة الساخرة، حيث كلماته تنساب بسلاسة شديدة وتعبير قويّ، تتجسّد الصورة الحزينة القائمة للعربي حين يجد نفسه كمنطاد غريب في فضاء الغرب الإنساني، وعقله المبرمج وفق الآلة التوراتية، بكل دقة لملاحظة كل خطوة يخطوها العربي فوق أرضه، وهي تغرق بسيول الحرية والديمقراطية والإنسانية التي تكتسح وتحطِّم كل السدود، و"أضابير" مؤسّساته الأمنية لديها العربي متَّهم، وهو لمّا يزل جنينًا في رحم أمِّه، وبحسِّهم الأمني العالي لا يكتفون بتتبُّع خطاه المضطربة البريئة، بل ومعرفة منابع أحلامه ونهار أفكاره(ص106).
وينتهي الناقد إلى أنَّ رواية "على باب الهوى" سرد مثير، فسيفساء إبداعية شيّقة الألوان والظلال... حيث نجد أنفسنا أمام سِفر إبداعيّ مثير، كأنَّه مكتوبٌ برماد أرواحنا جميعًا، لا يمتلك إلا أن تَنشر على حروفه وجمله الرشيقة عطر الإصغاء، وفاكهة التأمُّل، وتحتفي به بكلمات كل جملة فيها ضربة في القلب.
ويخصّص الركابي بحثه الأخير لدراسة رواية "أعالي الخوف" للروائي هزاع البراري، ويرى الناقد أنَّها رواية مشاهد، شخصيّات تكتب نفسها بنفسها، يأخذ الروائي من خلالها مهمة الرسام والموسيقي؛ فتشرق أصابعه ألوانًا وخطوطًا وكلماتٍ وأفكارًا، لتنتج "بورتريهات" يمكن قراءتها بمشاعر لا حصر لها، وكأنَّ الروائي وهو يسعى في سرده المثير إلى استخدام أسماء حقيقيّة لينقل شعورًا حقيقيًّا، وهذا ما يجعلها رواية واقعيّة لشخصيّات حقيقيّة تنوء بأعبائها ذات الكاتب، ويصبح فيها الخيال واقعًا مركزًا(ص148).
وبعد أن يحلِّل شخصيّات الرِّواية وواقعهم ومواقعهم ومعيشتهم وقضيّة الموت، يصل إلى أنَّ "أعالى الخوف" الرواية البورتريه بامتياز، رواية كتبت نفسها بنفسها لكاتب مثابر يتعامل مع اللغة على أنَّها الملجأُ الحالمُ، وتتحوّل الرواية بفضل بلاغة اللغة إلى أنموذج للبساطة في السرد وهى البساطة المحسوبة الدقيقة، حيث تقرأ الرواية بموجبها صورةً.. لوحةً تشكيليّةً، موسيقى. ص157
وبلغة شعرية بارعة ورائعة طالما عرف بها الناقد الشاعر عذاب الركابي قدم دراسة نقدية متقدمة لإيقاعات السرد العربي المعاصر في الأردن من خلال أهم مبدعيه الذين اشتغلوا على فنيّ القصة والرواية، فكشف عن سياقات هذا السرد وعلاقاته التبادلية بين الواقع والخيال وبين المؤلف والراوي، وربطها بالحياة الاجتماعية التي أسهمت بولادة المنتجات الإبداعية المعاصرة المكتوبة بإيقاع قريب من القلب، وهي وجبة النص المجسّد لدلالات عميقة لكل حالة من حالات القصص والرواية، في تناول نقدي باهر ومبهر عرف به عذاب الركابي وهو يبحر في كتابته عن الآخرين، ووقوفه على أعمالهم الإبداعية حيث (لا تجد كلامًا أو سردًا تقليديًا بسنن ومقاييس الكتابة النقدية المهجرة مسبقًا، إنَّه يقول في كل عمل يتناوله ما في نفسه من تعاطف ولقاء مع هذا الأداء، إن كان هذا الأداء يعبر عن مصداقية جادة تحياه الواقع، وتجاه الحياة بكل ما فيها من سلبيات وتطلعات.
وهذا ما يجعل من "إيقاعات سردية" تجربة نقدية متطوّرة في مجال النقد السردي المعاصر، فيعد مرجعًا لا بدَّ منه، ليس في مجال الحراك السردي المعاصر في الأردن؛ وإنَّما في مجال النقد العربي المعاصر المختص بإيقاعات السرد في القصة والرواية، في حراك النقد المتجدّد الذي يقدم إضافات واعية مجدة ومجتهدة إلى فضاء النقد السرديّ، وبشكلٍ عام.