سؤالُ الهُوية في النصِّ القصصي مجموعة ''الرجوع الأخير'' لمجدولين أبو الرب أنموذجًا

سعيد بوعيطة
ناقد ومترجم مغربي.
ترتبط الهُوية، بمكوّناتها ومرجعياتها ذات الحمولة الفكرية والسلوكية والحضارية. تتعالق فيها الأفعال بمرجعيات خاصة. تتغير مع تغيّر محدداتها(زمنيًّا، ومكانيًّا، وثقافيًّا...الخ). بمعنى أنَّها ليست جوهرية، بل مرتبطة بالفضاء المنتج لها. لذلك؛ لا تعطى مرة واحدة وإلى الأبد، بقدر ما تتشكّل وتتحوّل على طول الوجود. لهذا؛ فالهُوية في طور التكوين المستمر. تتجمع مكوّناتها من التاريخ والجغرافيا، والثقافة والسياسة ...الخ. تتموضع بشكل ما. وقد توجّهها السياسة باتّجاهٍ معين، فتستقر برهةً من الزمن، وتعاود التحوّل مع مؤثرات جديدة. لكن تموضعها كثيرًا ما يُعزّز بمؤشرات مادية، تدلُّ على تشكيلها، وتمظهرها في زمانٍ ومكانٍ معينين(1). لهذا؛ فمادية الهُوية مادية اعتبارية. ليست كمادية الموجودات والمحسوسات. بل تظهر في تأثيرها على الأفراد، وتشكيل وعيهم وتوجهاتهم. لكن على الرغم من ذلك، فإنَّ الهُوية تعتمد في حضورها على جملة الصفات التي تميز موجودًا( فردًا أو جماعةً) عن سواه. بحيث يبقى الموجود هو هو، وغيره غيره، بإبراز ما يحد الموجود عما عداه وما يخصّه ذاتيًّا(2). أمَّا الهُوية العامة، فتنتج من خلال الاشتراك في ممارسات اجتماعية، وعادات، وتقاليد، وأخلاق مشتركة مدة زمنية طويلة. فتكون أمتن وشبه طبيعية في تركيزها على التميّز عن الآخرين. يتحوّل معها شعور الأفراد اتجاه هذه المميزات، إلى انتماء خاص. لتأخذ الهُوية بتشكيل عناصرها. مما يعني أنَّ مكوّنات الهُوية متعددة (اللغة، والدين، والأيدولوجيا، واللون، والجغرافيا...الخ). كما قد يسيطر واحدٌ من الانتماءات، فيكون العنصر الحاسم فيها. لكن قد تتعقد مكوّنات الهُوية وتكون انتماءات متناقضة ومركبة. يصعب معها معرفة التوجه الحقيقي للذات. إذ تبين تعقد تمثلات الهُوية بمرجعياتها وظروفها. لعلَّ أبرز مثالين لذلك في العالم العربي الروائي أمين معلوف، والمفكّر إدوارد سعيد. لذلك؛ فإنَّ مختلف الشعوب التي تعرضت للسلب والاقتلاع (شأن الشعب الفلسطيني)، هي أكثر حساسية بدوال الهُوية. حيث تستشعر دائمًا أنَّ عليها رقابة لرموز هُويتها. وتأخذ ردة فعل المهدّدين شكلًا معاكسًا للخطر الذي يهدّدها.
يملك النصُّ السرديُّ خاصة والإبداع عامة، قدرته على إبراز الهُوية الثقافية ومقارنة الآخر بها. حتى أنَّها أصبحت مفتاحًا للثقافة، وعلامة من علاماتها. فقد عرف العالم فرنسا مثلًا، بروايات "بلزاك"، وأمريكا اللاتينية بروايات "ماركيز"، ومصر بروايات نجيب محفوظ...الخ. لأنَّ النصَّ السرديَّ من أبرز الوسائل الإبداعيّة التي تعبّر عن الأنثروبولوجيا الثقافية للشعوب. إذ تتماهى المفردات الثقافية، ومنها الهُوية، فنيًّا وفكريًّا في جسد النص. كما تعود قدرة النصوص السردية على تصوير الهُوية، لاتسامها بالرحابة، وقدرتها على دمج ما تحت الأدبي. إذ تحوّل عملية التسريد للعناصر الدالة على البنية الثقافية، إلى عناصر فنيّة؛ مثل الأغاني الشعبيّة، والمواويل، والأمثال والشعر، والحكايات، والمقولات التراثيّة. حيث تتحوّل الجذور الثقافيّة إلى تقنياتٍ روائية معاصرة. تعمل على تفجير أسئلة الواقع من خلال أشكالٍ جمالية مغلقة. تمثّل نتاج الثقافة وعناصرها، وتضمن في الوقت نفسه استمرارها. عتبة النص الرئيسية) الرجوع الأخير)
يشكّل عنوانُ المجموعة القصصية" الرجوع الأخير"، للقاصة "مجدولين أبو الرب"، المحركَ الأساس الذي تنبني عليه باقي نصوص المجموعة. كما يُعدُّ عنوانُ النصِّ القصصي الثالث لهذه المجموعة التي تتضمن أربعة عشر نصًا قصصيًّا. مما يشي بأنَّ هذا النص (الرجوع الأخير/ الصفحة:12)، بمثابة تلك النواة المركزيّة للمجموعة القصصيّة بشكل عام. حيث تتشظى لتتناسل من خلالها باقي النصوص القصصية (كذب أبيض(ص:2)، العتمة(ص:6)، المكوى(ص:16)، بانتظار الخميس(ص:19)، مسارح الظنون (ص:24)، قاب نعلين أو أدنى(ص:28)، تغيير(ص:32)، المضبوع(ص: 35)، بضع رشفات تكفي(ص:42)،في القاع(ص:44)، وتنقض غزلها(ص:50)، تبتسم بدلال(ص:54)، عفاريت مقيمة(ص:56). تدور هذه النصوص القصصية في فلك النصِّ المحوّر(قصة الرجوع الأخير). ليشكّل هذا نص ''الرجوع الأخير''، مولدًا سرديًّا/ générateur narratif؛ سواء على مستوى المعجم أو الدلالة، أو الرؤيا الإبداعيّة للقاصة "مجدولين أبو الرب". تتشكّل عتبة هذه المجموعة القصصية الأساسية (العنوان/الغلاف الأمامي)، من عناصر لسانية (لغوية)، وأخرى بصرية/ غير لغوية (صورة الغلاف). تحتوي العناصر اللسانية على عنوان المجموعة (الرجوع الأخير)، اسم القاصة (مجدولين أبو الرب)، الميثاق الأتوبيوغرافي (مجموعة قصصية). يفتح هذا الأخير/ الميثاق، أفق انتظار المتلقي من أجل تلقي العوالم النصيّة لهذه المجموعة القصصية. إلا إنَّ ما يثير الانتباه أكثر، هو البنية الدلالية للعناصر المكوّنة لهذا العنوان الذي تضمن وحدتين لُغويتين: الرجوع، الأخير. فإذا حاولنا استجلاء العلاقة بين العنصرين اللغويين، نجد أنَّ العلاقة بين الرجوع (الحنين، الأصل، المكان)، وصفة الأخير التي تؤشر على عدم التكرار، والاستقرار، والتملك، علاقة تشي بالسعي نحو الثبات والاستقرار، بعد حالات من التحول وعدم الاستقرار. سؤال الهُوية في مجموعة ''الرجوع الأخير''.
يتميّز المكانُ بسطوته على الإنسان فكرًا وعملًا. لأنَّ تشكّله العام، يحمل دلالاتٍ عدة. غالبًا ما تكون مرتبطة بعصر من العصور. حيث تسود ثقافة معينة، أو رؤية خاصة للعالم. ذلك أنَّ شكل اعتبار الإنسان لقيمة المكان، يتم تحديد صورته في فكره، وبالتالي في أدبه(إبداعه). لهذا؛ فإنَّ تغيّر رؤيا الإنسان اتجاه المكان، يفترض تعددًا للأمكنة. مما يجعل للمكان الواحد صورًا متنوّعة، حسب زاوية النظر التي يلتقط منها. فقد يقدّم المبدع لقطاتٍ متعددة، تختلف باختلاف التركيز على زوايا معينة. لهذا؛ فإنَّ النصوص السردية (الإبداعية عامة) التي ترتبط بمكان واحد، تخلق أبعادًا مكانية مختلفة في أذهان الشخصيات أنفسهم. كما أنَّ إنتاج المكان، يحتاج إلى امتلاك القدرة على تشكيل ذاكرة ثقافية له، تخلّد حضور الإنسان وأفعاله وممارساته. بمعنى أنَّ الإنسان يصنع للأمكنة تاريخًا سرديًّا، حتى يؤكّد حضوره حقيقةً ورمزًا(3). لأنَّ امتلاك الإنسان للمكان واقعيًّا، يمكنه من إنتاج ثقافته وهُويته. فيتحدّد بهُوية منتجيه، ويعود بدوره على شكل سلطة على منتجه، ويؤثر تأثيرًا مباشرًا في أدبه. وقد يسهم في تشكيل العناصر الأدبية دون وعيٍّ كامل به. كما أنَّه يُعدُّ علامةً على دلالات الحدث الحكائي. وكل مكان يولد في الكتابة، تكون له ذاكرة مخصوصة. يحيل على عناصر الذاكرة الجماعية. يقول السارد في الصفحة 45 من مجموعة ''الرجوع الأخير'':(اعتادت أمّي أن تستحضرها وتخلطها خلطًا عجيبًا وكأنَّها تمزج الزمن والأشخاص والأماكن، وتخضّها في إناء أفكارها، فتبعثر الماضي على درب الحاضر، وتتدحرج الأيام إلى الوراء، ويطل شخوص ماتوا منذ زمن، تبعثهم بيننا). مما يعكس روح الشخصيات والأمكنة التي عاشت فيها. يبرز من خلال نصوص المجموعة القصصية'' الرجوع الأخير'' هيمنة فضاء القدس بشكل بارز. على الرغم من كون الأمكنة تتوّزع بين عمان/ الأردن/ والقدس (نص الرجوع الأخير/ص: 13، 14، نص قاب نعلين/ ص:31، نص عفاريت مقيمة/ص: 56، ...الخ). لكن لا تنعكس هذه الفضاءات في نصوص المجموعة القصصية، انعكاسًا آليًّا، ولا مساويًّا له. لأنَّ هذه النصوص قد خلقت عن طريق الكلمات مكانه والمكان ليس معزولًا في صورته الفنية العامة، بقدر ما يؤثر في العناصر السردية الأخرى ويتأثر بها في الوقت نفسه. لكونه يتميز بفعالية خاصة في إظهار العلاقات بين المكوّنات السردية، خاصة الشخصية التي تنطبع بطابعه. ذلك أنَّ الإنسان يخضع من خلال علاقاته ونظمه لاعتبارات المكان ومعاييره. مما يجعل التأثير متبادلًا بين الشخصيات والمكان الذي تعيش فيه، أو البيئة التي تحيط بها. فيسهم في الكشف عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية. يقول السارد في الصفحة 38:( تعيش في بيتها في عمان مرةً، وفجأةً يناديها بيت آخر في القدس، وتلحُّ عليَّ أن آخذها إلى بيتها. البيت الذي عاشت فيه قبل أكثر من خمسين سنة). يسهم هذا الشعور في التحوّلات الداخلية التي تطرأ على الشخصيات مقابل التأثير الناتج على تغير الأمكنة. يقول السارد:( أنا أعرف جيّدًا أين تقف السيارات الذاهبة إلى القدس) ص: 28. ويقول في الصفحة14:( كانت تجلس وقربها حقيبة سفر. نهضتْ بمجرد أن رأتني، وبادرتْ بالقول: "أنا طوّلت هون، ينبغي أن أروّح، والله أبي يستعوقني، وأكيد هو قلق عليّ...هيا أوصلني إلى الكراج، وأنا بعرف أروّح... أرجوك... سأدعو لك في الأقصى). لهذا، تحدّد أفعال الشخصيات قيمة المكان وانتماءه وهويته؛ لأنَّ بمقدور المكان (أن يصوغ الشخصيات والحوادث، يسهم هو أيضًا في صياغتها، ولأنَّ الشخوص الفاعلة صانعة الحوادث هي التي أقامته، وحدّدت سماته فهي قادرة على تغييرها، ولكنَّها بعد أن تقيّمه تتأثر به( 4). مما يمنح للمكان في نصوص مجموعة ''الرجوع الأخير'' دورًا مهمًّا في تحديد الهُوية. ففي الصفحة 14، نجد مجموعة من الألفاظ التي ترتبط بالمكان الأول/ الأصل (القدس) قبل النكبة (قبل العام 1948) ( المسكوبية: مشفى من مشافي القدس، باب الخليل: اسم أحد أبواب القدس، حي القطمون: من الأحياء الجديدة التي نشأت في الضواحي، خارج الأسوار، شارع صلاح الدين: شارع رئيسي وحيوي في القدس، كريكوريان: مصوّر أرمني ذاع صيته آنذاك). ذلك أنَّ شكل المكان في كثير من الأحيان، يعد عنصر الصراع المنتج للهُوية. لعلَّ هذا ما جعل "مارسيل بر وست" يقول: ( ولأنّني جهلت أين كنت موجودًا، فإنّني لم أعرف في اللحظة الأولى حتى من كنت)(5). مما يحوله إلى عنصر وجودي. حيث يتصل بعناصر أخرى (خاصة الزمان). لأنَّ كليهما يسهم في إنتاج هُوية الشخوص. بهذه الصورة، يحدّد عنصري المكان(القدس)، والزمان(قبل النكبة/ قبل عام 1948)؛ صورة الإنسان الفلسطيني وهُويته في النصِّ القصصي'' الرجوع الأخير''. لأنَّ الحياة الإنسانية ترتبط بالمكان، وتنشأ من خلال التاريخ/ الزمان. حيث تحدّد من خلال السؤالين المترابطين: متى؟ وأين؟ ". يرتبط السؤال الأول في أغلب نصوص مجموعة'' الرجوع الأخير" بفترة تتجاوز الخمسين عامًا. أمَّا السؤال الثاني، فيرتبط بالقدس/ فلسطين باعتباره المكان الذي تشد إليه شخصيات المجموعة. لهذا تجسّد العلاقة مع المكان توجه الشخصيات في تفكيرها واعتباراتها.
تعيش أغلبُ شخصياتِ نصوص المجموعة القصصية'' الرجوع الأخير'' للقاصة "مجدولين أبو الرب"، نوعًا من الشجن والتعلق الدائم الذي لم ينقطع بالمكان الأول/ المكان الأصل. فثمة خيط دائم يربط الإنسان بذلك المكان، لكون الهُوية تتحقّق فيه، وتبقى متأثرةً به إلى الأبد. الإحالات الصفحات المشار إليها مأخوذة من: مجدولين أبو الرب، الرجوع الأخير(مجموعة قصصية)، ط1، منشورات الشارقة (كتاب مجلة الرافد)، الإمارات العربية المتحدة، 2015 (1) علاء عبد الهادي، شعرية الهُوية ونقض فكرة الأصل، الأنا بوصفها أنا أخرى، مجلة عالم الفكر( الكويت)، م 36، ع1، 2007، ص: 73 (2)العجيلي شهلا، النص الروائي ودوال الهوية الثقافية، مجلة: علامات في النقد(السعودية)، ج53، ع14، 2004، ص: 23 (3) لحمداني حميد، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ط 3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / المغرب، 2000، ص: 83 (4) حسن نجمي، شعرية الفضاء المتخيل، الهُوية في الرواية العربية، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب، 2000، ص: 112 (5) نقلا عن: ميكشيللي إليكس، الهُوية، ترجمة: علي أسعد وطفة، ط1، دار الوسيم، دمشق، 1993، ص: 92