د.حسين طه محادين
أستاذ علم الاجتماع- جامعة مؤتة
لقد انشغل الباحثون والمؤرِّخون في عمليّة توثيق المراحل التطوريّة للغات البشريّة كقاعدة أساسيّة لبناء الثقافات والحضارات بقيادة الإنسان المغامر، كمروِّض لنزق الطبيعة بعلمه وبإبداعه المنحاز لقيم الحياة المغالبة لحتميّة الموت انطلاقًا تاريخيًّا من:
- المرحلة الصوتيّة الشفاهيّة للتَّخاطب عبْر الرُّموز الجسديّة "الإشارات" والتوافقات الصوتيّة لمخارج الحروف والمعاني المشتركة بين المتفاعلين.
- المرحلة التدوينيّة؛ أي بعد اكتشاف الكتابة وأبجديّاتها، من هنا كانت –وباجتهادي- البداية الأولى لظهور "الرَّسم بصري" للحروف وللكلمات، كبُعد جديد لحفظها والتوسُّع في استخدامها بين المتعلّمين فقط؛ ما سهَّل تنامي فرص تعلُّمها ونشرها بين الأجيال كأداة للتفكير ووسيلة للتعبير؛ الأمر الذي عمل على استدامة التواصل بين شعوب الأرض كل بحسب هويّته وخصوصيّة لغته، فلغتنا العربيّة (لغة القرآن الكريم) نجحت في استيعاب المستجدّات التقنيّة والتغيُّرات الحياتيّة؛ على الرّغم ممّا تحتاجه من تطوير ومواكبة للمستجدّات في هذا العالم الذي غدا بحدود الهاتف الخلوي في كفِّ أيٍّ مِنّا، ونجحت أيضًا في توافق أهل اللغة ومجامع اللغة العربية على دقة مفهوم "العولمة" الحداثي ودلالاته الجديدة كليًّا في قاموس فكرنا ولغتنا بالمقارنة مع مصطلح "الكونَنَة" الذي كان مقترحًا للتعبير عن حجم وعمق التغيُّرات الفارقة التي صاحبت تطوُّر مفهوم العالمية universalإلى العولمة globalization كأيديولوجيا جديدة بعيد تسعينات القرن الماضي للآن.
• ثقافة الصورة وما بعدها
أقول: لقد نجحت الرأسماليّة العالميّة في إقصاء القطب الاشتراكي ممثَّلًا بالاتحاد السوفييتي عن ثنائيّة القطبيّة السابقة؛ فظهرت العولمة (الأرض والفضاء) بشكلٍ طاغٍ من خلال التّقانة "التكنولوجيا" التي سهَّلت بدورها عملية النَّمذجة البصريّة للبشريّة، التي قادتها تماهيًا مع ما تمثّله سيادة الصورة من سلطة معرفيّة وثقافيّة آسرة على حواس المتلقي المتعلم وغير المتعلم معًا. وهذه ميزة نوعيّة وكميّة جديدة تفرَّدت بها الصورة عن الأبجديّات السابقة وتعميم القيم الفرديّة أفكارًا وحريّةَ مُشاهدةٍ لحظيةٍ ملوّنةٍ، على العكس من طبيعة الأبجديّة/ات ذات الرَّسم المحصور في الناطقين بها فقط، لذا أصبحت بأمَسّ الحاجة إلى تحديثٍ عميقٍ لبنيتها ووظائفها.
• الإنترنت الأمّ الثّانية للعلوم
تاريخيًّا وُصفت الفلسفة بأنَّها أُمّ العلوم الأولى منذ انبلاجها في العصور اليونانيّة القديمة؛ أمّا الآن فبوسعي القول إنَّ شبكة الإنترنت المعولمة والتي استندت إلى فلسفة جديدة هي الأمّ الثانية للعلوم عبْر توظيفها لنظريّة الحداثة وما بعدها: شعبيّةً واقتصادًا؛ لذا نلاحظ بوضوح تام أنَّ ثقافة الصورة كتنظيم فكري وبصري مباشر قد تفرَّد عمّا سبقه من أدوات التواصل كونه قائمًا على مشاعيّة التداول حدّ الإدمان؛ لذا أخذت ثقافة الصورة في تسيُّد المشهد والاهتمام الثقافي البشري العابر للجغرافيا والمعتقدات والأبجديّات التاريخيّة بعد انتشار أدوات التواصل التقاني المتدرِّج منذ بداية سبعينات القرن الماضي وصولًا لعام 1992؛ وهو تاريخ نجاح إطلاق أوَّل منصّة بثّ مدمجة للُّغة مع الصَّوت والصّورة ترابطًا مع ظهور كل من "الفيس بوك" و"اليوتيوب" بداية الألفيّة الثالثة والتي أضعفت بدورها علاقة الإنسان مع كل من: المكان، الماضي، والأفكار الأخلاقيّة التي كانت تؤمن بالخصوصيّة؛ حتى تلك السِّلع التي كانت مُعمِّرة غدت الآن ذات استعمال لمرَّة واحدة عمومًا.
• دكتاتوريّة جديدة
تاريخيًّا، كان الإنسان محكومًا بدكتاتوريّة بعض الحُكّام والسُّلطات الثقافيّة ممثَّلة بالعادات والتقاليد إرضاءً للآخرين وللحفاظ على عضويّته غير الطوعيّة ضمن الجماعة التي يشترك معها في الجغرافيا والتاريخ والعادات الخاصة في المجتمعات المحليّة والقوميّة كجزء من امتثالِه للقيم الجماعيّة عمومًا. لكنَّ الإنسان المعاصر قد غفل –باعتقادي- عن أنَّ الصورة تمارس عليه ومعه أيضًا دكتاتوريّة خاصة على حواسّه؛ فالدِّراسات العلميّة تشير إلى أنَّ الإنسان يتلقّى ما يقارب 80% من معارفه عبر حاسّة البصر وأنَّ الحواس الأربع الأخرى تتقاسم النسبة المتبقية.
وعليه؛ يمكن للمُهتمّ فهم وتحليل مبرِّرات صعود واتِّساع سيادة هذه الدكتاتوريّة الطوعيّة الآسرة للإنسان؛ وهكذا يمكننا أيضًا معرفة وتفهُّم كيف أنَّ هناك عبقريةً هادفةً وفاعلةً لدى مفكِّري وقادة العلم والأيدولوجيا في منظومة العولمة التي عملت على إعادة تشكيل وتبعيّة الثقافات الأخرى لتبنّي اللغة الإنجليزية المحمولة بالتكنولوجيا في مجتمعات الهامش العولمي مع فكرها الغالب ونموذجها الحياتي والاستهلاكي المظهري المُقلَّد حاليًّا من قِبَلِنا كمغلوبين حضاريًّا و"تقانيًّا" لدول المركز الغربي الغالب كما يرى العلامة ابن خلدون؛ إذ نجحت ثقافة الصورة في نقل الإنسان من كاتب وقارئ فاعل له لغته الخاصة إلى مُشاهد أسير يمتاز بالكسل المعرفي، فعملت على إضعاف الحِسّ النّاقد لديه جرّاء سطوة "ثقافة الصورة" المتسارعة التغيُّر بمحتوى وأهداف غير محايدة من قِبَل صانعها ومصدِّريها لنا عبر أدوات التواصل الاجتماعي، لتجسِّد الصورة نوعًا من الإغواء والإدمان للمُشاهد ليمارس ما يُعرف بـ"المُحاكاة" و"التقليد لِما شاهد"؛ إذ سيقوم المُتلقي باستدعاء وتقليد ما شاهدهُ من مَشاهد آسرة له لاحقًا، سواء أكانت مشاهد عنف أو حب، والتي خزَّنها في ذاكرته ذات المدى الطويل؛ وأمام هذه الدكتاتوريّة البصريّة ماذا نحن فاعلون؟