عرض وتقديم سمير أحمد الشريف
كاتب وناقد أردني.
في كتابه الذي صدر عن دار أزمنة للنشر، ناقش الباحث سؤالًا ما يزال يتردّد في أذهان المهتمين والنقّاد "لماذا نرى المنجز من شعر الرجل في العالم يتفوّق على شعر المرأة كمًّا ونوعًا؟.
السؤالُ الذي يحمل إدانةً ضمنيّةً لكفاءة شعر المرأة، واتهامًا لسلطة الرجل بإعاقة شعر المرأة من جهة أخرى.
من هنا؛ وضع الباحثُ نصبَ عينيه محاولة الإجابة عن ذلك السؤال؛ فقام بجهدٍ مخلصٍ دؤوب يتفقّد شعرية المرأة في بيئات العالم المختلفة، مختبرًا نماذجها الشهيرة، معاينًا صداه وأثره باستقراء مستبصرٍ لفضاءات شعر المرأة ومنابته التاريخية وحضوره في المشهد الثقافي العالمي، ومعاينة أدبية موسّعة لحال شعر المرأة في العالم، مُقدمًا مجسّاتٍ نقديّةً قريبةً من الشمولية، انطلاقًا من كون الشعرِ فنًّا إنسانيًّا خارج شروط الجنس واللغة والعرق، ولأنَّه جمالٌ والجمالُ حرية، ولأنَّه حلمٌ، والحلم سيّد الحريات.
اتبع د. راشد عيسى في كتابه أسلوب المسح المعلوماتيّ الموجز، متداخلًا مع الإضاءات النقدية في محاولةٍ لاستكشاف اتجاهات الموقف النقديّ من شعر المرأة في المقام الأول، وجسِّ ملامح الشعريّة في المقام الثاني، مستعينًا بمنظومة من المناهج النقدية المتداخلة، دون أن يخفى لصاحب البصيرة صعوبة دراسة شعر المرأة في العالم بين دفتي كتاب واحد محدود.
جاء الكتابُ في 372 صفحة من القطع الكبير، موزّعًا على خمسة فصول، جاء الفصلُ الأول فيه تحت عنوان "شعر المرأة بين الظلمة والنور/المرآة المعتمة". وعرض فيه لأنماط العراقيل التي عاشتها الشاعرات في بيئاتهن المختلفة؛ مما فرضته طبيعة الأعراف الاجتماعية التي ترى شعر المرأة نوعًا من ثقافة العيب أو المحرّم، مبرزًا أهم المنجزات التي حققتها بعض الشاعرات عربيًّا وعالميًّا.
تتبع الناقدُ الباحثُ في هذا الفصل أيضًا محطاتِ الفكر الذكوريّ النخبويّ ضد شعر المرأة، حتى وصل لرأي عباس محمود العقاد الذي يرى أنَّ الاستعدادَ للشعر نادرٌ، وهو بين النساء أندر، فالعقادُ يرى أنَّ المرأة قد تجيد كتابة القصة والتمثيل، وقد تحسن الرقص الفنيّ وضروب الفنون الجميلة الأخرى، لكنَّها لا تحسن الشعر، والعقّادُ في رأيه يتبع رأي الفيلسوف الألماني "شوبنهاور"، الذي وقف موقفًا عنيفًا من أدب النساء، بقوله "ليس لهن من ذوق حقيقي أو إدراك صحيح للموسيقى أو الشعر أو الفنون التصويرية، أمَّا الاستثناءات النسبية الطفيفة فمما لا يقاس عليه، إذ لا تغير في حقيقة أنَّ النساء كن وسيبقين لا يُقدّرن الفنون إطلاقًا." ص 17.
ومع أنَّ الباحثَ يتّفق مع العقّاد بندرة الشاعرات؛ إلا أنَّه يسجّل مخالفته له في تعليله لتلك الظاهرة، فالباحثُ يرى أنَّ مقولة العقّاد" الأنوثةُ من حيث هي أنوثة ليست معبّرة عن عواطفها "زعمٌ قديم متوارث تجاوزته قدرات المرأة المعاصرة، ويظهر فيه تأثر العقاد برأي أرسطو، وإحالة ضمنية لتأكيد مصطلح "فحولة الشعر "عند نقاد العرب القدماء، ويخلص لحقيقة أنَّ الشعرَ تعبيرٌ فطريٌّ وحقٌّ طبيعي للرجل والمرأة، وأنَّ آراء الفلاسفة والمفكرين في قضية شاعرية المرأة وصلتنا من طبيعة عصورهم، وأنَّ وراء هاتيك الآراء أسبابًا خفيّة يعود بعضها لتبني فلسفة القوّة التي أملتها طبيعة العصر الذي عاش فيه الفيلسوف، ويعود بعضها الآخر لأسباب شخصيّة تتمثّل في كره الفيلسوف لزوجته أو أمّه، أو نتيجة فشله في الحب، كما هو الحال لدى الفيلسوف "شوبنهور" على سبيل التمثيل.
خصّص الباحثُ الفصل الثاني من كتابة للتعرف على شعر المرأة قبل الميلاد، من خلال مدارسة ومتابعة استبصارية لأهم شاعرات ذلك الزمن، لا سيّما " انهيدوانا " أول شاعرة سبقت الأغريقية "سافو" بعدة قرون، وسجّلت عنفوانًا شعريًّا خاصًّا، مؤكدًا على حقيقة أن ليس من السهل الاطمئنان لدقة معلومات تاريخية قديمة عن شعر المرأة قبل الميلاد، فقد عاشت الثقافة قرونًا وهي تعتقد أنَّ "سافو" هي أوّلُ شاعرةٍ في التاريخ، ثم أظهرت الاكتشافات والترجمات والتحقيقات أنَّ " انهيدوانا" هي الشاعرة الأولى، كما أنَّ من الصعوبة بمكان الاطمئنان إلى صواب الترجمات والتزامها بنقل النصوص إلى اللغات المعاصرة، بقسط من الدقة والأمانة العلمية، إذ تخضع الترجمات عادةً للهوى والمزاج والقدرات المتفاوتة في فهم النصوص والتعبير عنها.
وقف الباحث مع رحلة "سافو" الشعرية متتبعًا المصادر التي جاءت على ذكرها، مستشهدا بنماذج من أشعارها، فبعد ألف وسبعمائة من السنوات أفل نجم "انهيدوانا" في الحضارة السومرية، وسطع نجم "سافو" التي ولدت في جزيرة ليسبوس اليونانية، وامتازت بشخصيتها القوية المؤثرة، وطالتها الشائعات بخروجها على المألوف الأخلاقي.
يُعدُّ كتابُ "أغنيات سافو" أوّلَ محاولةٍ غربية جادة لجمع شعر الشاعرة، وأنَّ الشاعرة الأمريكية "ماري برنارد" في مقدمة المتحمسين لجمع شعر "سافو"، أمَّا عربيَّا فالمترجم عبد الغفار مكاوي أول من ترجم حياة الشاعرة وشعرها، وتبع هذه الجهود الرائدة كل من الناقد رجاء النقاش، والشاعر طاهر رياض.
خصّص الباحثُ فصلَ كتابه الثالث لشعر المرأة العربية في المختارات والأنطلوجيات، فوقف مع كتاب "شواعر الجاهلية" للباحثة السورية رغدا مارديني، وفيه وضعت الباحثة بين أيدينا عددًا وافرًا من شاعرات الجاهلية بنماذج من أشعارهن وترجمة لحيواتهن، ووقف مع شعر المرأة في كتاب حماسة أبي تمام، والذي يُعدُّ أحدَ أهمِّ الكتب التي أوردت نماذج من شعر المرأة الذي يتضح فيه انتصاره للشعر وليش للشاعر، كما وقف مع كتاب" نزهة الجلساء في ـشعر النساء" للسيوطي، وفيه نتعرف على شاعراتٍ من عهد الرشيد حتى الغزو المغولي، ويحتوي على نماذج شعرية لأربعين شاعرةً من العراق والشام والمغرب وبلاد الأندلس، والذي يجد الباحث فيه تفوقًا متميزًا في الجانب الفنيّ للنماذج الشعرية المختارة التي تجدّد اللغة العربية فيها شبابها وتجدد طاقتها الخلاقة.
يشيد الباحثُ بكتاب "مختارات من الشعر العربيّ في القرن العشرين"، في مجلداته الخمسة، الذي أصدرته مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع العربيّ، العمل التوثيقي والجهد الحضاريّ العروبيّ، على مستوى الأمة، حيث أفرد الكتاب سيرة ذاتية مختصرة لكلِّ شاعرٍ وشاعرة، وثلاثة نماذج شعرية منتقاة بنزاهة وموضوعية، مسجلًا عليه بعض الملاحظات؛ من أهمّها وجود شاعرات من القرن التاسع عشر، والكتاب معنون بالقرن العشرين، وخلوّ الكتاب من أصواتٍ شعريّةٍ عربيّةٍ لها حضورُها وانتشارُها، ولها مجاميع شعرية كثيرة، في حين أدخل أسماء شاعرات ليس لهن غير ديوان وحيد، وتركن الشعر لانشغالات ثقافية أخرى، كما يرى الباحث أنَّ من التعسف تقييم تجربة شعرية من خلال قصيدة واحدة فقط، وبتدقيق النظر في النصوص المنشورة وجد أنَّها جميعًا لا تخرج عن مضامين الشكوى من الحياة، والتعبير عن المعاناة المعيشيّة، والاتجاه للحلم كحلٍّ رومانسيٍّ حالم يكتسي بالحنين، والتباس الذات أمام أسئلة الوجود. أمَّا البنى الموسيقية للقصائد فلم تتجازو المتداول المعروف الذي تراوح بين الشطرين والتفعيلة وقصيدة النثر.
وعندما وقف الباحث أمام تجارب الأنطلوجيات الغربية كما في أنطلوجيا الشاعرات العربيات بالإيطالية والإنجليزية والألمانية، وجد فيها نماذج لشاعرات معروفات وغير معروفات ممن تنقصهن الخبرة، وخضوع اختيار الاسماء حسب العلاقة الشخصية والتغافل المقصود عن ذكر بعض الأسماء المعروفة، وضعف الترجمة، وتغليب الهدف التجاريّ.
تناول الباحثُ في فصل كتابه الرابع شعر المرأة في الدرس النقدي، مستعرضًا نماذج من الدراسات التي وردت في كتب أو مواقع إلكترونية، وقد وجد أنَّ غلبية الدراسات دارت حول التبجيل والتأريخ والانطباعية المتعجلة، وإن لم تخلُ أحيانًا من أحكامٍ موضوعيّة، مشيرًا لكتاب محمد العباس على أنَّه من أكثر الدراسات شجاعةً وشمولًا وعمقًا لشموله على عددٍ كبيرٍ من شاعرات العالم اللواتي صدرت بحقِّ شعرهن آراء غير مجاملة.
أفرد الباحثُ فصلَ كتابه الخامس لأهمِّ الشاعرات المعروفات في المشهد الثقافيّ العالميّ في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والمكسيك، وتشيلي، والبرازيل وأمريكا اللاتينية، وأسبانيا، والاتحاد السوفيتي، والهند، وباكستان، وفيتنام، وأفغانستان، مع الإشارة إلى أنَّ بعض الشاعرات من أصول جغرافية تخالف جنسياتهن.
هذا وقد خلص الباحث في كتابة لمجموعة ملاحظات ونتائج، بعد أن أكّد على أنَّ جهده هذا ليس غير مفاتيح واصفة لشعر المرأة، متمنيًّا أن يكون ذلك مدعاة لباحثين جدد يكملون الطريق في البحث عن السؤال الذي طُرح في بداية البحث، ومن نتائج بحثه:
- أغلبُ شعر المرأة العربية في الجاهلية مقطوعات قصيرة، لغرضٍ رئيسٍ متكررٍ هو الرثاء.
- سجّلت ليلى الأخيلية أفضلَ حضورٍ فنيٍّ في العصر الأمويّ بين الشاعرات.
- معظمُ شاعرات العصر الأندلسي والعباسي والفاطمي محظيات جاريات، ككثيرٍ من الشاعرات في الصين والأندلس، يقلن الشعر للتسلية وبما يوافق الذوق الذكوري.
- عائشة التيمورية تمتلك أدوات الشعر.
- شعرُ المرأة العربية المعاصرة اتّسم بالغزارة، ويعاني أغلبه من ترهل البناء الفني.
- نازك الملائكة حظها من الثقافة الشعرية والموهبة أوفر حظًا من فدوى طوقان.
- شعرُ الإغريقيات اتّجه لتمجيد الآلهة الحاكمة.
- اتّخذ شعر المرأة الأوروبية والأمريكية في القرنيين الأخيرين مساراتٍ متباينةً في موضوعاته ومعانيه وجمالياته.
- الشاعراتُ الصينيات عشن حياةً متأرجحةً بين الذل والحظوة، والشاعرات اليابانيات تمتعن بقسطٍ أعلى من الاحترام في المجتمع.
- شاعراتُ فيتنام والفلبين وكوريا مثقفاتٌ على الأغلب، يتماس شعرهن مع الواقع، والطبيعة بصورة بسيطة تجسّد الانتماء للوطن.
- تتفاوت الشاعراتُ في جودةِ التصوير الفنيّ، وندرةِ اللغة الشعريّة المتوهجة، وغلبة العاطفة والانفعال الرومانسي.
*صدر في عمان عن دار أزمنة للنشر والتوزيع