تُشكِّل تجربة الكاتب خيري منصور، ذات التنوُّع الأجناسي في بنيتها وأشكالها ومساربها وثيماتها: شعرًا، ونقدًا، ومقالةً، وسيرةً؛ مرجعيّةً زاخرة للثقافة العربية المعاصرة، ومدوّنةً راصدة لتحوُّلاتها وتغيُّراتها وتقلّباتها، وفلسفةً نقديّة عارفة لمنابتها وبنياتها وطرائق تشكّلها ومآلاتها، إذْ امتثلت التجربة لطبائع المراس والمران والصقل والصهر على مدى عقود متوالية من شهوة القراءة ولذاذاتها وقلق الكتابة وعذاباتها، لتتخلّق في جغرافيا محكومة بمناخ الانتباه.
وكانت بلدته دير غصون قرب طولكرم درسًا في جغرافيا المَنْبَت المَفتوح على نضارة الدنيا وشقوتها: فردوسه الأوَّل وجرحه الأبديّ، ترتحل معه على قلقٍ كأنّ الرّيح تحتهما، إلى القاهرة، وبغداد، وعمّان، لتتخلّل بنداوتها مفاصل الأمكنة، وتعيد تشكيل صورتها وصوتها في صور شعريّة وسرديّة باذخة، وتكتنز زمنها في رصيده المعرفي والثقافي والحياتي.
إنّ سيرته الحياتية والمعرفية ما تفتأ تكشف عن معارجها، فلكلّ معراج أنوارُه ومسرّاته، فكان معراجه الأوّل الشعر، راقيًا فيه سماواته من خلال مجموعاته الشعريّة السبعة: "ظلال" (1978)، و"غزلان الدم" (1981)، و"لا مراثي للنائم الجميل" (1983)، و"التيه وخنجر يسرق البلاد" (1987)، و"الكتابة بالقدمين" (1992)، و"نعاس أزلي" (2014)، و"ثرثرة بيضاء" (2014).
وفي رؤيته النقدية والثقافية، فقد تلبّس الانتباه بثاقب نظره، ابتداءً بـ"الكف والمخرز" (1980)، ثمّ "أبواب ومرايا: مقالات في حداثة الشعر" (1987)، و"تجارب في القراءة" (1988)، حتى كتابه الأبرز والأكثر وعورة وأهمية: "الاستشراق والوعي السالب" (2000)؛ وفي معراجه الأرضي، كان للسيرة وقفاتها المتأنية والمتأملة والمضيئة بعمق، وهي: "صبي الأسرار" (1993)، و"العصا والناي" (2009)، و"ثنائية الحياة والكتابة" (2014)، و"سيرة خاطفة" (2014)، و"الجغرافيا الحزينة: نصوص في نوستالجيا الأمكنة" (2021)؛ تلك المعارج التي كان لمقالته الراسخة والجذريّة فضلُ بناء فضاءاتها وعوالمها.
إنه، خيري منصور، كاتب المقالة الأكثر بلاغة وشهرة ومقروئيّة في العالم العربي، تلك التي شكّلت الفضاء الرحب والأكثر سعة وشمولًا لروحه الجامح، في سرديات كاشفة ومنقبة تنبني في فلسفتها على الحفر المعرفي، وتتوسل النثر أداة، لكنّه النثر الذي يستعير الشعر في كل تجلياته: لغةً، وفكرةً، إنها سردية شاعر الفكرة: معنى ومبنى، وله في ثنائيّة الشعر والنثر تشبيه بليغ وطريف، حيث يقول في إحدى أمسياته الشعرية: "إنني في كتابتي النثرية المنتظمة واستمراري في الشعر، دائمًا ما يخطر ببالي ذلك القارب البدائي، الذي يسير بمجذافين: أحدهما، ولنقل: الأيمن، يقترف الشعر؛ والكتابة الأخرى باليد اليسرى، فلا أرى إطلاقًا أيّ تعارض بينهما".
وفي هذا الملف، تهدف أسرة مجلة "أفكار"، كعادتها في تكريم الكتّاب العرب، إلى تسليط الضوء في أبرز معالم تجربته الشعرية والنقدية والثقافية والسّيريّة والصّحفية والحياتيّة، باستضافة نخبة من الكتاب الذين يقاربون هذه التجربة بعين الناظر الخبير، حيث يرى الصحفي محمود الريماوي أنَّ الثابت والجوهري لمقالات خيري منصور في الصحافة العربيّة انشغالها "بالنظرة الكلية ومناقشة المفاهيم والأطر العقلية، والتطرُّق إلى القضايا المحورية، وتفادى في الوقت ذاته الاشتباك مع الوقائع اليوميّة والتّطورات الملموسة"، في مقالته "خيري منصور: نجمًا أدبيًا في الصحافة"؛ وفي رؤيته لمشروعه الكتابي، يؤكد الناقد الأستاذ فخري صالح أنه "شاعر موهوب، وناقد حصيف متمرس، ومفكر مشغول بكيفية عمل الأفكار وتأثيرها في البشر والتاريخ، كما أنه سائح بين الأمكنة مغرم بالارتحال، متحرك لا يطيق القعود أو لزوم الأمكنة" وذلك في مقالته "تأمُّلاته العميقة تفرَّقت في جسوم مقالاته الكثيرة: خيري منصور المتأمّل في عنفوانه"؛ أمّا الشاعر والصحفي نضال برقان، في رؤيته النافذة لمشروع خيري منصور الشعري، فيرى "أنَّ قصيدته ظلّت طازجة وحارّة، ومختلفة أيضًا، إذ بقيت قريبة من شجون الناس وشؤونهم، وبخاصة على الصعيد الوطني، من جانب، كما بقيت حريصة على التمسك بشرطها الفني، مستفيدة من المخزون المعرفي لصاحبها، واهتماماته الكتابيّة"، في مقالته "خيري منصور: الشاعر الذي وهب جناحيه لغير القصيدة".
ويكشف الشاعر والفنان التشكيلي حسين نشوان عن منازلات خيري منصور الثقافية، فهو "المثقف العضوي الذي يحلّق وراء الفكرة الذهنية، يلامس تراب المعنى؛ ليرتقي إلى فضاء الدلالة منطلقًا من أنَّ الكلمة تمثل فعلًا معرفيًّا وتنويريًّا، ليرى الأمّة على صورته التي هي صورة متعددة وجامحة لا تقبل الركون"، في شهادته "خيري منصور: قلق المتعدِّد"؛ وبلغة تتلّبس المفارقة، يصف الشاعر والفنان التشكيلي محمد العامري صديقه وفق رؤيته للمشهد الثقافي العربي بأنّه: "شذوذ ثقافي يحتاج إلى فقيه شاذ يوازي ذلك الشذوذ في الأسئلة الخشنة، وهو المبضع الذي يذهب مباشرة إلى الورم الثقافي كي يبقر عينه"، وذلك في شهادته "خيري منصور: الصقر الذي ترك ريشه في الأعالي"، ويسلّط الشاعر أحمد اللاوندي الضوء على مفاصل حادة في سيرته الذاتية، في شهادته "خيري منصور فنجان قهوتنا".
لعلَّ لهذه الرُّؤى مجتمعة أن ترسم للقارئ صورة ذهنيّة للكاتب خيري منصور، وتمنحه في الوقت ذاته مفاتيح قراءة تجربته برؤيةٍ وعمقٍ، لجدارته بأن يكون مشروعه الشعري والثقافي أرضًا خصبة لقراءات نقديّة جادّة ثقافيًّا وأكاديميًّا وإعلاميًّا، بوصفه شجرة معرفيّة، جذرها في دير غصون، وفروعها في العالم العربي أجمع.
د. خلدون امنيعم