حافظ إ. علوي*
جامعة الشارقة/ جامعة محمد الخامس، الرباط
أَحْسِبُ الدكتور نهاد الموسى، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ رجلًا ممن صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، ومن الشخصيات النادرة التي ستبقى ذكراهم تُبحر في عقول طلبة العلم، وستظل رؤاهم تتراءى لنا وهم غائبون، فنُحاورهم وكأنهم حاضرون...
عرفت الدكتور نهاد في بواكير العمر؛ فقد كانت كتاباته مما تعلّمنا عليها في مرحلة الإجازة (البكالوريوس)، وتقوّت تلك المعرفة، وتعمّقت أكثر فأكثر في مرحلة الدراسات العليا. ولم يدُر في خلدي يوما أنَّي سألتقي الرجل، وأتعرفه عن قرب، لكن شاءت الأقدار أن يحدث ذلك خلال المؤتمر الدولي الأول لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، الذي نظمه مركز اللغات، بالجامعة الأردنية (6-8 مايو 2008م).
تكشف حفاوة الاستقبال عن خلق رفيع، وأًصل طيّب، ومنبت كريم... أول ما يشدّك في شخصية أستاذنا –رحمه الله- حديثه العذب، ولسانه الطّلق، اعتقدت لأول وهلة أنَّ الإصرار على الحديث بلسانٍ عربي مبين إنَّما يفرضه المقام، لكن سرعان ما تبيّنت وأيقنت أن ذلك ديدنُه في حياته العامة والخاصّة؛ فقد أحبَّ العربية حتى النخاع، فسكنت قلبه ووجدانه، وانطلق بها لسانه، فأضْحَى التّنائي عن تَدانِيهما مستحيلًا.
سيظلُّ ذلك اللقاءُ موشومًا في ذاكرتي، ولا أجد تفسيرًا لتلك الألفة التي أحسستها خلاله، سوى صدق الإخلاص في القول والعمل؛ فكتاباته تحمل جزءًا من صفاء روحه؛ فهي تحدثك عنه عندما تقرؤه قبل أن تلقاه، فلا تجد غرابة بين من تقرؤه ومن تتحدث إليه، فكأنَّه هو هي، أو هي هو. كانت دعوته إلى تقديم محاضرة عامة حول "البحث اللساني في دول المغرب العربي"، مثار رهبة؛ فكيف لباحث غرّ لم تعرُكه التّجاربُ أن يحاضر أمام أساتذة وطلاب جامعة عريقة مثل الجامعة الأردنية. أشرَف أستاذنا بنفسه على إدارة اللقاء، فكانت ذكرى جميلة ما زالت أدق تفاصيلها عالقة بذهني حتى اليوم، وشكّلت بداية تواصلًا جميلاً، أسعد به وأفخر ما حييت، كيف لا! وشهادته التي أثثت كتابي "اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة" (2009)، ممّا لا يجود الدهر به إلا لمامًا.
نذر الدكتور نهاد نفسه لخدمة لغة الضاد، فكان عشقه لتراثها الزاخر من عشقها، ولم يثنه ذلك عن الانفتاح على كل مستجدات الدراسات اللسانية الغربية؛ ليقينه أنَّ المعرفة ضالة الباحث أنّى وجدها يأخذها. فأدرك عمقها وجدوى الانتفاع بها؛ فكان من الطبيعي، بما وهبه الله من عمق نظر، أن يقيم مقارنة ومقايسة بين القديم والجديد، وكان مما انتهى إليه بصائر لسانية هادية تجلي تماثلات واضحة بين أنظار اللغويين وأنظار اللسانيين، شايعه فيها لسانيون آخرون ممّن قرؤوا التراث قراءة عميقة؛ فشكلت رؤاهم "قراءة عالمة" تعي جيدًا حدود القراءة والتأويل، وتقوم على منهج التحليل التقابلي الذي يتغيا "الإقساط" وينأى عن "الإسقاط". ذلك منهج أستاذنا الدكتور نهاد الموسى -رحمه الله- وأحسن مثواه. يقول: »وأنا عارف بالمقارنة المستهجنة الناجمة عن المقابلة بين منهج النظر النحوي عند العرب، ومناهج النظر اللغوي الحديث، لما اكتنف كل منهما من ظروف مغايرة وسياق تاريخي ثقافي خاص، ولكن لي في منهج التحليل التقابلي الذي يجازف بالمقابلة بين لغات لا تربطها علاقات الأسر اللغوية مستأنسا« ، إنَّه، لعمري، رأيٌّ سديدٌ ينم عن معرفة عميقة بأصول المعرفة ومنطلقاتها وخلفياتها...، فكان من الطبيعي أن يظهر ذلك جليًّا في مصطلحاته التي يضع فيها الموازين القسط لمقارنة تنأى عن كل مماثلة حتمية، أو تطابق كلي؛ لأنَّها تراعي الفروق القائمة بين الأنساق النظرية، وخلفيات الوضع الإبستمولوجي للقراءة في عمقه.
شكّلت قضايا اللغة العربية المعاصرة شاغلًا أساسيًّا في كتابات الدكتور نهاد، تناولها بلونٍ يجمع بين الموروث القديم والمناهج الحديثة، ومن ذلك الازدواجية، والكتابة، وتعليم العربية، والحوسبة... وتميزت أطروحاته في معالجتها باختلاف ملحوظ في الطرح والنظر؛ فهي تنطلق من تشخيص واقع الظاهرة والعوامل الثاوية خلفها، انتهاءً إلى الاستفادة من اللسانيات التطبيقية ومرئيات التخطيط اللغوي... فالقضايا المعالجة إنَّما تمثِّل مشكلاتٍ تحدُّ من تفوق العربية وإسهامها في مناشط الحياة العربية على الوجه المؤمَّل؛ ولذلك فإنَّ منتهى قصده أن يضع رؤى يراها ضرورية لحلِّ هذه المشكلات (القضايا) أو الحدّ من تأثيراتها السلبية المعيقة للعربية ، ومن ذلك ما يكشف عنه كتابه "قضية التحوّل إلى الفصحى في العالم العربي الحديث" الذي يتوجه إلى ظاهرة مؤرِّقة هي ظاهرة الازدواجية، ينتهي تناوله لها إلى تدابيرَ منهجية وإجرائية تنفَّذ في التعليم والإعلام وأدب الطفل.... وينتهي أمر هذه التدابير، إنْ أُخِذَتْ بحقها في التطبيق، إلى تَحَوّلٍ تدريجي من العامية إلى الفصحى الرشيقة المعاصرة. وكذا القول في القضايا الأخرى.
ويجد الناظر في كتاب "اللغة العربية في العصر الحديث... قيم الثبوت وقوى التحوّل"... افتراق المعالجة التي يطرحها؛ من وجوه عديدة؛ "أولها أنَّ المعالجة كليّة تتناول العربية وقضاياها في سياقها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهي عوامل تتداخل الآن، بتأثير العولمة، على نحو لا يقبل القسمة ولا الانفصال؛ بل إن أي معالجة لقضايا العربية بمعزل عن هذه العوامل ستكون منقوصة، أمَّا المعالجات المستقلة فقد كانت تَصْرِفُ عنايتها إلى قضية واحدة دون الانصراف كثيرًا إلى ما يتعالق بها من قضايا... إنَّه يعالج العربية وقضاياها من حيث هي كينونة خاصة تتجاذبها قيم الثبوت وقوى التحوّل في مشهد كونيّ أصبح فيه هاجس موت اللغات هاجسًا مقيمًا. وثاني هذه الافتراقات ما يحمله هذا الكتاب من معالجة مستحدثة تستجيب للشرط التاريخيّ؛ التطور، وما حمله معه من تعقيداتٍ أفرزتها العولمة ومنتجاتها؛ فإذا نَظَرْتَ إلى معالجة الازدواجية قبل عشرين عاماً وجدتَ أنَّه لا ذكر، تقريبًا، لقضية الثنائية، أمَّا الآن فإنَّ الثنائية (العربية والإنجليزية) تطرح تساؤلاتٍ جديدةً تفاضل بين العامية والإنجليزية وليس الفصحى والإنجليزية. وإنْ تأملت ضعف الطلبة في العربية قديمًا، قبل عشرين عامًا مثلاً، وجدت أنَّ أساليب التدريس تتحمل الوزر الأكبر في ذلك، أمَّا الآن فإنَّ الانصراف إلى التعليم باللغات الأجنبية (الإنجليزية خصوصًا) سبب رئيس في ضعف الطلبة في العربية؛ لأنَّهم وأهلهم ينصرفون إلى المدارس التي تعلّم باللغات الأجنبية وابتداءً!. وثالث هذه الافتراقات أنَّ هذا الكتاب يمثّل خطابًا استثنائيًّا يتجاوز خطابه اللساني الاعتيادي من حيث المتلقون؛ إذ لم يتقصد أن يخاطب اللسانيين المتخصّصين في اللسانيات العربية وقضايا اللغة العربية، ولكنَّه يعمّم في هذا الكتاب قاعدة المخاطَبين ويتحول بخطابه من الخاصّ إلى العامّ، من اللساني المتخصّص إلى المثقَّف العربي عمومًا، وإنَّما كان ذلك لرؤيته أنَّ اللغة العربية وقضاياها المعاصرة وما تواجهه من تهديداتٍ لم تعد هَمَّ اللسانيّ العربيّ وحده، إنَّها هَمُّ اللسانيّ والإعلاميّ والطبيب والناقد الأدبيّ والتاجر والممثل... إنَّها هَمُّ هؤلاء جميعًا، فالقضايا التي يطرحها الكتاب تمسُّ جميع أبناء الوطن العربيّ على اختلاف بلدانهم واهتماماتهم واختصاصاتهم، والقضية اللغوية صارت قضية أسرية واجتماعية أكثر منها لغوية خالصة خاصة بالمتخصّصين! مَنْ مِنَّا لا يعاني مشكلة الازدواجيّة؟ ومن منا لا يُؤَرِّقه ضَعْفُ أبنائنا في القراءة والكتابة؟ ومن مِنَّا لا يشغله هَمُّ الإنجليزية وهيمنتها والتفكير في جدواها الاقتصاديّة؟ ولذلك فهو يستقرئ جمعًا من هؤلاء المؤَرَّقين بهواجس اللغة وقضاياها: فمنهم لسانيّ متخصّصٌ، ومنهم ناقدٌ أدبيٌّ مرموقٌ، ومنهم كيميائيٌّ حاذق، ومنهم طبيبٌ بارع...
ولم يكن موضوع "اللغة العربية والحضارة"، ومدى قدرة العربية على التعبير عن متطلبات العصر ليغيب عن اهتماماته. فقد بيّن في بحثه الموسوم بـالعنوان نفسه، أنَّ اللغة العربية اجتازت بتفوقٍ مشهودٍ تجربة حضارية فذّة حين اتسعت للتعبير عن دعوة الإسلام وما أعقبها من نهضة حضارية شاملة؛ إذ استوعبت علومَ الأوائل وأضافت إليها إضافاتٍ مشهودةً في ميادين العلم والحضارة. وهو الرأي نفسه الذي حاجج له بمنطلقات لسانية حديثة، يقول: "ويتبين أهل العربية ذلك، الآن، على نطاق واسع في ضوء نمو الوعي اللساني، وهو مما نجده مقررًا في سياق اللسانيات الحديثة، وهو سياق غربي محايد؛ إذ هو مما يطوّره الغرب لنفسه في إطارٍ علميٍّ لا يصدر عن تحيّز أو خصوصية للغة أو ثقافة؛ وخاصة في اللسانيات التوليدية التحويلية. ويكفي أن نورد هنا ما يورده أحد كتب اللسانيات العامة، بالإنجليزية، من أنَّه ليس من شيء يمكن التعبير عنه في إحدى اللغات ولا يستطاع التعبير عنه في لغة أخرى، ويلاحظ مؤلفو ذاك الكتاب أنَّه واضحٌ أنَّ لغة ما يمكن أن تحتوي ألفاظًا دوالَّ على معانٍ لا نجدها في لغة أخرى، ولكنَّه ممكن دائمًا أن نضع ألفاظًا جديدة تعبر عما نعني، فأيّما شيء نستطيع أن نتخيله أو نتصوره فإنَّه يمكننا أن نعبّر عنه في أي لغة إنسانية".
ذلك غيضٌ من فيض، رحلة عطاء ممتدة قضاها أستاذنا في خدمة اللغة العربية، وستظلُّ، دون شك، تشكّل تراثًا زاخرًا، ومدرسةً في الوعي والفهم البعيد.
رحل الدكتور نهاد لكنَّه سيبقى بيننا، ولن تغيب شمس ذكراه عن أي نحويّ، أو لسانيّ، أو تربويّ، أو إداريّ، أو أكاديميّ...، يرنو إلى بصائر هادية في العربية وتراثها.
نهاد الموسى، نظرية النحو العربي...، ص29.
*أكاديمي وناقد مغربي