أحمد اللاوندي
شاعر مصري
عندما كان خيري منصور يكتب عن طفولته، فهو يتذكَّر المستقبل ولا يتذكَّر الماضي، لأنه يطلق ممكنات كانت في طفولته ولم تُتِح له الظروف عمليًّا أن يحقِّقها، لقد ظلَّ الطفل عائشًا فيه ولم يفارقه أو يفتقده أبدًا حتى في أوقات فرحه وحزنه، فأحيانًا كان يلوذ إليه وأحيانًا أخرى كان يحلّ له مشكلاته. قال مرَّة: "الأزمنة أربعة. ذهبي وفضي ونحاسي وقصديري. ودائمًا لدى الإنسان إحساس أنَّ الزمن الذهبي هو الذي مضى لأنه اكتمل، وعندما نشعر بالحنين إلى أمكنة عشنا بها في الماضي، هذه الأمكنة يضاف إليها سنوات العمر التي بُدِّدت فيها، هناك التباس واضح في التعامل مع الماضي، لأننا نحِنُّ ليس إلى الماضي المجرَّد إنَّما إلى (نَحْنُ) التي كانت متشكِّلة في ذلك الماضي وفي صبانا".
لن ننسى أبدًا رحيل الشاعر والكاتب خيري منصور في العاصمة الأردنيّة عمّان يوم الثلاثاء 18 سبتمبر 2018 وعن عمر يناهز 73 عامًا... ذلك الكاتب والأديب الذي حفر اسمه بحروف من نور في ضمير القرّاء من المحيط إلى الخليج، وذلك من خلال أطروحاته الجذّابة وعباراته الصافية وأفكاره المضيئة وشعره الرصين، وبعد تكريمه بجائزة الصحافة العربية بدبيّ كأفضل كاتب مقال، قال عنه محمود درويش: "إنه فنجان قهوتنا".
يُعَدُّ رحيل خيري منصور خسارة كبيرة للأدب وللثقافة العربية، فقد ظلَّ صادقًا متمسكًا بأفكاره وقيمه ومبادئه ووفيًّا لقناعاته حتى رحيله، كما عبّر عن القضية الفلسطينية التي أثّرت على نصوصه وعلى نتاجه الأدبي بشكل عام.
وُلد خيري منصور عام (1945) في قرية دير الغصون الواقعة قرب طولكرم في فلسطين، وأكمل دراسته الثانوية في الضفة الغربية، ثم درس المرحلة الجامعيّة في القاهرة. أبعدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي من الضفة الغربية عام (1967)، فسافر إلى الكويت ثم إلى بغداد، بعدها عاش في عمّان حيث كان يكتب عمودًا يوميًّا في صحيفة "الدستور" الأردنية، إذ كرَّس قلمه لبناء وعي عربي جديد. صدر له الكثير من الدواوين الشعرية منها: "ظلال" (1978)، "غزلان الدم" (1981)، "لا مراثي للنائم الجميل" (1983)، "التيه وخنجر يسرق البلاد" (1987)، "الكتابة بالقدمين" (1992). وله عدد من الكتب النقدية من بينها: "الكف والمخرز" (1980) وهو عبارة عن دراسة في الأدب الفلسطيني بعد عام (1967)، "أبواب ومرايا" مقالات في حداثة الشعر (1987)، "تجارب في القراءة" (1988).
إنَّ خيري منصور عندما يكتب عن طفولته مثلًا، فهو يتذكَّر المستقبل ولا يتذكَّر الماضي، لأنه يطلق ممكنات كانت في طفولته ولم تُتِح له الظروف عمليًّا أن يحققها، لقد ظلَّ الطفل عائشًا فيه ولم يفارقه أو يفتقده أبدًا حتى في أوقات فرحه وحزنه، فأحيانًا كان يلوذ إليه وأحيانًا أخرى كان يحل له مشكلاته. قال مرَّة: "الأزمنة أربعة. ذهبي وفضي ونحاسي وقصديري. ودائمًا لدى الإنسان إحساس أنَّ الزمن الذهبي هو الذي مضى لأنه اكتمل، وعندما نشعر بالحنين إلى أمكنة عشنا بها في الماضي، هذه الأمكنة يضاف إليها سنوات العمر التي بُدِّدت فيها، هناك التباس واضح في التعامل مع الماضي، لأننا نحِنُّ ليس إلى الماضي المجرَّد إنَّما إلى (نَحْنُ) التي كانت متشكِّلة في ذلك الماضي وفي صبانا".
عند كل حديث، كان خيري منصور يثني على قريته ويفتخر بأهلها ويصفها بأنها قرية جبليّة وعنيدة، يقول: كنتُ ذات يوم في زيارة لشاعر موسكو العظيم (رسول حمزاتوف) في بيته، ومن المعروف أنه نشأ في قرية أوصافها شبيهه جدًا بقريتي "دير الغصون"، فاستأذنتُ منه أن أستخدم عبارته الشهيرة التي استخدمها هو عن قريته الجبليّة لكي أصف بها قريتي، حيث يقول حمزاتوف:
"إنَّ مَن يولدون في القرى الجبليّة
لا ينحنون طوال حياتهم إلّا مرّتين
مرَّة لتقبيل طفل
ومرَّة كي يسقوا الحصان".
لقد عاش خيري منصور في أسرة لها عاداتها وتقاليدها التي كان لها أكبر الأثر على شخصيَّته وعلى كيانه، ففي عرس أخته الكبرى عندما زُفَّتْ كان صبيًّا، وبحسب التقاليد الموجودة آنذاك، كان من المفروض أن ترتدي العروس عباءة أبيها وتركب حصانه، وبالفعل حدث ذلك، وكان بيتهم على قمّة الجبل وله بوّابتان، واحدة عالية استطاعت أن تخرج منها هي والحصان، أمّا البوّابة الثانية فكانت واطئة قليلًا لم تستطع أن تخرج منها، فشدَّت لجام الحصان إلى الوراء، وهذا يُعدُّ فألًا غير حسن في ليلة الزواج، ثم قالت لأخيها الأكبر:
"إنني لا أستطيع أبدًا أن أنحني..
وأنا أخرج من بيتنا على حصان أبي"
فانفعل أخوها، وقرَّر في الوقت نفسه أن تُهدم البوّابة بالرّصاص، وقد حدث. يقول خيري منصور: "ولقد أُطلقت على هذه البوابة عدة طلقات ناريّة، وقتها كانت تكفي لتحرير القرية من الاحتلال". يا لها من عادات كانت تغرس سمات العزّة والكرامة في النفس، وما أجملها من قيم ظلّت تشكِّل بالنسبة لهذا الشاعر منجمًا خصبًا للتخييل الشعري، والإحساس بالذات تجاه العالم.
أحَبَّ الشاعر خيري منصور والده وتعلّق به بشكل جنوني يفوق الخيال، بل وأوشك أن يكون مرضيًّا، خصوصًا أنَّ أباه رحل في وقت كان خيري في أوج مراهقته، لقد شرب روحه مبكرًا، وعندما رحل أبوه بدأ يفتش عن بقايا ملامحه وعن رائحته في المكان، لدرجة أنه قال: "إلى الآن أتذكَّر رائحة التبغ في أصابعه، وأحتفظ بأشياء كثيرة منه في داخلي، وكلما تقدَّم بي العمر أشعر أنني أشبهه في كل شيء". أمَّا أمه فكان تعلقه بها لا يصل إلى مستوى تعلقه بأبيه بحسب قوله. كانت هي الوحيدة من نساء القرية التي يطلق عليها اسم (المدنيَّة) لأنها لا ترتدي ثياب القرية، وترتدي ثياب نساء المدن، وتلبس الكعب العالي، وهذا يفرض درجة من العزلة عليها وعليه أيضًا.
ذكر شاعرنا الراحل أنَّ شَعره في صباه كان طويلًا، وأنَّ أمه هي التي كانت سببًا في ذلك. وعندما دخل المدرسة كان النظام المُتَّبع في تلك الآونة أن يحلق التلاميذ رؤوسهم، ولمّا جاء الدور عليه بكى بكاء شديدًا وهرب من المدرسة وكرهها في البدء بسبب سياسة (القطعنة) هذه. تلك الأشياء، وغيرها، لم يستطع خيري منصور أن يتأقلم معها طوال حياته، فلم يرضَ بالإذعان أو بالخضوع لأيّ أمر مهما كانت النتائج.
لقد عمل هذا الأديب الفذّ في بغداد كمستشار لشؤون التأليف والنشر، بالإضافة إلى عمله في مجلة "الأقلام"، وهذه الفترة كانت من أجمل فترات حياته، إن لم تكن هي الأجمل على الإطلاق، وقد أضافت له الكثير، وتوفر له هناك أن يتصل بأساتذة كبار وبأكاديميين وبمؤرخين يصعب أن يجدهم في مكان آخر. فكان على صلة مباشرة بـعالم الاجتماع المعروف الدكتور (علي الوردي) و(عبدالوهاب البياتي) و(سعدي يوسف)، وآخرين. ذات مرَّة في أحد لقاءاته سمعتُه يصرِّح ويتحدث في شموخ: (إذا حُذِفَتْ مِنِّي بغداد أخسر كثيرًا كمثقف وكإنسان). رحم الله الشاعر خيري منصور، الذي يقول في قصيدته "تيه":
"كُنّا
إذا مرَّ النسيم
نسيم بحركِ نقرأ الصَّحراء فيه
كُنّا إذا امتدَّت إلينا خلسة كفّاك
نقرأ طالعًا لا نرتجيه
فنقول: هذا الليل أوّل صفحة لكتابنا
ونقول: هذا النّجم أغوى قارئيه
إذنِ اقتربنا من خواتم أرضنا
ولسوف نوغل في المدى
ويكون تيه".