خيري منصور: الصَّقر الذي ترك ريشه في الأعالي
محمد العامري
شاعر وفنّان تشكيلي أردني
كان خيري منصور يتحرَّك بأصابع عرّاف تجسّ مواطن الألم في المجتمعات العربيّة، ويستشرف الخسارات المؤكّدة في كتاباته التي تسبر أعماق الحراك الاجتماعي ومآلاته الخاوية... كان المتفرِّد في توقُّعاته، صاحب مبضع دقيق يجرح أعصاب تلك المجتمعات النّائمة ليوقظ فينا خطرها الدّاهم في السياسة والثقافة على حد سواء. لقد انعزل خيري في نهاراته ليكون ذلك الكائن الذي يحمل في ليله كلَّ أوجاع العالم... فأقدامه التي تهرب سرًّا تحت معطف الليل، تخبّئ كلَّ ظلاله التي التصقت على جدران النَّوم حين كانت الشمس تبحث عنه؛ شمس مريضة لا تدفّئ ركوة السؤال.
"الوهم هو أوَّل كلّ الملذات"- أوسكار وايلد
لم يترك لي جملةً صديقي المختلف خيري منصور إلّا وقَصَفَ مؤونتها كما لو أنه ذلك النبّاش الذي لا يضع قدمه في طريق سالك، يعشق وعورة المسالك؛ فهي بالنسبة له حبرٌ سريّ يتكاثف بين يديه ليدلقه على الورقة.
صيدٌ معرفيٌّ لم يطأه أحد قبله، يتعثَّر كي يقع على مساحة مهجورة في الفكرة، يبحث عن أفكار ضارّة في مجتمعات ثقافيّة ركنت إلى سهولة مُلفتة في التعامل مع القراءة على الأقل.
عرفتُه منذ العام 1994 في "غاليري الفينيق" الذي كان يعجّ بالمثقفين، يعني يعجّ بالحلم والسؤال، فكان لخيري سؤاله المفاجئ، في غالب الأمر يحوِّل الجلسة إلى مسارات مليئة بدم الكتابة الممهورة بتجارب سابقة في العالم مثل "بروست" و"كافكا" و"بول فاليري" وغيرهم، فهو كاحتراق السنديان في لحظات عزلته التي عبثت في فيزياء الليل والنهار، فكان نهاره ليل وليله نهار، ابن الليل المرقَّط بنجومه حيث تبدو له تلك السماوات كبئر مقلوبة تصبّ على خياله وجدًا صافيًا في في لحظة اشتباكه مع سؤال المدينة وسكّانها.
يعيش مع كائنات الكتابة العالية، تحديدًا مع "لورانس داريل" كوهم يشكل له وجاء من قسوة العالم وجهالته، حدَّثني عن "داريل" كثيرًا ورباعيّته وجزئها الأوَّل "جوستين" التي لم ترتوِ من الخطيئة في حياتها، فكان خيري تمامًا كـَ"جوستين" رحل ولم يرتوِ من خطيئة أسئلته في مفاهيم المثقف والسلطة وطبائع الكتابة الأقرب إلى نبتة تنمو في عواصف صاعقة.
نبتة الخطيئة الحلوة التي تعيش مرارتها الغائرة في التأرجع بين ثنائية السلطة والثقافة والخوف والحرية، واليأس والحنين، تعسف في اجتراحات مسارب جديدة في مجتمعات نيّئة لم تنضجع في سؤالها الوجودي، مجتمعات تغمّس خارج صحن المعرفة وتلهث خلف كرنفالية مليئة بالمساحيق الثقافية التي تسيل في لحظة سطوع شمس التحرُّر وتنكشف عوراتها المركَّبة، حيث تحتاج إلى شجرة بأكملها كي تلوذ سوءتها في تلك اللحظة الحرّة.
لقد انعزل خيري في نهاراته ليكون ذلك الكائن الذي يحمل في ليله كل أوجاع العالم، ولم يدرك يومًا ما في حياته، معنى واحدًا لفكرة المثقف في تلك البلاد، كأنه خلق ليكون هناك، فأقدامه التي تهرب سرًّا تحت معطف الليل، تخبئ كل ظلاله التي التصقت على جدران النوم حين كانت الشمس تبحث عنه، شمس مريضة لا تدفئ ركوة السؤال.
لم أنظر خيري سوى أنه شذوذ ثقافي يحتاج إلى فقيه شاذ يوازي ذلك الشذوذ في الأسئلة الخشنة، في اقتراح المشترك المنهجي الواقع والحلم، بكون المشترك قد يكون في قاع الشَّجن وتحوّلات الأسئلة إلى عزلات جديدة، على قدر ما يُتاح لنا من أوهام الحرية المؤطرة، وهنا أستشهد بقول يوسف إدريس: "إنَّ الحريّات المسموح بها في عالمنا العربي كله قد لا تكفي كاتبًا واحدًا".
فهو المبضع الذي يذهب مباشرة إلى الورم الثقافي كي يبقر عينه، ويُسيل منه ما تراكم من صديد فاسد لا يخلّف سوى روائح منزوعة منها أفكار العطر، يقول خيري:
"إنَّ العصا في ذروة وظيفتها الآن، أمّا الناي فهو مغمور بالرمال، وقد سملت الأصابع الأميّة ثقوبه".
كنتُ أحرص على لقائه ليلًا كعادته طبعًا، كونه يعطيني قيمة لتساؤلاتي ومناكفاتي المعرفيّة بيني وبينه، فكان وعرًا في تصديق الآخر، لكنه ينصدم ويندهش من مفارقات كنت أطارحها معه، إلى درجة أنه قال لي: "هل أنت من المصدِّقين في إمكانيّات حصول شيء هنا أو هناك؟"، فكرة أثارتني حين كنتُ لم أزل أؤمن بأنَّ من الممكن أن نفعل شيئًا في المسألة الثقافية، لكن للأسف أكتشف أنه كان على حق، وعرفتُ أسباب عزلته الممتلئة بذاته إلى حدّ اجتراح حكايات مع التُّحف التي تحيط به من كل جانب من جوانب مكتبه، وما كنّا نتساءل فيه يشكِّل فاتحة لجرح كبير، وسلطة معبَّأة بالالتباسات المجتمعيّة كونها تتحرَّك عبر مسارات الحذف والنفي والإقصاء كثقافة ترسَّخت في الضمير الشعبي بوصفها السائد الذي ينبغي أن يتحقق في ظروف ثقافة الاستقلال الواهم المدعوم بمتطلبات النص الثقافي والغناء وتمظهرات الدولة، وينطبق ذلك على مجمل المشهد العربي، لا يمكن لمثقف مثل خيري منصور أن يتورَّط بطاووسيّة الثقافة سوى أنْ يضع يده على موضع الألم؛ فهو العين الصقريّة التي ترصد فواصل الخلل التي تشير إلى زيادة منسوب الحرمان من حريّة اندملت في الذاكرة بسبب تعظيم العصا وتسمين الضحيّة.
***
لم تكن رحلة الحلم الذي حمله خيري بين أضلاعه المخططة بالحبر، بعيدًا عن مسقط ظلِّه، برحلة سهلة، فهو الكدُ الدؤوب في أفكار تكاد تكون انقلابيّة على مجتمع لا يدرك منفاه الاجتماعي، ولا يحسّ بفجيعة تطوّق عنقه يوميًّا، كان خيري يهرب من ذلك البؤس بالمشي نحو قاع المدينة، ربّما ليضيّع إيقاعات الألم بوقع الأصوات العالية للباعة، ففي كثير من الأحيان تشكِّل تلك الجوقات الصوتيّة والعشوائيّة مناخًا لنسيان مؤقَّت ربّما يُفرحكَ ولو بشكل واهم.
يذهب هاربًا هناك ليرمِّم لسان قلمه، في ممرّ ضيّق حيث يجلس معالج الأقلام خلف طاولة خشبيّة تشقّقت من سطوة الزمن، شخص ظلَّ يرمِّم الأقلام منذ أكثر من خمسين عامًا، يعرفهم خيري ويعرف أمكنتهم بدقة متناهية.
خيري الذي عشق حقائب الجلد والسيجار الكوبي "كوهيبا" وماركات القداحات تحديدا "ديبون" وأشكال الأقلام وألسنتها وصولًا إلى التحف صاحبة التاريخ التليد، وعكاكيز مغايرة للعرج، عكاكيز كانت تُحْمل كغواية لذلك الشخص وليس لخلل بأقدامه، عرفْتُه شغوفًا بتلك المناخات الأرستقراطية، كما لو أنه يريد أن يعيد تاريخ عائلته الإقطاعيّة في "دير الغصون" في فلسطين.
قدماه حيث تمشي باتِّجاهٍ منافٍ لا تنتهي، منفى الذات وغربتها في جهالة الدهماء وصولًا إلى "مطعم القدس" ثم صديقه "عمران الذهبي" ورفيق دربه "المهندس نبيل طوالبة"، ومحلّ الساعات الشهير وصولًا إلى محلات "الأنتيكا" أو ما تخبّئه تلك الأشياء من حكايات غرائبيّة، فهو كائن يبحث عن الزمن في تلك الأشياء، يحاول أن يستعيده عبر أثره على آنية خزفيّة من العصر الفكتوري، مرورًا بحسن أبوعلي الذي يقترح عليه كتبًا تهمّه.
كان خيري يتحرَّك بأصابع عرّاف تجسّ مواطن الألم في المجتمعات العربية، ويستشرف الخسارات المؤكدة في كتاباته التي تسبر أعماق الحراك الاجتماعي ومآلاته الخاوية، كنتُ أنتظر مقاله بفارغ الصبر كونه المقال المثقف الذي يبث في دواخلنا صورة مختلفة عن ما نقرأه في الصحافة العربية، كان المتفرِّد في توقعاته، صاحب مبضع دقيق يجرح أعصاب تلك المجتمعات النائمة ليوقظ فينا خطرها الداهم في السياسة والثقافة على حد سواء.
خسرناه كما خسرنا آخرين من قبله، لكنه ترك لنا كثيرًا من الرّيش في أعلى الجبل.