محمد الحنتيتي
كاتب مغربي
في هذه المقالة يتوخّى الكاتب تحقيق غرضين اثنين: يتمثل الأوَّل في تحليل السلوك التديُّني عند المسلم العامي؛ بما يساعدنا على إدراك تصوُّره للدين والتقوى. أمّا الثاني فيتجسَّد في مقارنة هذا التصوُّر أولًا بفهم اليوناني القديم للدين والتقوى كما جاء في محاورة "أوطيفرون" التي كتبها أفلاطون، ثم ثانيًا الوقوف على مدى استيعاب العامي للمقصد الفعلي للتديُّن في الإسلام. ويلخِّص الكاتب ما قام به أفلاطون؛ من إماطة اللثام عن الفهم السطحي للتديُّن، ليدفعنا إلى استنتاج أنَّ التقوى ترتبط بالمعرفة كفضيلة تمكِّن الفرد من استحضار العقل أثناء تصرُّفاته بما يجعلها منضبطة لنموذج أخلاقي مطلق يهدف إلى تحقيق الخير العام للجميع.
• تمهيد
يُعَرِّف أرسطو طاليس Aristote (384ق.م- 322ق.م) الإنسانَ بالحيوان الناطق، وهذا ما يجعله، ودونًا عن جميع الكائنات، يفكرُ قبل الإقدام على أي سلوك، وغالبًا ما يأخذ تفكيره غايات أفعاله بعين الاعتبار، والتي تخضع إلى مجموعة من المحددات (ثقافية، دينية، اجتماعية، قانونية...). أمّا الأشخاص الذين يسلكون كما اتُّفِق، أي دون خلفية نظرية لسلوكهم، يمكن القول إنَّهم يخضعون للانفعالات مِثلهم مِثل الحيوانات، فتتدخَّل أعراف المجتمعات وقوانين الدول لردعهم.
ويعدُّ الدين من أبرز الأيديولوجيات التي تؤطر سلوك الفرد، فَيَتَوَجَّبُ على المؤمن أن يجعل سلوكه منسجمًا والقواعد التي وضعها الدين، عبر حساب ما يمكن أن يترتب عن تصرُّفه بطريقة نظرية قبل أن يمرّ إلى التطبيق، فإن تبدّى له أنَّ سلوكه يتوافق وما يسمح به الدين أقدم عليه، وإن ظهر له أنه مرفوضٌ أعرض عنه.
ومنه فإننا أمام تقديرات بشرية قائمة على إِعْمَالِ العقل، واستنتاج ما يمكن أن يترتب عن التصرفات. فالدين جاء في الرسالات السماوية على شكل قواعد كلية، ينبغي على الفرد أن يستنتج منها كيف يسلك.
وعلى الرّغم من أنَّ العقلَ أعدلُ الأشياء قسمة بين الناس، كما ذهب إلى ذلك رينيه ديكارت René Descartes (1596م-1650م)، فإنَّ الاختلاف بين أفكار البشر قائم، ومردّه -بحسب الفيلسوف نفسه- إلى طُرُقِ استخدام العقل، فينتج عن ذلك تفاوتات كبيرة في الفهم تجَاهَ الموضوع نفسه.
وعليه، فإنه ليس هناك فهمٌ واحدٌ للنصوص الدينية، فبالنسبة للقرآن كتاب المسلمين قد نجد ثلاثة تصوُّرات، إذا أخذنا بعين الاعتبار التمييز الذي قام به الفيلسوف المسلم أبوالوليد بن رشد (1126م-1198)، حينما بيَّن أنَّ القرآن يتضمَّن ثلاثة خطابات: الأوَّل خطابي تكثر فيه الأمثلة، والثاني جدلي يطغى عليه الحجاج، والثالث برهاني يستخدم لغة عقلانية محضة.
ونحن في مقالتنا هذه سنحاول أن نحلل السلوك الديني للمسلم العامي لنكشف عن تصوُّره للدين والتديُّن، مستنيرين في ذلك بمحاورة موسومة بـ"أوطيفرون" كتبها أفلاطون Platon (428ق.م- 348ق.م)، كان لها الهدف نفسه، وتوصَّلت إلى نتائج مكّنته من تكوين صورة واضحة عن طريقة تمثُّل اليوناني القديم للتديُّن والتقوى، هدفٌ نسعى نحن أيضًا إلى بلوغه، حتى إنْ تمكَنًّا من ذلك قارَنًّا ما إذا كان فهم العوامِّ من المسلمين للتديُّن يتماشى وما يحفظ للدين والعبد قيمتهما.
لكل هذا ستحاول مقالتنا أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما هي أهم الأفكار التي توصَّل إليها أفلاطون في محاورته "أوطيفرون" بخصوص فهم اليوناني القديم للتديُّن والتقوى؟ وكيف يَتَمَثَّلُ المسلم العامي، في عصرنا هذا، التديُّن؟ وهل هناك تشابه بين فهمه وفهم اليوناني القديم؟ وهل يتوافق تَمَثُّلُهُ ذاك والغاية الحقيقيّة للدين؟
• تلخيص محاورة "أوطيفرون"
يُحَاوِرُ سقراط رجلَ دينٍ يدعى أوطيفرون التقاه في رواق الحاكم الملك(1)، ومدار الحوار بينهما حول تعريف مفهوم التقوى، وقد كان سبب مجيء الأوَّل ادِّعاء عام(2) رُفع ضدّه من طرف شاب مجهول يدعى ميليتوس(3)، بينما جاء الثاني متّهِمًا أباه بقتل عبدٍ عن غير قصد.
ولمّا علم سقراط بذلك، طلب منه أن يعلّمه من علمه الواسع، لعله ينفعه في إبطال ما رُمِيَ به؛ من أنه فاجرٌ ملحدٌ مفسدٌ للشباب. فسأل رجل الدين المعتدّ بنفسه والمتفاخر بعلمه: ما هي التقوى في رأيك وما هو الضلال؟(4)
ليجيبه بأنها فضيلة ترتبط بالمجال الديني، وتتمثل في الوشاية بالظالم حتى لو كان أقرب الناس منك، عكس الفجور الذي هو السكوت عن الحق، فَـ"زوس وهو خير الآلهة وأعدلهم [...] قيد أباه نفسه، لأنه كان يلتهم أبناءه بغير عدل"(5).
يُبدي سقراط امتعاضه من هذه الحكايات الشائعة عن الآلهة التي لا تتفق ومفهوم الألوهية، ثم يرفض هذه الإجابة، لأنها لا تشير إلى ماهيّة المفهوم، بل تقدِّم مثالًا عن فعل تقي، في حين أنه يبحث عن المعنى العام للكلمة، الذي يصدق على مجموعة من الحالات الجزئيّة المشابهة(6). فيعيد أوطيفرون إصلاح تعريفه واعتبار التقوى هي ما كان محبوبًا ومقبولًا من الآلهة(7).
يدحض سقراط بسهولة هذا التعريف، لأنَّ الآلهة، كما تحكي الأساطير اليونانية(8)، غير متفقة فيما تحب أو تكره، فمفهوم التقوى الذي يوافق عليه زوس باعتباره معاقبة الظالم، يرفضه أورانوس وكرونوس كونهما ظالمان.
ويحاول أوطيفرون الإفلات من المأزق الذي تسببت فيه له أسئلة سقراط الحرجة، حيث يخبر هذا الأخير أنَّ الظالم لا يعترف بظلمه، وإنَّما ينكره، وهذا ما فعلته الآلهة، التي تختلف حول مفهوم العدل ومفهوم الجور.
لذا يُعدّل سقراط تعريف أوطيفرون، بحجّة أنه يحاول فهم مُحاوَرِهِ، الذي يدَّعي بأنَّ هذا التعريف نفسه الذي كان يقصده، بحيث يكون أنَّ ما يجمع الآلهة على كرهه فهو فاجر، وأنَّ ما يحبونه تقيّ مقدَّس(9).
ويشرع سقراط في فحص جواب محاوَرِهِ، عبر محاولة تَبَيُّن لمن الأسبقيّة؟ هل يسبق حب الآلهة المقدَّس أم يأتي بعده؟ وبتعبير آخر، هل تحب الآلهة ما هو مقدَّس أم أنَّ ما تحبه الآلهة يصبح مقدسًا؟ أيهما السبب وأيهما النتيجة؟
فيكون جواب أوطيفرون هو أنَّ ما تحبه الآلهة يصبح مقدسًا، وبالتالي فحب الآلهة سابق على القدسيّة. فكرةٌ يُبَيِّنُ لنا سقراط خطورتها، لأنه ما على المرء إلا أن يستميل حب الآلهة بالصلوات والقرابين كي تصبح جميع تصرُّفاته مقبولة حتى لو كانت ظالمة للذات وللآخرين. وهنا يتهم أوطيفرون سقراط بأنه هو السبب في اضطراب براهينه.
فيقترح عليه فيلسوفنا المساعدة لبلورة تعريف جديد، عبر البدء بطرح هذا السؤال: هل العدل والتقوى شيء واحد أم أنَّ التقوى جزء من العدل؟ أوليس ما هو عادل تقي بالضرورة؟ ثم يقدِّم شعرًا يمجد زوس، مضمونه: أنَّ الناس يقدسون هذا الإله لأنهم يخافونه، ويُفَنِّدُ هذه الفكرة، لأنَّ الناس يخافون من المرض لكنهم لا يقدسونه، فليس دائمًا سبب التقديس هو الخوف، وإنما العكس؛ الخوف ناتج عن التقديس، وبهذا فالعدالة كفكرة مقدَّسة سابقة عن التقوى كخوف واحترام لما هو مقدَّس.
ومنه يرى أوطيفرون أنه إذا كانت التقوى ذلك الجزء من العدالة الذي نخدم به الآلهة، فإنَّ باقي أجزاء العدالة نخدم به الصالح العام للناس، أي السياسة والأخلاق.
ولغاية اختبار مدى متانة هذه الفكرة الجديدة، يسأل سقراط محاوَرِهِ عن المقصود بالخدمة، هل هنا نتحدَّث عنها بالطريقة نفسها التي نتحدَّث بها عن خدمة البشر لحيواناتهم؟ فخدمة الجياد سياستها، وخدمة الكلاب الاعتناء بها... وهذه الخدمة تكون لصالح الحيوانات، فهذا المفهوم للخدمة يؤدّي إلى نتائج خطيرة، تجعل الآلهة هي مَن تحتاج البشر، والشعائر الدينية تقول العكس.
ينفي أوطيفرون أن يكون هذا هو مقصده، بحجة أنه يتحدَّث عن تلك الأنواع من الخدمات التي يؤديها الخدم لسادتهم، فالخدم هم من يحتاجون السادة أكثر مما يحتاج السادة الخدم. وتتمثل الخدمة التي يؤديها البشر للآلهة في تقديم القرابين والتضرُّع بالدعاء وهي لا تفيدهم بقدر ما تسرُّهم، لأن غريزة الآلهة تقضي عليهم أن يُعبَدوا من طرف البشر، والصلاة بهذا المعنى تصبح نوعًا من التجارة فيها أخد وعطاء، حيث يبادلها الآلهة بمنحهم الصحة والرزق والسداد للمصلين.
لا يوافق سقراط على هذا التعريف، لأنه ينطوي على فكرة تجعل الآلهة هي مَن تخدم البشر، وتجعل هذه التجارة ضيزى، فالبشر لا يقدِّمون شيئًا يُذكر للآلهة ويربحون الكثير، فكيف يمكن أن نساوي بين التراتيل والمال الوفير؟!
إنَّ هذه التجارة هي لصالح البشر، وتسقطنا في فكرة جعل الآلهة كائنات وُجِدت فقط لخدمة البشر، الذين يعودون إلها بالتضرُّع والدعاء فقط حينما يريدون الحصول على شيء ما، وآلهة مثل هكذا شكل لا يعوّل عليها، فهي كالأداة التي نستخدمها في دور محدَّد، ثم نضعها في مكانها إلى أن نحتاجها مرة أخرى، وهنا يبلغ الكلام منتهاه، حيث يستأذن أوطيفرون منصرفًا لضيق الوقت، وهذه حجّة واهية والسبب الحقيقي هو أنَّ سقراط عرّاه وكشف جهله وفهمه القاصر للدين والتديُّن.
وهكذا نكون قد لخَّصنا ما قام به أفلاطون؛ من إماطة اللثام عن الفهم السطحي للتديُّن، ليدفعنا إلى استنتاج أنَّ التقوى ترتبط بالمعرفة كفضيلة تمكِّن الفرد من استحضار العقل أثناء تصرُّفاته بما يجعلها منضبطة لنموذج أخلاقي مطلق يهدف إلى تحقيق الخير العام للجميع. فما هي يا ترى حقيقةُ فهمِ المسلم العامي للدين والتديُّن في زماننا هذا؟
• تحليل السلوك التديُّني للمسلم العامي
نحيط القارئ علمًا أننا لا نتحدَّث عن الدين كما هو محفوظ في القرآن الكريم، وإنَّما عن التديُّن عند المسلم العامي، الذي يكوِّن تصوُّره عن هذه الممارسة إمّا: عن طريق قراءته الخاصة للنصوص، أو عبر الاستناد على ما ينشره الدُّعاة والأئمّة، ولعلَّ الفرضيّة الثانية هي التي يلجأ لها السَّواد الأعظم من عوام المسلمين.
ويمكننا أن نكوِّن فكرة تقترب من حقيقة فهم العامي للدين انطلاقًا من تحليل سلوكه التديُّني، فالإنسان، كما صرَّحنا من قبل، يسلك بناء على خلفيّة فكريّة ترسم معالم تصرُّفاته، وهكذا تبينُ الملاحظة أنَّ العامي يركز كثيرًا على طُرُق العبادات، وقد يصل هذا التركيز إلى غاية التشدُّد بخصوص التفاصيل الدقيقة حول كيفيّة أداء الطقس الديني (طريقة الوضوء، كيفيّة الصلاة، أسلوب اللباس، حلاقة الشعر، إعفاء اللحية، عادات الطعام، أسماء الأولاد...).
وإنْ تكلَّم عن الأخلاق تحدَّث عنها في إطار وقائع حدثت في الماضي للسلف الصالح بمعزل عن المناخ العام الذي أنتج تلك الوقائع، وأثّرَ في القرارات المتخذة بخصوصها، فيترتب عن ذلك أمران اثنان:
أمّا الأوَّل عجز العامي على النفاذ إلى المقاصد الحقيقيّة للتديُّن، حيث يحصره في الاهتمام المفرط بالشكليّات، فتُؤدَّى العبادات بطريقة ميكانيكيّة في تغييب واضح للعقل، وهذا ما لا يوافق عليه الدين نفسه كما سنبيِّن بعد قليل.
وأمّا الثاني عيش هذا المؤمن العامي في تلابيب رجال من زمن غير زمانه، ومحاولة محاكاة سلوكاتهم، وهي سلوكات مرتبطة ببيئتها وخاضعة لها، ومرهونة بشروط سياسية وثقافية وأيديولوجية واقتصادية خاصة بعصر السلف، ولا يمكننا أن نجد كلمة لوصف ما يقوم به العامي هنا غير القول بأنه تصرُّف رجعي.
ويُسَجَّلُ كذلك أنَّ التديُّن عند الجمهور تحوَّل من عبادة إلى عادة، فالعامي قد لا يكترث للعبد الذي لا يصلّي، بالرغم من أنَّ الصلاة هي عماد الدين وهي ثاني أركان الإسلام، بينما يؤاخِذ العبد الذي لا يصوم، لذا يخاطر بعض المسلمين المرضى بالصَّوم خوفًا من لمزات المجتمع.
ولعلَّ الدليل الأوضح على هذا التحوُّل؛ ما أضحى يقع خلال عيد الأضحى، حيث إنَّ مجموعة من العباد، خوفًا من سلطة المجتمع، يلجؤون إلى الاقتراض للقيام بهذه السنّة (الأضحية)، وقد يكون القرض مقابل فائدة، فأيّ عبادة هذه التي تتمّ عن طريق اقتراف إثم الربا؟
وهكذا نستنتج أنَّ التديُّن، الذي يركِّز كثيرًا على الطقس التديُّني دون استحضار العقل، يقف عند حدود ظاهر الدين، ولا يستطيع أن يدرك جوهره، ممّا يجعله غير قادر على تَجْوِيدِ سلوكات العبد في علاقاته بالغير، ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين اثنين:
أمّا الأوَّل فيتمثل في أنَّ قراءة العامي للنص الديني عاجزة على الانتقال من المثال إلى الفكرة، ممّا يؤكد فشل مدارسنا في ترسيخ الكفايات لدى التلاميذ...
فالنص القرآني متضمِّن لثلاثة أساليب خِطابية؛ الأول خَطابي، والثاني جدلي، والثالث برهاني. ونعتقد بأنَّ المغزى وراء ذلك هو مساعدة العبد على التدرُّج في فهم النص، وليس كما ذهب ابن رشد إلى اعتبار أنَّ الأسلوب الأوَّل موجَه للعامّة، والثاني للخاصّة، والثالث لخاصّة الخاصّة، لأننا نعتبر بأنَّ القرآن جاء ليجمع المسلمين حول مفهوم واحد عن الله والدين بما يدفعهم إلى التوافق لا إلى التفرُّق إلى ثلاث وسبعين فرقة، زد على ذلك، فنتائج بحوث علم نفس النموّ أثبتت أنَّ الفرد إبان عمليّات تعلُّمه يمرّ عبر هذه الأطوار؛ حيث يبدأ بالتعلم عبر المشخّصات ثم يمرّ إلى التعلم بالأمثلة قبل أن يصل إلى مستوى التجريد.
وأمّا الثاني فيتجسَّد في عدم قدرة خطابات دعاة وأئمّة المسلمين على مساعدة العوام على هذا الانتقال المرجو، كونها خطاباتٍ غالبًا ما تقف عند حدود البكاء على الأطلال، ولا تحفِّز العبد على استخدام عقله، على الرغم من أنَّ الدين ندب كثيرًا إلى التدبُّر والنظر العقلاني، فما هي الغاية وراء دعوة الشرع إلى استحضار العقل خلال العبادة؟
• من الفهم الظاهري إلى جوهر الدين
إنَّ تغييب العبد للعقل، وحصره للطقس التعبُّدي في حركات آليّة تتكرَّر دون خشوع وتدبُّر، أمر يجعله يبتعد عن الغاية الفعليّة للدين، المتجسِّدة بقوَّة في قول النبي محمد(ص): "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَق"(10)، لماذا؟
لأنَّ العامّي على الرّغم من تأديته لهذه الطقوس، فإنها لا تتمثَّل في سلوكاته إبان علاقاته بالغير، وبالتالي فتديُّنه لا يحسِّن من أخلاقه، وما التخلُّف الذي تعيشه جلّ الدول الإسلامية على جميع الأصعدة إلا دليل على ذلك، إلى درجة أنَّ الخصام صار يتسرَّب بين المصلين إلى داخل المساجد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ مقصد التدبُّر هو تحقيق إنسانيّة الإنسان، التي لا تتمّ إلا عبر التجرُّؤ على استخدام العقل.
وبالتالي، فإنَّ الفهم السطحي للتديُّن من لدن غالبيّة عوام المسلمين، يجعلنا نستنتج أنهم يقتربون من فهم اليوناني القديم نفسه للدين والتديُّن والتقوى كما كشفه أفلاطون.
فَهْمٌ يجعل الدين تجارة؛ طرفيها بائعٌ ومُشترٍ، والبضاعة هي العبادات، بينما الثمن هو الرزق والصحة في الدنيا، ودخول الجنّة في الآخرة، وهذا فهم قاصر للدين.
أمّا حضور لفظ التجارة في بعض الآيات؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُم عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيم}(11)، فيمكن فهمه في إطار الصور البلاغيّة التي يزخر بها القرآن، أي أنَّها تعبير مجازي أريد به حثّ المسلمين على العبادات التي تنفعهم، ولا تنفع الله أو تضرّه في شيء.
ومنه فإننا معشر المسلمين ندخل الجنة برحمة من الله تعالى لا بأعمالنا، التي يُراد منها تدريب النفس على التدبُّر، وتربية الجسد على الصبر، وطمأنة الوجدان...
وإدراك هذه المسائل لا يتم إلا عبر إعمال العقل أثناء التديُّن، ولعلّ هذا الدعاء يدعم ما قلنا: (اللَّهُمَّ إِنَّ مَغْفِرَتَكَ أَوْسَعُ مِنْ ذَنْبِي وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي)(12).
والله عز وجل دعا إلى هذا الأمر في الكثير من آياته كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار}(13)، ومثل قوله أيضًا: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيء}(14)، وانطلاقًا من هاتين الآيتين يخبرنا ابن رشد أنَّ الشَّرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به(15).
والمقصود بالاعتبار هو أخذ العبرة عبر إعمال العقل، وهذا ما تؤكده الآية الثانية، وبالتالي يصير التديُّن وجوبًا حضورٌ للعقل خلال العبادات، ودون ذلك يسقط العبد المسلم في فهم سطحي للدين.
والله عز وجل بيّن في آيات أخرى أنَّ مَن يعرفه حق المعرفة ويخشاه إنما هم العلماء بقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}(16)، وتُعرَف هذه الفئة بقدرتها على استعمال العقل، وقد يكون هذا تشجيعًا على ضرورة استخدام العبد لعقله وعدم اكتفائه بالتقليد الأعمى، ويمكننا أن ندعم قولنا بهذه الآية القرآنية كذلك: {الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}(17)، والتي تقرِّر أنَّ البارئ عزّ وجلّ ربط الذِّكر -أي الدعاء- بالتفكُّر أي باستخدام العقل.
• خلاصة
نعتقد بأنَّ الدين جاء لينتقل بالإنسان من دائرة الحيوانية إلى دائرة الإنسانية، أمر لا يمكنه أن يتم إلا عبر تحفيز العبد وتدريبه على استعمال عقله، لذا فقد دعانا الشَّرع في مجموعة من المواضع إلى التدبُّر واستعمال العقل سواء في الحياة العامة أو أثناء أداء العبادات، وبالتالي فكل تغييب للعقل خلال الطقس التديُّني من شأنه أن يجعل من هذا الأخير تجارة كما بيَّن ذلك أفلاطون في محاورته "أوطيفرون" حيث يصبح العبد التقيّ هو الذي يتقن حركات الصلاة، والله أعرَف وأعلَم.
• الهوامش والمصادر والمراجع:
(1) حيث يوجد قاضٍ متخصِّص في النزاعات الدينية. وللمزيد انظر الهامش رقم 2 ص 35 من كتاب محاكمة سقراط لأفلاطون، ترجمة د.عزت قرني، دار قباء للطبع والنشر والتوزيع القاهرة، ط2، 2001.
(2) يبين عزت قرني في الهامش رقم 3 الفرق بين الادعاء الذي يتخذ صبغة عامة تهم الدولة؛ كقضايا الدين مثلًا إن كانت الدولة تجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، والاتهام الذي يتخذ صبغة شخصية، ومنه فسقراط رُفع في حقه ادعاء عام أما أوطيفرون فيتهم أباه بالقتل.
(3) هناك محاورة تدعى "الدفاع" تتحدث عن هذه الواقعة، وهي مترجمة إلى اللغة العربية من طرف د.عزت قرني، دار قباء للطبع والنشر والتوزيع القاهرة، ط2، 2001، ومترجمة من طرف زكي نجيب محمود في إطار سلسلة ميراث الترجمة العدد 1773، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012.
(4) أفلاطون، محاكمة سقراط، (محاورات "أوطيفرون"، "الدفاع"، "أقريطون")، ترجمة وتقديم د.عزت قرني، دار قباء، ط2، القاهرة، 2001، ص42.
(5) المصدر نفسه، ص42.
(6) من بين أهداف الفلسفة السقراطية البحث عن تحديد دقيق للمفهوم باعتباره تصورًا كليًا تشترك فيه مجموعة من الأفراد، لذلك كتب أرسطو: "أمران اثنان علينا أن ننسبهما إلى سقراط وبحق: التأسيس عبر إعطاء الخبرة الأولية. ثم إرساء المفاهيم العامة". انظر كتاب أطلس الفلسفة، لبتر كونزمام وآخرون، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، لبنان، ط1، 2001، ص37.
(7) المصدر نفسه، ص44.
(8) انظر كتاب أنساب الآلهة، لهيزيود، ترجمة صالح الأشمر، منشورات الجميل، بيروت، لبنان، ط1، 2015.
(9) أفلاطون، محاورات أفلاطون (أوطيفرون، الدفاع، أقريطون، فيدون)، ترجمة زكي نجيب محمود في إطار سلسلة ميراث الترجمة، العدد 1773، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012، ص44.
(10) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان الحديث رقم 7978؛ والسنن الكبرى حديث رقم 20782، شعب الإيمان لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ.
(11) سورة الصف، الآية 10.
(12) أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم: 1994، 1/728. كتاب المستدرك على الصحيحين، للإمام الحاكم محمد بن عبدالله النيسابوري (405هـ) تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1990م.
(13) سورة الحشر، الآية 2.
(14) سورة الأعراف، الآية 185.
(15) أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم وتعليق د.ألبير نصري نادر، ط2، دار المشرق، لبنان، 1968، ص28.
(16) سورة فاطر، الآية 28.
(17) سورة آل عمران، الآية 191.