عارف عواد الهلال
كاتب وباحث أردني
اللغةُ: كلامٌ مبنيٌّ من الألفاظ التي تتشكّل من حروف الهجاء وصلًا وفصلًا( )، فيحدث النطق بها ابتداءً ووقفًا( )، جراء الصوت الناشئ جهرًا وهمسًا( ) عن إطباق الشفتين، أو زمهما، أو دفع الهواء خارجا، أو طرق أو ملامسة أطراف اللسان مواضع منابت حروف المباني( ) في جوف الفم، لتتشكل مقاطع الأصوات، فتكون الكلمات المتوافقة مع المعاني، فتأتي العبارات المشتملة على المقاصد لتتحقق الغاية من اللغة، فيصل المعنى بالتعبير الفصيح من المخاطِبِ إلى المخاطَبِ، سواءً أكان القول مسموعًا أم مقروءًا.
وتعدادُ حروف الهجاء ثلاثون حرفًا: (ء، ا، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، هـ، و، لا، ي)( )، وتنقسم إلى حروف نطق وحروف أصوات، فالحروف التي تخرج من الشفاه: (ب، ف، م، و)، وتلك التي مخرجها الحلق: (ء، ا، ح، خ، ق، ك، هـ، ع، غ، ي) جميعها حروف أصوات، أمَّا حروف النطق فالتي تنشأ من حركة اللسان: (ت، ث، ج، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ل، ن، لا)، وجميع الحروف تتردد ما بين الحركة والسكون لإنشاء الكلام، فلا يحدث اللفظ من السكون، ولا يستمر بالحركة( ).
فاللغةُ العربيةُ لها خصائصها التي لا تفارقها، تلك النسائم تقوم مقام الروح من الجسد، فكما الروح تبعث الحركة في الجسم، كذلك سمة اللغة ترسل الحياة في الكلمة، فيتجلى معناها وفق سياقها اللغوي، وإن تكررت ذات المفردة في مواضع متعددة، وهو ما يدخل تحت مسمّى (المجاز)، مع أنَّ أصل المعنى (موقوف)، وهذا يعني نفي الترادف في ألفاظ اللغة، وهو ما قال به أبو هلال العسكري في كتابه «الفروق اللغوية»( )، إذ لا تعطي كلمة معنى أختها على وجه الحقيقة، إنَّما تتوارد الألفاظ توسّعًا في المعنى مجازًا.
والمجازُ لا يعني القصور في اللغة عن احتواء المعاني، إنَّما تعظيمًا لها، فلكلِّ «مسمّى» اسم، ولكلِّ «أداءٍ» فعل، فإنَّ استخدم اسم أو فعل بدلًا من غيره في معناه -تعظيمًا أو تحقيرًا- فهنالك المجاز، على أن يتوافق معنى «الكلمة» في الحالتين مع عنصريّ الزمان والمكان، بما يشكّل بيئة للنص لمنحه وهج المعنى، فالكلام المنفصل عن الزمان والمكان لا يعدو أن يكون ترديدًا للألفاظ، وتعدادًا للعبارات التي تفضي إلى تشكيل النص، فالقول والحالة هذه إنشاءٌ بحت خالٍ من وحي اللغة.
فأسماءُ الأجناس موضحةٌ، وألفاظُ الأفعال مبينةٌ، غير أن التفاوت في المعاني يقع في فروعها، فلا يتساوى الرجال في الصفات، فلا شكَّ في التفاوت بينهم في الكرم والشجاعة والمروءة، ولا تتماثل النساء في الخصال، فلا بدَّ من التغاير بينهن في الجمال والدلال والوصال، وليست كلُّ الخيل نجائبَ، ولا كلُّ الإبل كرائمَ، وليس كلُّ نبتٍ نافعًا، ولا كل طعام طيّبًا، ولا كل شراب سائغًا.
فالتباينُ بين الأسماء والمسميات، وكذلك أبنية الأفعال تحدّده البيئة، أي ظرفا الزمان والمكان في ذات الآن غير متباعدين، فاصطناعهما ابتذالٌ، وربط الكلام بهما تكلف يخرج النص من سياقه، فيظهر جليًّا اختلال المعنى لعدم توافق المبنى مع ما يحيط به، وإن اجتهد القائل باختيار الألفاظ لتقريب الغاية إلى الأذهان، فأي لفظ يبتعد عن مكانه وزمانه لا بدَّ وأن يبتعد عن غايته، فيخالف مقصده، ولا يوائم مغزاه.
إنَّ انبجاس الكلام من مواضعه الحقة، يجعل اللفظ يقع في مواقعه الصحيحة، فيروي ظمأ السامع معنى، ويرسخ في عقله فهمًا، فاللفظُ المجرد لا تصل دلالته حدَّ الوعي والإدراك، بل يظلُّ قاصرًا عن التبيان والبيان، ويبقى حائرًا دون رتبتي البلاغة والفصاحة اللتين يظنهما الكثيرون وقفًا على اللفظ، دون احتساب لمواءمة المعنى وفق المغزى لمن أحكم المبنى.
يثور جدلٌ، يروّجه المحدثون -وهم يتبعون بأقوالهم الطبيعيين- حول تطوّر خلقة الإنسان، فيقولون بأنَّه تطوّر عن هيئة أخرى إلى الهيئة التي هو عليها الآن، وهم بذلك يتناسون -عن قصد أو بدونه- قوله تعالى: )لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(( ). فالتطوّر الذي يعني انتقال الإنسان من أطوار مخلوقات أخرى إلى طور الإنسان لا أصل له إلا في توهم المتوهمين، فهيئة البشر لم تتحوّل من خلقٍ إلى خلقٍ آخر مذ برأ الله آدم.
وعلى نظرية »تطوّر« الإنسان -عند الطبيعيين- قامت »نظرية« نشأة وتطور اللغة لدى المحدثين، فقالوا إنَّ َ الإنسان خُلِقَ أعجمًا لا يفصح الكلام، وبقي كذلك حينًا من الدهر، وكانت وسيلة تفاهمه مع الآخرين بالإيماء، ثم بالأصوات المبهمة، ثم استحدثت اللغة -وفق ادعائهم- للتعبير عن حاجاتهم، فتطوّرت اللغة مع تطور الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه من الدقة في البلاغة والفصاحة والبيان، واتبعهم أتباع بلا تبصّر، فأخذوا يرددون الأقوال بلا حجة سوى أن القول قد قيل ممن يعتبرونهم أئمتهم في الفكر، يسلكون دروبهم ولو على ضلالة، ولم يقفوا -وهم مُسَلِّمون- عند قوله تعالى: )وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا(( ). فأُلقيت اللغة على لسان آدم مذ بدء خلقه لقوله تعالى: )قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ(( ). وفي قوله تعالى: )فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(( ). وهذا تأكيد على أنَّ اللغة ليست من وضع الإنسان، إذ نطق بها آدم u منذ أن خلقه الله ودب فيه الروح، وقبل أن يهبط إلى الأرض.
لا بل إن وجود اللغة سابق لوجود البشر لقوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(( ). ففي خطاب الملائكة وتسبيحهم وحمدهم وتقديسهم لغة سبقت خلق آدم u. ومما يثبت أنَّ اللغة سابقة على خلق البشر قوله تعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(( ). فالجن مخلوقون قبل البشر لعبادة الله، وبعض أركان العبادة لا تكون إلا بالكلام، كالدعاء والاستغفار. بل لا مجازفة في القول بأنَّ اللغة أزلية أبدية( )، وأيسر الشواهد على ذلك أنَّ اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم المكنون في اللوح المحفوظ منذ الأزل، والقرآن محفوظ حكمًا ولفظًا سرمدًا لقوله تعالى: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(( ).
والتعليم من لدن ذي الجلال والإكرام -ولله المثل الأعلى- ليس تعليم تلقين، قال تعالى: )وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ(( ). إنَّما يكون التعليم إمَّا إلهامًا بإيداع الفطرة كالغرائز لحفظ الحياة، أو إلهامًا بالقذف في الروع كالإرشاد إلى الهدى، أو الانقياد إلى الهدى أو الضلال لقوله تعالى: )وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(( ). ويزداد الرسل عن سائر البشر بالوحي، قال تعالى: ) أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(( ). ثم يأتي التعليم بالتلقين بين الخلق، فينقل جيل عن جيل تواترًا.
فاللغةُ كنزٌ من كنوز علم الله عزَّ وجلَّ، يلهم شيئًا منها من يشاء من عباده، فيقذفها في روعه لينطق بها لسانه، ولا تكتمل علمًا جامعًا على لسان بشر مع جدة الاجتهاد، قال تعالى: )وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(( ). ومما يؤثر عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله: «لا يحيط باللغة إلا نبي». وإحاطة الأنبياء تأتي بالوحي والإلهام لا كسبًا بالتعلم، فقد قال النبي ﷺ من حديث الشفاعة: «... أَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ...». وقال u من حديث الدعاء: «... أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ...». وفي الحديثين ما يؤنس له بأنَّ اللغة من عند الله وليست من ابتداع البشر.
فمن قال بأنَّ الإنسان ابتدع اللغة فإنَّما يتخرص( ) بالباطل على الحق بلا دراية، نفيًا لإثبات راسخ بجهالة، وكان عليه التسليم بما لم يكن به حفيّا( )، فالعلم لا يتأصل بترديد القول على عواهنه، بل بسبر أغواره، واستجلاء بواطنه، قيل: العلوم أربعة: النجوم للأزمان، والطب للأبدان، والفقه للأديان، وأجلّها: النحو للسان، فلا علم إلى غيره إلا به( ). وكل علم من شتى العلوم على اتساعها راجع لأحد هذه العلوم الأربعة لا يخرج عن أحدها، وكلها جميعها لا تكون ألبتة بغير لسان، واللسان ليس من ابتداع الإنسان لدنوه عن مرتبة الكمال بذاته، وحاجته للاكتمال بسواه، ولن يصل إليه، فكلما أحسَّ بالامتلاء عاد وشعر بالفراغ، ليبقى النقص سمةً لا تبارح صفته.
فما للغة بهذا الإحكام من الأحكام، حروفًا وألفاظًا، وبناءً وبيانًا، وبلاغة وفصاحة، وضبطًا ونحوًا، واشتقاقًا وصرفًا أن تكون من استنباط البشر الذي يتهم بالبدائية غير السوية حينًا، وبالجهل وبالجاهلية أحيانًا، وبالعيِّ والأمية أحايين أخرى، مرورًا بعصور سموها بأسماء تدل على الجهالة الجهلاء في الأزمنة الظلماء، فنقلوها من عصور ما قبل التاريخ تدرجًا إلى العصور الحجرية الثلاثة، ثم إلى العصر البرونزي، وصولًا إلى العصر الحديدي، ومنه إلى العصور الحديثة، ولو سلمنا بمقولة الاستنباط، فإنَّ هذا التسليم منفي بالعلم لا بالادعاء، لأنَّ اللغة لو كانت من استنباط البشر، أو من علمه بذاته لاعتراها الخلل مع طول الزمن لانتفاء صفة الكمال عن الإنسان، ولتبين فيها النقص مما يوجب النقض، ولراودها التعديل والتبديل بين الحين والحين، والإنشاء والإلغاء مع تعاقب الأزمنة واختلاف الأمكنة، ولكانت عرضة لأن يدخل ويستقر في أصلها ما ليس منها بلا ضوابط.
الهوامش
المراجع