د. دلال عنبتاوي
كاتبة وناقدة أردنية
يُعدُّ العنوانُ عبارة لسانية سيمولوجية في الرواية، وهو يأتي مباشرةً بعد تلقي الغلاف؛ ولذلك فهو يحمل وظيفة تعينية، ومدلولية، ووظيفة تأشيرية، تعمل على تلقي العمل الإبداعيّ، والتلذذ به تقبلًا وتفاعلاً فيما بعد..
• العنوان:
عند الوقوف عند العتبة الأولى لغلاف الرواية؛ فإنَّ أول ما تقع العين عليه هو ألوان الغروب وتشكيلات لونه الأصفر المفضي للنهاية، وانتهاء النهار، وغيابه وغروبه عند لحظة مفصلية تمهيدية تعبّر عن انتقال النهار إلى الليل، وتخترق الغلاف الساعة الرملية التي تحسب الزمن بكل دقائقه وتفاصيله " لون آخر للغروب "؛ مما يعني أنَّ الرواية جاءت زمانية بامتياز، ويؤكد هذا عنوان الرواية الذي مزج ما بين اللون والزمن؛ ليعبر عن العنوان بدقة.
• الإهداء:
في العتبة الثانية يأتي الإهداء لينقلنا إلى عوالم أخرى، بعد تجاوز الاسم... إلى جعفر... وننتقل معه إلى جملة تتبعها مباشرة جملة فيها من التأويل والإحالات الشيء الكثير، مفتتحة ب ــ كما ـــ الدالة على التشبيه؛ فتأتي عبارة " كما ينبت العشب" عبارة مفتوحة على التأويل ليس لها تتمة، إلا ما نتوقعه نحن منها؛ مثل: كبرنا/ نمونا/ امتزجنا/ تشاركنا/ كنا، وربما هناك تتمات أخرى تحمل هي من التداخل والتماهي والتماثل الكثير.
• التصدير:
يأتي التصدير في الصفحة الرابعة الذي يجيء تحت عنوان" اعتراف"، وغالبًا ما يُعدُّ التصديرُ أيقونةً مهمّة من أيقونات الرواية الحديثة، وتمثل هذه العبارة هنا نوعًا من أنواع الإيقونة الوثائقية؛ التي تعمل على سحب القارئ إلى عالمها. تقول الروائية في تصديرها لروايتها وتحت كلمة اعتراف، تخاطب القارئ بصيغة النداء: "أيّها القارئ/ أنا مثلك/ لا أعرف أين ينتهي الدرب/ ولا المكان الذي تقودني الأحداث إليه!/" وتأتي العبارة متبوعة بعلامة التعجب، هذا التصدير جاء يحمل دلالات كثيرة، أهمها أنَّها جاءت لتقترب الروائية من خلالها بالمتلقي، بحيث تفضي له بحالة من البوح والتصريح والكشف بعد الكتمان لأمر ما حدث في زمن ماض، ولا بدَّ الآن من كشفه والاعتراف به للوقوف عند نقطة يلتقي عندها كل من الروائية والمتلقي، وتنكشف كل الأسرار أمام القارئ عندما يدخل إلى عالم الرواية عند قراءتها، ولا يعود هناك أمرٌّ سريّ أو مخفيّ، فالاعتراف يفضح كلَّ الأسرار، ولا يبقي على شيء.
• بنية الحوار في الرواية:
منذ لحظة الدخول الأولى لعالم هذه الرواية تنفتح الصفحة من أعلاها على عبارة، " الساعة الآن12:00 " وهي عبارة زمانية تدلُّ على الوقت، ثم ندخل إلى عالم الرواية من خلال حوار مباشر، من دون أيِّ تقديم سردي لذلك:
"ـــ أصابعك متعبة.
يهمس وهو يمسك بيدي ويحرك أصابعه فوقها كمن يعرف.
أجيب:
ــ لأنَّها موصولة بقلبي.
يبتسم!
ــ قلبك إذن هو المتعب.
ـــ لأنَّه موصولٌ بك. "
ولعلَّ هذه البداية تكاد تكون بداية لافتة وحداثية جدًّا؛ أن تنفتح الرواية دون أي تمهيد سرديّ على الحوار مباشرة، وأجد أنا شخصيًا أنَّها تشكّل خروجًا عما اعتدنا عليه من عالم الرواية التقليديّ، الذي يبدأ بالسرد المكثف قبل الدخول إلى عالم الرواية.
من المعروف أنَّ الحوار يُعدُّ وسيلةً رئيسةً من وسائل السرد الروائي الذي يسهم في رسم الشخصيات، والكشف عن مستواها الثقافيّ والفكريّ والاجتماعيّ، وهو يهدف كذلك إلى الكشف عن مدى التأثير والتأثر، الذي حدث بين تلك الشخصيات بصفتهم أبطالاً للعمل. وهو يأتي في معظم الأحيان على شكل سردٍ روائيٍّ خاص، ينطوي على خصائص فنية عديدة، ولقد عرضت الروائية أحداث روايتها بشكل تفصيليّ؛ كي تتيح للقارئ معاينة كل التقنيات التي بنيت عليها الرواية، وقد ركزت على الحوار كثيرًا من خلال إشراك شخصيات عدّيدة في تقرير الحدث، والكشف عن ملابساته الخفية، واعتمدت اعتمادًا كبيرًا على الحوار؛ من أجل تطوير الخط الدرامي كي تقلل من رتابة السرد، وتشدِّ القارئ إلى الرواية، ولتتضح قدرة الروائية وبراعتها في اختيار المفردات والعبارات الحواريّة.
إنَّ الحوار في الرواية عادةً ما يتمظهر في أنماطٍ عدّيدة، فهناك الحوار الخارجي، وهناك الحوار الداخلي، وقد تتداخل مع الحوار اللغة الفصيحة ولغة الحياة اليومية ( العامية )؛ الأمر الذي يثري الحوار ويعمّق مقاصده، ومن جانب آخر يتمظهر الحوارُ الروائيُّ على شكل الحوار الداخلي بين الذات نفسها، وما تحمله من هواجس وتساؤلات من خلال أشكال متعددة كالمناجاة، والحلم، والاسترجاع، لقد حاز الحوار في هذه الرواية حضورًا واسعًا ولافتًا، إذ شكّل حضور الحوار فيها ما يقارب (45%) مقارنة مع السرد والوصف؛ لهذه الأسباب كان اتخاذ بنية الحوار ميدانًا مهمًّا للدراسة والتحليل؛ من خلال الكشف عن بنية الحوار وأشكاله، وبيان أبعاده الفنية والجمالية.
• الحوار: مفهومه ووظائفه وشروطه
يشكّل الحوارُ مكوّنًا أساسيًا من مكونات بنية الخطاب السرديّ في الرواية، وهو أحدُ أساليب التعبير فيها، وأحدُ عناصر بنائها، يوظفه الروائي؛ ليعبر من خلاله عن رؤاه وتجربته الشعورية والجمالية.
ويقصد بالحوار الكلام الذي يتم بين شخصيتين أو أكثر، بحيث يتم التجاوب بين شخصيتين أو أكثر في العمل الروائي، فالحوار" هو اللغة المعترضة التي تقع بين المناجاة واللغة السردية، ويجري الحوار بين شخصية وشخصية، أو شخصيات وشخصيات أخرى داخل العمل الروائيّ".
ويتشارك الحوار مع سائر العناصر الفنية الأخرى في نسيج البناء الروائيّ، ويعمل على تشكيل بنية روائية متكاملة، ويلمسّ القارئ من خلاله أنَّ ثمة علائق ووشائج متينة بين الحوار وعناصر السرد الأخرى، ولا يمكن الفصل بينهما، إذ لا تنافر ولا اضطراب.
ولما كانت بنيةُ الحوار ركيزةً مهمّةً من ركائز البنية الروائية، والخطاب السردي، فلا يمكن تصوّر أن تبنى أيُّ روايةٍ من الروايات، دون أن يوظف كاتبها الحوار؛ لأنَّ الرواية من دون الحوار تغدو رواية جافة ومشوّهة، وتكون خالية من الحركيّة والتشويق.
ومما لا شكَّ فيه، أنَّ بنية الحوار تؤدي دورًا حاسمًا في تطوير أحداث الرواية، واستحضار الحلقات المفقودة فيها، والكشف المباشر وغير المباشر عن الطبائع النفسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة للشخصيات، وفي رسم ملامح تلك الشخصيات وأبعادها، وفي استجلاء عمق الأشياء، وتكشف عن رؤية الشخصيات إلى العالم والحياة وموقفها من الآخرين.
ويساعد الحوار على بعث التلقائيّة في المواقف المتميزة، وتقوية أثر الواقع فيها، والحوار عنصرٌ مهمٌ للملتقي الذي يستند إقباله على قراءة الرواية على جاذبية الحوار، وقدرته على الإثارة والإقناع.
إنَّ الحوار الذي لا يكشف عن مكنونات الشخصية، ولا يبرز ملامح الزمان والمكان والأحداث ولا يكشف عن الصراع في الرواية، لا يؤدي وظيفته الموضوعيّة والجماليّة الحقيقيّة في بنية العمل الروائي، ويشكل ضررًا على القيمة الأدبية والفنية للرواية.
• شروط الحوار الناجح:
ولكي يحقّقَ الحوارُ مكانته وأهميته يتعين أن تتوافر فيه صفتان أساسيتان؛ هما:
1. أن يندمج في صلب الرواية؛ كي لا يبدو للقارئ، كأنَّه عنصرٌ دخيلٌ عليها، ويتطفل على شخصياتها.
2. أن يكون طيِّعًا سلسًا رشيقًا مناسبًا للشخصية والموقف، فضلًا عن احتوائه على الطاقات التمثيليّة.
• أنماط الحوار الخارجي في هذه الرواية:
النوعُ الأول: الحوارُ المجردُ البسيطُ
وهذا النوع من الحوار قريبٌ من المحادثة اليومية بين الناس، أو تبادل كلمات لا تحتمل فيها رؤية معينة، فهو حديثٌ إجرائيٌّ متأسس على فعل ورد فعل سريع، أو إجابة سهلة التأويل؛ لأنَّها إجاباتٌ متوقعة عن أسئلة عادية، ليس فيها رؤية خاصة، وهذا اللون من الحوار يقترب من المحادثة العادية، أو من الإجابات السهلة عن الأسئلة التي تطرحها الشخصيات، بيد أنَّ تلك الإجابات العادية تتسم بالبساطة والابتعاد عن الشرح والتحليل والتعليل والترميز. تقولُ البطلةُ في الحوار في ص9: "ـــ كنت لا أزال أركّز نظري على وجهه من دون أن أفطن أنَّني أفعل ذلك، غرقت فيه ولم أنتبه إلا عندما لمست كفه عيني ليغطيهما...
يقولُ مازحًا:
ـــ وفاء عليك أن ترسميني الآن وأنت مغمضة...
أضحك وكفه تترفق بالضغط على عيني.
ــ ـكريم لا أجيد رسمك.
ــ ترسمين وجوه الجميع وتعجزين عن رسمي؟."
يكتشف القارئ هنا أنَّ الحوار المجرد ما هو إلا أسئلة بديهية بين متحاورين، لا يعتريها أي غموض أو التباس، فهو ردٌّ سريع متوقع، يكتسي طابع المحادثة العادية، ولا يعدو كونه مشهدًا من مشاهد حياتنا اليومي...
النوعُ الثاني: الحوارُ الوصفيُّ التحليليُّ
في هذا النمط من الحوار يسعى الروائيّ إلى أن يُظْهِر المحاور قدرته على وصف القضية والتعمق فيها، وإبداء الرأي ووجهة النظر، فضلًا عن تحديد الرؤية على الوصف والتحليل. تقول الروائية في الصفحة ( 10 ) على لسان البطلة: " بعد كل لقاء يجمعني به تعاود سعاد أختي الكبرى لومي بسؤالها: ـ
- وفاء إلى متى؟
ــ لا أعرف يا سعادـ
ـــ ما النهاية التي تتوقعينها لهذه العلاقة؟
ـــ لماذا أفكر في النهاية قبل أن أبدأ؟
- جميعنا يجب أن يفكر في نهاية الأشياء... هذا قانون الحياة.
ـــ لم أعد أؤمن أنَّ الحياة تسير وفق قوانين... الحياة تبتدع القوانين كما تشاء وتغيرها باستمرار، التغيير هو الثابت فيها.
ـــ حسنًا، لكن أليس علينا أن نفكر في نتيجة ما نفعل؟!.
ــــ لا أظنُّ ذلك، فلو فكرنا في الموت وحده لما تمكنا من الاستمرار في الحياة.
ــ وفاء لا تدخليني في متاهات جنونك، ماذا سيحل بعائلتك إذا ما انكشف الأمر؟
ـــ لا أعرف، لا أعرف".
نجد هنا أنَّ هذا النوع من الحوار يركّز فيه الروائي على أن يطرح قضية ويقوم بتحليلها ووصفها بدقة دون تدخل، ولكن من خلال الحوارات الخاصة بين الشخصيات.
النوعُ الثالث: الحوارُ الترميزيُّ
لعلَّ من أهم أنماط الحوار الخارجي هو الحوار الترميزيّ، وهو النمطُ الثالثُ من الحوار الخارجي الحي المباشر ويُقصد به: الحوار الذي يميل إلى التلميح والإيحاء بعيدًا عن التقريرية والمباشرة الظاهرة والطروحات الزائدة، فالترميز هو توظيف الرمز في نسيج الرواية وجعله طاقة تعبيرية فاعلة في النص، ويجد القارئ فيه أنَّ الروائيَّ يرمز للهدف أو غاية الرواية من خلال استخدام الرمز، والتعبير عن الآراء والأفكار التي يؤمن بها، وقد يكون الترميز على مستوى الموقف والحادثة، وهو حوارٌ قائمٌ على التأويل والتلميح والترميز على مستوى اللفظة والأسلوب والموقف، بعيدًا عن التقريرية والمباشرة، في صفحة 90 تقول الرواية:" تنفست بعمق ثم قالت:
ـــ استاذ نجيب، أسمع، لقد لفت انتباهي على أوراقك عبارة غريبة مدونة قريبًا من سهم يشير إلى " بطلة الرواية" ومكتوب بجوارها " المرأة معنى مرادف للخطيئة، هل حقًا أنت ترى ذلك؟
ــ بالطبع أنا لا أنظر إلى المرأة على أنَّها خطيئة، ربما إنني لم أحمل طوال عمري مشاعر قوية جدًّا تجاه امرأة، بمعنى لم أجرب أن أحب امرأة بجنون، وبدا للجميع أنَّ هذا الأمر غريب، لكن ذلك لا يعني أنني ضد المرأة، أو أقلل من شأنها.
ـــ إذا لم تكن ضد المرأة كما تدعي، فلم ستكتب عن امرأة خاطئة وتجعلها مقياسًا لجميع النساء؟؟
ــــ الأمر لا يتعلق بما أراه أنا، هو شيء خارج عن إرادتي، عمل أقوم به حسب الطلب."
نجد هنا أنَّ الحوار يكشف لنا أنَّ هناك قضايا يريد البطل الحديث عنها بشكل صريح، لكنَّه يرمز لها ويلمح دون توضيح أو تصريح.... خاصةً فيما يتعلق بعالم المرأة.
النوعُ الرابعُ: المشهدُ الحواري.
وهو نمطٌ من أنماط الحوار الخارجيّ، وفيه يستعين الكاتب بتقنية المشهد الحواري التي تقوم على مزج الحوار بالسرد، وإبطاء الحركة السرديّة في النص الروائي، إذ يتوقف السارد فيه عن السرد، فاسحًا المجال للحوار الذي يجرى بين شخصيتين أو أكثر تتبادلان الكلام، وتنجزان الفعل الحواريّ بشكل مباشر، ثم يعود السارد إلى السرد مرةً أخرى. ومن أمثلة المشهد الحواري ما تجلّى في المشهد الذي دار فيه الحوار بين شخصيات الرواية في الصفحة 304 تقول البطلة من خلال هذا الحوار القائم على التساؤلات":
ــ كيف مات والدك؟
ـــ لا أعرف إن كان قد مات أم لايزال حيا... تبدلت حياته بين يوم وليلة جمع ثروة كبيرة خلال فترة وجيزة في يوم اختفى، ولم يعد.
ــ ألم تبحثوا عنه؟
ــ لا يمكن وصف محاولاتنا غير الجادة بالبحث، هناك من قال إنَّه انضم إلى جماعة متطرفة في بلد تشتعل فيها الحرب. وهناك من قال إنَّه سافر خارج البلاد، وهناك من قال إنَّه صار تاجر سلاح، وهناك من قال إنّه اختُطف وقُتل، وهناك من قال، وقال...
ـــ يعني مصيره مجهول؟
لا أُجيب، أُفكر في كلمات السيد نضال أبي، كان يردّد أن أقسى التجارب التي مرَّ بها كانت تلك التي تضعه أمام مصير مجهول، كان يرى أنَّه لا بدَّ أن يملك قوةً أكبر من المجهول ليتخطاه، لكنَّه لم يدرك أنَّ المجهول لا يمكن تخطيه؛ لأنَّه لا شكل له، لا وجه، لا تعريف، لا وقت، لا مكان، ...، إنَّه الموت والحياة والكره والحب، إنَّه كل شيء، وأي شيء.
أقول للسيد نضال:
ــــ في داخلي أشعر أنَّه لا زال حيًّا في مكان ما، مكان غامض في قلب صحراء كبيرة..."
في الحقيقة؛ كثيرًا ما يعمد أغلب الروائيين الواقعيين إلى مثل هذا النوع من السرد؛ وقد عمدت الروائية هيا صالح إلى الإكثار من المشاهد الحوارية في روايتها كما أشرت؛ لأنَّ الحوار هو أكثر المقاطع الروائية تمثيلًا لآراء الشخصيات، وعرضًا للقضايا المهمّة التي قد يغفلها السرد أحيانًا، وثمة أمثلة عديدة في الرواية على هذا النمط من المشاهد الحوارية، فالرواية ثرَّية بمثل هذه المشاهد، وفى هذا النمط من الحوار يشترك الحوار مع السرد والوصف في بناء النص الروائي.
• أخيرًا: لغةُ الحوار.
لقد وفّقت الكاتبة في توظيف اللغة الفصيحة في الحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي، فجاءت لغته فصيحة تنساب ببساطة وسهولة، واضحة بعيدة عن التعقيد والتعمية، تناسب الأحداث الروائيّة وتناسب التصاعد الفنيّ للحدث، ومتوافقة مع جوانب الحدث وروحه الدرامية، علاوةً على توافقها ومناسبتها للمستوى الثقافيّ والفكريّ للشخصيات وعوالمها وتقاليدها.
إنَّ استخدام اللغة الفصيحة ذات الدلالات الإيحائية والاستعمالات المجازية زاد من قوّة الرواية، ومن قوّة تفاعل شخصياتها لتنطلق إلى فضاء تعبيري رحب، لقد كانت كلُّ الحوارات التي دارت بين الشخصيات تتمتع بلغة فصيحة، واضحة، مكثفة بعيدة عن الإسهاب والتطويل بشكل واضح. وقد عرفت الكاتبة كيف تستثمر ما في اللغة من إمكانات تعبيرية موسيقية تصويرية إيحائية استثمارًا يتفق مع ما تريد أن تصل إليه من تأثير في نفوس المتلقين.
وقد لجأت الكاتبة في حواراتها إلى تقطيع الحوار، باستعمال التنقيط بين مفردات التحاور(..)؛ ليدل على انقطاع الكلام ثم تواصله، وهذه التقنية أقرب ما تكون إلى الواقعية، وقد أضفت على الحوار واقعية خاصة؛ لتعبر عن مشاعر وأفكار الأبطال، فالنقاط المتجاورة(..) تحمل خصائص القول المنطوق، وقد تستخدم بديلًا عن علامات الوصل بين الجمل بما يوحي بتدفقها ومباشرتها، وقد تستثمر – أيضًا - بوصفها فواصل للحديث النفسيّ الذي لم يصل بعد إلى مرحلة الترابط في الكلام المنطوق"، وتؤدي وظيفته في إنتاج الدلالة أو الإيحاء بها.
وظّفت الروائيّة - أيضًا – لغة الجسد التي هي عبارة عن الحركات والإيحاءات التي يقوم بها الإنسان باستخدام الوجه أو الأطراف أو الصوت، وذلك للتعبير عما يخالج نفسه من مشاعر وأحاسيس وإيصال أفكاره بطريقةٍ أفضل وأوضح. فلغة الجسد حوار معنوي إلى جانب الحوار اللفظي، فالبكاء يتبعه صوت مخنوق مملوء بالدموع، وفيه إلى جانب الصوت الحركة، وكلاهما يوحي باستدرار العطف أو الاستمالة؛ من أجل مساندة موقف الأبطال الأمر الذي يجعل الحوار يخدم الشخصية، ويكشف عن أعماقها، ويبرز ما في غورها، ويحمل الدلالاتٍ الواسعةً، والمعاني المتعددة التي تسهم في تعميق المعنى وتجسيده.
أحيانًا؛ قد يعمد الكاتبُ إلى استخدام اللغة العامية في الحوار على مستوى اللفظة والتركيب والأسلوب، لعلَّه يجنح لهذا الأسلوب؛ رغبةً منه في الاقتراب من النزعة الواقعية في الحوار، فيستخدم اللغة اليومية؛ اللغة المحكية التي يأخذها من البيئة المحلية للشخصيات. إلا أنَّ الروائية لم توظف اللهجة العامية في روايتها نهائيًّا.
إنَّ تقنیة الحوار تُعدُّ عنصرًا تكوینيًّا في البناء السرديّ، وتُعدُّ من أهم الوسائل التي اعتمدت عليها الكاتبة الروائية في رسم شخصيات الرواية والتعبير عنها، وسعت من خلاله كذلك إلى الكشف عن واقع الشخصيات النفسي والفكري، لكي تبدو أكثر قربًا ووضوحًا من القارئ، ولا ننسى أنَّ للحوار كذلك دورًا فعّالًا في بناء أحداث الرواية وتطويرها وتعميقها، وأنَّ له علائق وثيقة، وصلات متينة بين كل من عناصر البناء السردي من مكان، وزمان، وأحداث، وصراع. لقد استطاعت الكاتبة من خلال توظيف الحوار بهذه الرواية أن تكشف عن مغزى روايتها، وتوضح المقصود منها، بكلِّ جمالٍ وشفافية.