روح الكلام..!‏

 

قصة: حسين دعسة ‏

كاتب أردني

 

 

في هامش رسالتي، تعاركتُ مع شبح الأزرق، شوَّش ذهني، اختلط ورق اللعب، فتباينت ‏صخرات لاعبي الورق. أتابع مع صراخهم وهراء بعض الخاسرين. تتشابك ملفات كنتُ أعمل ‏عليها، هدوء مقلق، تنتشر الصِّباغ، أتحسَّس شاشة الأزرق بيدي، أحسُّ نبض الشفافة، أقول: أين ‏‏"حرير الروح"؟‏

أتذكَّر حبيبتي، أكتب لها عن كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، وممّا ضجَّ به الأزرق، قبل ‏الصَّدمة، أنني قلت:‏

‏-‏ هذه من أجمل أغاني فيروز التي أعشقها. ‏

‏"..وظلَّ المصطفى.. المختارُ الحبيبْ..‏

الذي كانَ فجرًا لذاتهِ..‏

ينتظرُ سفينتهُ.. في مدينةِ أورفيليسْ..‏

وفي السنةِ الثانية عشرة.. في السابعِ منْ شهرِ الحصادْ..". ‏

صرختُ، سواد يغتال شاشات الأزرق، ظلال اخترقت رصاصتها القلب. ‏

أتوقف... ألهث...‏

بكيتُ وحيدًا، متعبًا، ثم سمعتُ فيروز تؤشِّر بصوتها لي:‏

‏"..صَعِدَ إلى إحدى التلالْ.. ونظرَ صوبَ البحرْ..‏

ورأى سفينتهُ آتية.. فصلّى في سكونِ نفسه..". ‏

‏.. سفينتي تحترق، مَن ينقذني؟ ممدَّد على فراش عتيق، أترقَّب "حرير الروح"، غيابها ثقيل، ‏تشتَّت ذهني، تخيّلتُ أنَّ قدمها زلَّت وهي تمارس هواية المشي حدّ الشاطئ، والنهار غاضب في ‏شتاء قارس، عقلي لم يتحمَّل أن يقتصَّ منها النهر. ‏

شجرات النخيل تراقب. ظلال الأزرق تبدأ البثّ. يتجمَّع الباعة. يقترب الشرطي العجوز، يقول ‏إنها بخير، دخلَتْ النهر لتلعب مع الأسماك. ثرثرة الشرطي الخَرِف، جعلت قلبي يتوقف، دخلت ‏الماء، تمطر بقوّة، أمشي، تدعمني محبّة الله. كيف ميّزتُ الصّوت برغم الضّجيج وصراخ الباعة ‏وصخب البحر:‏

‏-‏ ‏"وأعبرُ البحرْ من غيرِ كآبة؟".‏

‏ رأيتُها تغرق، كانوا يهتفونْ: "لا تفارقنا..". ‏

مددتُ يدي، اقتربَتْ "حرير"، حملَتْها أعشاب البحر، وعلى ظهر موجات متتالية تشابكنا. ‏

تاه بنا بساط الريح. عيناها تطلقان كلّ شاشات الأزرق وهي تتناقل الحكاية. أحضُنُها، لعلّ قلبي ‏يعود إلى النبض. ‏

أحرِّك أيقونات، تبثّ لي شبح ما حدث في رأس السنة، أحس بالبرد، أيام ثقيلة، أين أنتِ..؟ ‏

‏-‏ أنا هنا، أنا هنا! ‏

يتمايل بنا البساط، شاهدتُ "علي بابا" يلوِّح لنا أنْ اهبطوا في داخل المركب، ريح صرصر، ‏موج أعلى من ظلّي، "حرير الروح" ترتجف، تعانقني لعلّها تصحو.‏

كتبتُ: الظلال متموّجة، صفحات تأكل غيرها. أصابَتْنا ونحن على ظهر البساط شرارةُ برق، ‏تلقّانا تجّار "علي بابا"، سقطنا معًا. ‏

كان صوت مراكبيّة "علي بابا"، التجار والسَّحرة والجواري، يطرقون خشب وسواري وأحبال ‏وكراسي المركب، يصعد صوتهم إلى أثر فجر غريب الملامح. ‏

‏-‏ بدأتُ أحفظُ أغنيتهم.‏

صعقني أنَّ الصوتَ لـِ"حرير الروح"، إذًا هي معي، لكن أين؟

تيقنت ذاكرة الأزرق ممّا سمعت:‏

‏".. يا بحور عسلهم ربّاني.. عطشان ياني.. يا بحور العين..". ‏

غامت صحوة المركب، شفاه "حرير" تتمتم: "ونظرة وحدة ترويني.. وتخلّيني.. أشبع سنتين

يا مين يوصلني لأبوها.. ولّا لأخوها.. وأدفع مَهرين". ‏

هاجت الحارة، توقف الغناء، تدافع الخلق، قالوا إنَّ البرق أصاب "علي بابا" في مقتل، وهو ‏يجاهد لكي يعيش. فزعت "حرير" وقفت، نزلت إلى منام الحارة، جسدها منقوع ببقايا عشب ‏البحر، ملوحة جففتها أوّل الشمس، تقدَّمَتْ، كنتُ مذهولًا ممّا أشاهد على صفحتي، أنا والأزرق ‏وعيون التجّار تتلصّص داخل الشاشة. ‏

‏- يا ربّ خير وعافية..‏

‏- "شو هالغياب المُقلق؟".‏

‏- "كنت مشغولة مع أخوي، يوم السبت والأحد عدّيت على بابا". ‏

‏- .....؟‏

‏- "لكن.. في حاجة غريبة، عندي إحساس إنّي مش عايزة أتكلّم!".‏

‏- ..... ‏

غابت شمس روحي، رفرف قلبي ثم همد. ‏

‏- صباح الخير..‏

‏- "شو اللي حاصل، مالك؟".‏

‏- "عايزة شويّة صمت..‏

‏   مش عارفة ليه..؟

‏   ما عنديش روح الكلام".‏

‏- واضح أنني السبب؟!‏

‏- "مش عارفة أحدِّد". ‏

 

سألتُ ظلال الأزرق، كيف أنقذَتْ "حرير الروح" علي بابا؟ ‏

مرَّ طيف مشبع بفتنة الأخضر، تقابلنا، سندت رأسها على صدري، الناس في حضن الشارع، ‏و"حرير" في حضني. ‏

عاتبتُها، لا أدري، قالت لي إنَّها فصدت دم علي بابا، البرق والصواعق أتلفت دمه.‏

حملنا، ثلاثة صناديق مذهَّبة، قال لـِ"حرير": "هي لكِ"، رفضَتْ بهدوء، سمع منها التجار، ‏وكبيرهم المُصاب بالدَّهشة:‏

‏-‏ نحن عشّاق، نرى بعين واحدة ونتنفّس برئة واحدة، ونتوسَّد خيالنا وننام على يد واحدة ‏إلى الصباح. ‏

ثم خصَّها علي بابا بماسة زرقاء، لها حكاية تناثرت كما ثرثرة وقت حريق. ‏

قلّبنا صناديق الهدايا، كانت ثقيلة بالمخطوطات من أشعار الهند والسند، وفيها كتب عن أسرار ‏الدفن والقبر حول البحار. لبسَتْ "حرير" قطعة من رقّ الغزال، مدبوغة بالمسك وصعقتني، فقد ‏سلبت ما تبقى من قلب مولع. ‏

تحمل قلادة من العقيق البنّي الغامض، رقصَتْ وتذكَّرَتْ أغنية الحارة.... "ونظرة وحدة ‏ترويني".. ولا أدري لماذا بكت؟

جنوني، مثل لحظة عشقها، تتنبّأ بالآتي، لا أريد أن أتنبّأ، ففي شاشتي هناك مَن يتنبّأ لي عن ‏عامي الجديد، قد أضحك ولكن لا أتجمَّل.. سأجلس على آخر مقاعد الحديقة الإسمنتيّة، أركّز ‏يدي، أجاور اليمامات وأهدل، أهدل، لن أكون وحيدًا.‏