محمد الهادي الطاهري
كاتب وناقد تونسي
1. النصّ:
"ليلة أوّل أمس، خسرت مراهقة حبيبها في مكالمة هاتفيّة طويلة رخيصة الثمن. صباحَ أمس قصدت أقرب "مول" واشترت "فلاشة نت" وصلتها خلسة بحاسوب أخيها. فتحت حسابًا على "فيسبوك" باسم عاشقة البحر وزيّنت صفحتها بصورة ممثلة شقراء، ثم أضافت سبعين رجلًا من أصقاع متباعدة، وأضافها سبعمائة رجل ونيّف وثلاث عشرة أنثى. عصرَ أمس زارها شيطان الشعر وكتبت قصيدة رديئة فانهالت عليها إعجابات وثناءات غار منها نزار قباني في قبره، وجاءتها رسائل خاصّة كثيرة أغلبها تضحيات مجانيّة وكثير منها بوح ورغبات. ليلة أمس، نسيت البنت الولدَ، وصبحَ الغد ستستعدّ البنت للقاء فتى أعجبها شَعره وشعيرات تناثرت على صدغيه. وعلى برنامجها عند الظهر موعد مع رجل أعمال يشتغل في العطور المزيفة، وغداء متأخّر مع عاطل عن العمل يقود سيّارة ثمينة."
جمعة شنب، بنت الحرام، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2017، ص - ص: 29 – 30
2. التحليل:
• تمهيد: يمثّل النصّ في جملته قصّة مستقلّة من أقاصيص المجموعة المسمّاة "بنت الحرام" للكاتب جمعة شنب. وهي من جنس القصّة القصيرة جدّا المبنيّة على اختزال اللفظ وتكثيف المعنى. وميزة هذه القصّة تحديدًا أنّها منسوجة من أبرز عناصر عالمنا المعاصر وهي وسائل التواصل الاجتماعي ممثّلة في عالم الهواتف والحواسيب والانترنت والفيسبوك.
• تدور القصّة كلّها حول مراهقة قطعت صلتها بحبيبها وأنشأت بدلًا منها ثلاث قصص حبّ افتراضيّة. وبهذا يكون النصّ مبنيًّا على تقابل بين نوعين من قصص الحبّ، أمّا النوع الأوّل فهو قصّة حبّ في العالم الحقيقي بين فتاة سمّيت (مراهقة) وحبيب اكتفى الراوي بأن قال إنّه ولد. وأمّا النوع الثاني فيتمثّل في ثلاث قصص من الحبّ نشأت دفعة واحدة في العالم الافتراضي ونتوقّع انتقالها إلى العالم الحقيقي في يوم واحد أشار إليه الراوي بعبارات تحدّد أجزاءه؛ وهي الصبح (صبح الغد)، والظهر (عند الظهر)، وآخر النهار (غداء متأخّر).
• وبين هاتين التجربتين فاصلٌ زمنيٌّ قصيرٌ جدّا لم يتجاوز النهار الواحد، وهو نهار أمس، ولكنّه حافل بأحداث جمّة يمكن تصنيفها إلى مرحلتين حسب نظام وقوعها في الزمن. ففي مرحلة أولى، وهي مرحلة الصباح اقتنت المراهقة (فلاشة نت) ووصلتها بحاسوب أخيها، وفتحت حسابًا على منصّة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" باسم مستعار (عاشقة البحر) وبصورة مستعارة أيضًا (صورة ممثّلة شقراء)، وأضافت سبعين رجلًا، وقبلت طلبات الإضافة من سبعمائة رجل أوّلا؛ ومن بعض النساء ثانيًا؛ (ثلاث عشرة أنثى). حدث كلّ ذلك في صباح الأمس. أمّا في مرحلة المساء وتحديدًا بعد عصر الأمس فقد تلقّت المراهقة إعجاباتٍ كثيرةً في إشارة من الراوي إلى علامات التفاعل الملوّنة التي يقترحها "فيسبوك" على المتفاعلين وهي عادةً ما تكون ملوّنة، ولكلّ لون منها دلالته الخاصّة، ثمّ تلقّت بعد ذلك ثناءات في إشارة من الراوي إلى التعليقات اللغوية الإيجابية لما فيها من ثناء ومدح، وسرعان ما تحوّلت النصوص القصيرة الواردة علنًا في خانة التعليقات إلى رسائل حميميّة على الخاص "أغلبها تضحيات وكثير منها بوح ورغبات). لقد جرت هذه الأحداث في طرفي النهار أي صباحًا ومساءً. أمّا وسط النهار وهو الحلقة الأهمّ فيه فقد شهد أبرز حدث من أحداث النهار كلّها وهو " زارها شيطان الشعر وكتبت قصيدة". يبدو هذا الحدث في ذاته غير متجانس مع زمن وقوعه، فالعصر من النهار هو زمن الذروة ويكون المرء فيه عادة مثقلًا بالمتاعب، منهك الجسد والروح ولا طاقة له على أيّ فعل حتّى يأخذ استراحة، ولكنّ بطلة القصّة بدت فيه في غاية الحيويّة إذ زارها شيطان الشعر، وشيطان الشعر في الثقافة القديمة لا يزور صاحبه إلاّ إذا كان في خلاء أي في انفصال كلّي عن بني جنسه، وهذا لا يكون عادةً إلاّ في آخر الليل. ومع ذلك حدث الذي حدث. وشيطان شعر يأتي في غير موعده سيكون حتمًا شيطانًا مفلسًا لا مبدعًا، وكذلك الشعر إذا ورد في غير سياقه، ونلمح النتيجة واضحة في عبارة "كتبت قصيدة رديئة". إنّ هذا الحدث البارز المتمثّل في زيارة شيطان الشعر وفي ميلاد القصيدة الرديئة لم يكن في الحقيقة ناتجًا عن سلسلة الأحداث التي سبقته بقدر ما هو تتويج لها؛ أي هو حدث أقصى في سلسلة الأحداث الاعتباطيّة التي اقترنت به، والأفظع من ذلك أنّه سيكون سببًا في نشأة سلسلة من الأحداث الأخرى أكثر رداءة منه، وهو ما رأيناه في تعليقات المعجبين وفي رسائلهم الخاصّة. وبهذا المنطق بوجهيه الزمني والسببي تنشأ قصّة جديدة بعد أن طُويت قصّة الحبّ الأولى بسرعة. فالقصّة الأولى التي نشأت في العالم الحقيقيّ واتّسمت بطابعها الروحاني الثاوي تحت لفظي المراهقة والحبيب، كما تحت لفظي الخسران والنسيان، رأيناها تسقط وتفسح المجال لنشأة حبّ جديد، ولكن في العالم الافتراضي هذه المرّة. وبين التجربتين فوارق كثيرة، فالتجربة الأولى كانت مع واحد في أمد نعتقد أنّه طويل، أمَّا الثانية فهي مع كثيرين وفي وقت واحد. وموضوع الحبّ في الحالتين هو هذه المراهقة. فما الذي جعلها تنتقل بهذه السرعة من تجربة في الحبّ مفعمة بالأحزان والأوجاع والمشاعر الجيّاشة إلى تجربة في الحبّ من نوع آخر يغلب عليها الرغبات؟
• خلف هذا التقابل بين الحبّ في العالم الحقيقي والحبّ في العالم الافتراضي نلمح تقابلًا بين زمنين اثنين. فزمن الحبّ في عالم الحقيقة هو الأمس ليلًا (ليلة أوّل أمس/ ليلة أمس) وهو زمن من ليلتين اثنتين شهدنا فيهما نهاية قصّة الحب في العالم الحقيقي على مرحلتين، مرحلة أولى تمّ فيها الخسران (خسرت حبيبها) ومرحلة ثانية تمّ فيها النسيان. وبين الخسران والنسيان فارق بعيد يختزل كمًّا هائلًا من المشاعر التي انتابت بطلة القصّة، ففي لفظ (خسرت) اختزال لمعاني الوجع والألم والفقد، وفي لفظ (نسيت) اختزال لمعاني الخلاص من كلّ تلك المشاعر. لفظان متقاربان دلاليّا، إذ الخسران والنسيان يكونان في الغالب متعاقبين في الزمان ويُفترض أن تكون بينهما مسافة زمنية طويلة، إذ لا يقدر الإنسان العاديّ على تجاوز آثار الخسران النفسيّة إلاّ بعد أمدٍ طويل، ولكنّ بطلة القصّة تخلّصت من هذه الآثار في أمد وجيز جدّا هو الزمن الممتدّ بين ليلة أوّل أمس وليلة أمس. فهل يعني ذلك أنّها امرأة قويّة وقادرة على اجتياز تجربة الحبّ في ظرف قياسيّ؟ أم يعني أنّ تجربة الحبّ التي عاشتها مع حبيبها في عالم الحقيقة تجربة هشّة وسطحيّة لذلك سهل عليها التخلّص منها؟ الأرجح في اعتقادنا أنّها تجربة هشّة وسطحيّة والقرينة الدالّة على ذلك هي عبارة المكالمة الهاتفيّة الطويلة. في هذه العبارة إشارة ضمنيّة إلى نوع التجربة التي عاشتها المراهقة مع حبيبها، فهي على الأرجح قصّة حبّ عن بُعد، أي عبر الهاتف دون لقاء مباشر بين الطرفين. وحين يكون الحبُّ على هذه الشاكلة يكون التواصل بين المراهقة وحبيبها تواصلاً لفظيًّا ويكون الحبّ بينهما حبًّا في حدود الرسائل دون تقارب أو تلامس، وهو إذن حبّ بلا أساس ماديّ. قد يكون هذا النوع من الحبّ عُذريًّا لا يعيش إلاّ في حدود اللغة، وقد يكون في المقابل حبًّا سطحيًّا عابرًا. معنيان اثنان لم يساعدنا الراوي على تمييز أحدهما من الآخر، ولكنّه أودع في النصِّ مفرداتٍ قد تساعد على ذلك. ففي لفظي(مراهقة) و(حبيب) ما يرجّح الذهاب إلى معاني الحبّ العذريّ بكل ما فيه من العفّة والصدق والحلم. نقول ذلك لأنّ لفظ مراهقة يحيل على لحظة من لحظات العمر تتّسم نفسيًّا بمشاعر فيّاضة تميل في الغالب إلى المثاليّات والروحانيات والأحلام، وهي إذن لحظة الذهاب بعيدًا هربًا من ثقل الواقع المعيش وثورة عليه وتمرّدًا على قوانينه. وبهذا تكون تجربةُ الحبّ في عالم الحقيقة تجربةً روحانيّةً، وما يعزّز بعدها الروحاني هو أنَّها جرت بين اثنين متباعدين جسديًّا متقاربين لغويًّا. ويأتي لفظ الحبيب في هذا السياق ليعزّز المعاني المستفادة من لفظ المراهقة، فالحبيب لفظ من حقل معجميّ ميّز الثقافة التقليدية واقترن خصوصًا بتراث الشعر العذريّ، وما يحيل عليه من معاني العفّة والصدق. قصّة حبّ روحانية نعم ولكنّها هشّة، ولعلّ ضعفها وهشاشتها من كونها ظلّت كذلك أي قصّة حبّ عن بعد، وهو ما سهّل على المراهقة نسيان الولد. والطريف في هذه القصّة أنّها نشأت في العالم الحقيقي دون أن تكون حقيقيّة بالمعنى الأتمّ، وقد اختار الراوي أن يقدّمها لنا مقترنة بالليل باعتباره زمن الخيالات والأوهام والأحلام. فهل يكون الحبّ الصادق العفيف مجرّد حلم عابر من أحلام الليل، فإذا طلع النهار تبخّر؟ الأرجح أنَّه كذلك.
• مقابل قصّة الحبّ الحالمة في العالم الحقيقيّ التي شهدنا انهيارها التام، تستعدّ البطلة كي تعيش قصص حبّ ثلاث نشأت دفعة واحدة في العالم الافتراضيّ، وستكون كلّها في زمن مضادّ لزمن القصّة الأولى وهو النهار. أمّا القصّة الأولى فستكون في صبح الغد وهو أوّل النهار، ومع "فتى أعجبها شعره" وفي مكان مجهول لم يوفّر الراوي أيّ معلومة عنه وهو ما يجعل اللقاء المرتقب لقاء مشبوهًا. وتأتي الشبهة من عدم الإفصاح عن مكان اللقاء أوّلًا ومن ملامح الفتى ثانيًا. إنّه فتى بشعر منتصب وشعيرات في الصدغين، وهو ما أثار إعجاب المراهقة به. صورة مركّبة من عنصرين متضادّين، فلفظ الفتى في لغة الشعر القديم خاصّة لا يعبّر عن حداثة السنّ ويعبّر في المقابل عن خصال حميدة في الرجل؛ وهي الشجاعة والمروءة والأدب. ولكنّ الراوي سلب من الفتى كلّ هذه الخصال حين نعته بصاحب الشعر المنتصب والشعيرات القليلة في صدغيه. إنّه إذن رجل قد سُلبت منه معاني الرجولة، وهو إلى الأنوثة أقرب، والدليل على ذلك أنّه يتزيّن فيصفّف شعره تمامًا كما تفعل الفتيات، وفي صدغيه شعيرات قليلة وتلك علامة على عدم الاكتمال في الذكورة، وهو إذن في صورة مخنّث.
• وأمّا القصّة المنتظرة الثانية فلا تختلف كثيرًا عن سابقتها، فهي على طاولة غداء مع رجل أعمال. قد توحي كلمة رجل الأعمال بمعاني الرجولة المكتملة ماديًّا ومعنويًّا، ولكنّ المعلومة التي وفّرها الراوي عنه تسلب منه كلّ ذلك، إنّه "يشتغل في العطور المزيّفة" وهو إذن مثال للرداءة في القيم ورجل مزيّف ويستمدّ هُويته من فعل التزييف الذي يصنعه. وكذلك القصّة المنتظرة الثالثة، فهي مع "عاطل عن العمل يقود سيّارة ثمينة" هو أيضًا رجل مزيّف إذ لا يُعقل أن يكون لمن لا عمل له سيارة، فضلًا عن أن تكون سيارة ثمينة. ثلاث قصص متوقّعة ستنقل تجربة الحبّ التي نشأت في عالم افتراضيّ إلى عالم حقيقيّ، كلّه زيف ولا معنى فيه للرجولة أصلًا، ومع ذلك فالمراهقة مقبلة عليها بنهم شديد، يظهر أوّلًا في كثافة التجارب ويظهر ثانيًا في تعدّدها، وثالثًا في تنوّع أطرافها وتبدّلهم.
• هل تعني هذه النقلة من الحبّ في العالم الحقيقي إلى الحبّ في العالم الافتراضي شيئًا بالنسبة إلى بطلة القصّة؟ إذا فكّرنا في هذا السؤال من وجهة نظر العقلاء فسنحكم على البطلة بأحكام سلبيّة، وسنشتقّ من لفظ المراهقة الذي سُمّيت به معاني الطيش والاضطراب والانخداع السريع بالمظاهر، وهذا واضحٌ جدًّا في سلوكها مع الرجال الثلاثة، وفي نهمها الشديد إلى أن تعيش حبّا في صيغة مآدب غداء متلاحقة في أماكن مجهولة، وإن كانت معلومة ففي سيارة ثمينة، وحبّ بهذه الصيغة لا يكون إلاّ رغبات جسدية بخلاف ذلك الحبّ القديم الذي بدا لنا كأنَّه حبٌّ عفيفٌ يعني الروح لا الجسد.
• أمّا إذا فكّرنا في السؤال نفسه من وجهة نظر الراوي فسنبدي تعاطفًا مع بطلة هذه القصّة رغم كلّ ما في النبرة القصصيّة من سخرية وتهكّم. فهذه المراهقة بدت في عمق الصورة ضحيّة نظامين اثنين في الحياة لم تقدر على التخلّص منهما لبناء ذاتها. فهي أوّلًا ضحيّة نظام قديم الحبّ فيه لا يعدو أن يكون كلمات يتبادلها العشّاق عن بعد دون أساس حقيقي متين يقوّيه، ولا يعدو أن يكون أحلامًا وأوهامًا نعانيها ليلًا بعيدًا عن الحبيب، فإن تواصلنا يكون الخصام. ذلك هو الحب في صيغته العذرية التي عاشها جميل مع بثينة وعاشها المجنون مع ليلاه. وكانت نتيجتها الخسران؛ فجميل تشرّد وعاش في منفاه هربًا من القتل، والمجنون سكن الصحارى ونفر من الإنس. أمّا بطلة القصّة فانغمست في شكل معاصر من أشكال المنفى والجنون؛ وهو الحب في العالم الافتراضي بديلًا عن الحب في العالم الحقيقي. وهي إذن ضحيّة نظام جديد في الحبّ والحياة لا معنى فيه إلاّ للمادة في أبشع تجلّيتاها؛ وهي الثراء الفاحش دون عمل يُبذل، وإن بذل العمل ففي صيغة فاسدة، وهو ما لاحظناه في صورة رجل الأعمال الذي يشتغل في العطور المزيّفة. وبهذا تكون بطلة القصّة بطلة سلبيّة قد وقعت ضحيّة نظام استهلاكي واغترّت بكل ما فيه من مظاهر خدّاعة؛ فسقطت إلى الحضيض.
3. الخاتمة:
حبّ، هي قصّة قصيرة جدّا لم تتجاوز الثلاثة أيام، ولكنّها تختزل قصّة شخصيّة تخلّصت سريعًا من زيف سابق لتقع في زيف جديد أشدّ وطأة من الزيف الأول. ولم يكن خلاصها في الحقيقة نتيجة مجاهدة روحية وعقليّة بقدر ما كان نتيجة انخداع، وهو ما جعل الخلاص خلاصًا زائفًا هو الآخر؛ لأنّ البطلة وقعت في فخاخ نظام استهلاكي صار الإنسان فيه سلعةً معروضة بعلامات إشهارية كاذبة. وليتها إذن ظلّت حبيسة نظام الحياة القديم حين كان للروح معنى، وللحب معنى، وللوجع والألم معنى. هل نقول عن هذه القصّة إنّها قصّة الخروج من الوهم الذي يُحيل إلى الحقيقة التي تقتل؟ للأسف الجواب هو نعم، وتلك هي أحكام الزمن