فخري صالح
ناقد أردني
خيري منصور كاتبٌ ألزَمَه العيش اليومي بتفريق تأمُّلاته العميقة في جسوم مقالاته الكثيرة، فهو شاعر واضح الموهبة، وناقد حصيف متمرِّس، ومفكر مشغول بكيفيّة عمل الأفكار وتأثيرها في البشر والتاريخ، كما أنه سائح بين الأمكنة مغرم بالارتحال، لكنه ذهب بالمقالة الصحفيّة اليوميّة إلى عوالم لم تألفها الصحافة العربية كثيرًا، أيْ المقالة التأمُّليّة التي تعنى باللغة والثقافة والفكر والبلاغة وجماليّات النثر البارع، بحيث غدت مقالته مختلفة عمّا نقرأ لغيره، فهي مقالة دسمة ينشغل فيها القارئ ببيان خيري الرَّفيع قبل أن يفطن إلى ما تنطوي عليه من أفكار وتأمُّلات، فقد عرف خيري كيف يشدُّ القارئ ويغيّر ذائقته ويرتقي بها، ويدفعه دفعًا هيّنًا رفيقًا لكي يبتلع الحقائق المُرّة التي تصعقه كلما تأمَّل العالم والأحداث من حوله.
A
المتأمِّل في مسيرة الصديق الراحل خيري منصور (1945- 2018) الأدبيّة والثقافيّة سيجد أنه من طينة أولئك الكُتّاب الموزعين بين أشكال الكتابة وأنواعها، لا يستقرّ على حال، ولا يعثر على نفسه في أيّ شكل من الأشكال. فهو شاعر واضح الموهبة، في جيل من شعراء الستينات العرب الذين جرَّبوا أعطيات شكل القصيدة العربيّة التفعيليّة، بعد أن بدأت تحقق بعض النضج في تجارب بدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، وعبدالوهاب البياتي، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وصلاح عبدالصبور، وأدونيس. وقد نشر خيري منصور عددًا من المجموعات الشعرية، التي تضيف إلى ما أنجزه ذاك الجيل: "ظلال" (1978)، "غزلان الدم" (1981)، "لا مراثي للنائم الجميل" (1983)، "التيه وخنجر يسرق البلاد" (1987)، "الكتابة بالقدمين" (1992)، "نعاس أزلي" (2014)، "ثرثرة بيضاء" (2014).
وهو، إضافة إلى ذلك، ناقد أدبي وثقافي ألَّف عددًا من الكتب النقدية والمراجعات الثقافية: "الكف والمخرز" (1980)، "أبواب ومرايا: مقالات في حداثة الشعر" (1987)، "تجارب في القراءة" (1988)، "الاستشراق والوعي السالب" (2000). كما نشر كتبًا في السيرة والسيرة المتخيّلة، وتأمُّلات حول العلاقة بالأمكنة: "صبي الأسرار" (1993)، "العصا والناي" (2009)، "ثنائية الحياة والكتابة" (2014)، "سيرة خاطفة" (2014)، "الجغرافيا الحزينة: نصوص في نوستالجيا الأمكنة" (2021).
ومن الواضح في هذا المنجز تردُّد خيري في اختيار شكل رئيس يعبِّر من خلاله عن تجربته، فهو شاعر موهوب، وناقد حصيف متمرس، ومفكر مشغول بكيفية عمل الأفكار وتأثيرها في البشر والتاريخ، كما أنه سائح بين الأمكنة مغرم بالارتحال، متحرك لا يطيق القعود أو لزوم الأمكنة.
لكنَّ شكل الكتابة الذي برع فيه خيري منصور، وصار علامة له وعليه، هو المقالة، الطويلة أو القصيرة؛ المتمهلة أو الخاطفة التي تصل إلى مبتغاها في بضع كلمات؛ السياسية، أو الأدبية أو الثقافية أو الفكرية؛ التأملية أو البحثية، بحيث تسابقت الصحف والمواقع لاستكتابه. فمقالته لامعة، مميزة، لافتة، فيها من جمال الأسلوب والألمعيّة بقدر ما فيها من دقة في الفكر وحذاقة في التأمُّل.
ومع ذلك، فلربما كانت الصحافة محنةً لو أنَّ خيري منصور لم يكن ذلك المثقف الكبير الواسع المعرفة، والقارئ المدقق الحصيف، والمتأمل الواسع الخيال والبارع في ربط الأحداث والنصوص والتأويلات التي لا تخطر على بال كثير من كتاب المقالات غيره. فقد جاء إلى الصحافة من عالم الأدب، من الشعر والنقد والدراسة الأدبية، ما جعله، وهو كاتب العمود الصحافي الذي يدبج كل يوم مقالتين أو ثلاثًا، يذهب بالمقالة الصحفية اليومية إلى عوالم لم تألفها الصحافة العربية كثيرًا، أي المقالة التأمليّة التي تعنى باللغة والثقافة والفكر والبلاغة وجماليات النثر البارع الذي يخطف الانتباه، بحيث غدت مقالته اليومية، أو الأسبوعية، التي يطالعنا بها في صحف "الدستور" و"الخليج" و"القدس العربي"، مختلفة عن كل ما نقرؤه لغيره. فهي مقالة دسمة ينشغل فيها القارئ ببيان خيري الرفيع قبل أن يفطن إلى ما تنطوي عليه من أفكار وتأملات وتعليق جانبي على أحداث الحياة اليومية وشجونها، والشخوص العابرين فيها، والعواصف والزلازل والبراكين التي تهزها، قالبةً العالم رأسًا على عقب.
لقد عرف خيري كيف يشدُّ قارئه ويغيّر ذائقته ويرتقي بها، ويدفعه دفعًا هيّنًا رفيقًا لكي يبتلع الحقائق المرّة التي تصعقه كلما تأمَّل العالم والأحداث من حوله. تلك كانت ميزةً في كتابة خيري تجعل مقالته تحيا وتدوم بعد زوال الحدث اليومي وانطفائه في الذاكرة؛ فما يسعى إليه في هذه الكتابة ليس التعليق على الحدث فقط، واتخاذ موقف منه، بل النفاذ إلى جوهره، إلى ما يربطه بغيره من أحداث ومواقف، وما يشير إليه من طبائع البشر وسلوكهم واشتباكهم اليومي والصراع الذي يدور بينهم منذ بدء الخليقة.
ولا يعني هذا أنَّ خيري كان يسعى إلى تأمُّل ميتافيزيقي لأحوال العالم، تأمُّلٍ يرى صلات ماورائيّة، فوق طبيعية، تشدُّ الأحداث وسلوك البشر وصراعاتهم إلى بعضها بعضًا، بل إنه كان يسعى إلى البحث عن الدفين والمتواري من الأسباب التي تدفعهم لكي يتصرَّفوا على الشاكلة التي يتصرفون وفقها. ولا غرابة، أنه كرَّر في كثير من مقالاته إعجابه الكبير بالنثر التأمُّلي، الذي يقترب من المقالة المكثفة أو الممتدة، ولا يتقيَّد بسمات الأنواع ويسعى إلى القبض على جواهر المعاني، منطلقًا على حدود الأنواع غائصًا في أعماقها دون أن يكون شعرًا، أو قصًّا، أو مسرحًا؛ سردًا أو سطرًا شعريًّا تأمليًا يقتنص المعنى، بل أحشاءه الداخلية العميقة. ولعل هذا هو السبب الكامن وراء كثرة عودته إلى كتابات "جان بول سارتر" و"ألبير كامي"، ورواية "رباعية الإسكندرية" لـ"لورنس داريل"، وعدد قليل من روايات نجيب محفوظ. فما كان يسحره في كتابات هؤلاء، أو بعضها على الأقل، هو التأمُّل، تلك الكلمة السحرية التي تتردَّد في كتابات خيري وكأنها التعويذة، أو الندَّاهة، وهذه كلمة أخرى كثيرًا ما سحرته وتردَّدت في كتاباته وجعلته يخطو مسحورًا زائغ البصر إلى حيث الحوريَّةُ التي تنتظره في الأعماق.
مَن يقرأ مقالات خيري منصور، الطويل منها والقصير، ويتأمَّل الرابط الذي يجمعها، ويشكل الخيط الناظم الذي يشدّها، سيعثر على جوهر تأمُّلاته في معنى العيش البشري، وعيش العرب المعاصرين على الأخصّ، مقارنًا بينهم وبين غيرهم من الأمم؛ والمقارنة بيننا وبينهم، بين العرب والغرب، بين العالم الثالث والعالمين الأول والثاني، هاجسٌ وسواسيٌّ آخر كان يقلق خيري ويقضُّ مضجعه ويتردَّد في آلاف من مقالاته التي تأمَّل فيها أحوالنا وعاداتنا التي أقعدتنا في التخلف وأوقعتنا في التبعيّة.
لقد نشر الصديق الراحل خيري منصور عددًا قليلًا من المجموعات الشعرية، وعددًا أقل من الكتب النقدية والفكرية، لكنه بثَّ شعره وأفكاره وتحليلاته العميقة في مقالاته التي تستحق أن تجمع في مجلدات عديدة لقيمتها الفكرية والثقافية الكبيرة، فبطون الصحف تبتلع كل شيء، العظيمَ وقليلَ القيمة من الكتابات في الوقت نفسه، وكتابة خيري تستحق الجمع والنشر والتقديم للقراء، حتى نتبيَّن القماشة الحقيقيّة لهذا الكاتب الكبير الذي ألزمه العيش اليومي بتفريق تأمُّلاته العميقة في جسوم مقالاته الكثيرة.