نضال برقان
شاعر وكاتب أردني
لعلَّ التباطؤ في الكتابة الشعريّة في مُجمل تجربة خيري منصور، أتاح الفرصة لاهتماماته الكتابيّة الأخرى لتبسط عباءتها على مجمل تجربته الإبداعيّة، ولينسحب الشاعر، أو يتراجع، داخل ذاته، من دون أن يُسقِط راية الشِّعر من يده؛ فظلّت قصيدته طازجة وحارة، ومختلفة أيضًا، إذ بقيت قريبة من شجون الناس وشؤونهم، وبخاصة على الصعيد الوطني، كما بقيت حريصة على التمسُّك بشرطها الفني، مستفيدة من المخزون المعرفي لصاحبها، واهتماماته الكتابيّة.
سبعةُ دواوين كانت كفيلة لأن تسجّل اسم خيري منصور في المدوّنة الشعرية العربية الحديثة، بوصفه أحد شعرائها المتميِّزين، والمتفرِّدين، أسوة بشعراء جيله: عزالدين المناصرة، ومحمد القيسي، ومريد البرغوثي، غير أنَّ شهرته بوصفه صاحب مقالة يوميّة، محكمة ومتميّزة، كان لها رأي آخر، إذ سجَّلت تلك الشهرة اسمه في الذاكرة الجمعيّة العربيّة بوصفه كاتبًا، ولم تستطع أن تسجِّل اسمه بوصفه شاعرًا، إلا في ذاكرة نفر قليلين، ممَّن أتيح لهم قراءة دواوينه الشعريّة السبعة، أو بعضها على أقل تقدير.
وعلى الرّغم من اهتمامات خيري منصور الكتابية، وتشعُّباته بين الخاطرة، والنقد، والبحث، غير أنَّ قصيدته ظلّت طازجة وحارة، ومختلفة أيضًا، إذ بقيت قريبة من شجون الناس وشؤونهم، وبخاصة على الصعيد الوطني، من جانب، كما بقيت حريصة على التمسُّك بشرطها الفني، مستفيدة من المخزون المعرفي لصاحبها، واهتماماته الكتابية من جانب آخر، وقد انعكس ذلك على قصيدته، التي كانت، على غرار مقالته، حريصة على تقديم جرعة تثقيفيّة ومعرفيّة لقارئها.
استهلَّ خيري منصور تجربته الشعرية بــ"ظلال" (1978)، وكان في الثالثة والثلاثين من عمره وقتئذ، ما يعكس تريُّثه الشديد ومراجعته المتأنية لتجربته الشعرية قبل أن يُصدر ديوانه الأول، ثم أتبعه بـ"غزلان الدم" (1981)، و"لا مراثي للنائم الجميل" (1983) ، و"التيه وخنجر يسرق وجه البلاد" (1987)، و"الكتابة بالقدمين" (1992)، فـ"سيرة خاطفة" (2014)، ثم "نعاس أزلي" (2014)، ولعلَّ ذلك التباطؤ في الكتابة الشعرية، في مجمل تجربة خيري منصور، أتاح الفرصة لاهتماماته الكتابيّة الأخرى لتبسط عباءتها على مجمل تجربته الإبداعية، ولينسحب الشاعر، أو يتراجع، داخل ذاته، من دون أن يُسقِط راية الشعر من يده.
تجتمع دواوين الشاعر السبعة على مجموعة من الموضوعات الرئيسة، ومن أبرزها: الوطن (المقاومة/ فلسطين/ دير الغصون/ الجسر/ النهر..)، واللغة (الشاعر/ القصيدة)، الحقيقة (الولادة/ الكينونة/ الطفولة/ الصيرورة..)، وقد يبرز موضوع محدَّد في ديوان بعينه، غير أنه لن يهمل، أو يتجاوز الموضوعات الأخرى، الأمر الذي جعل مجمل التجربة تتمتَّع بوحدة موضوعيّة واحدة، يتحرَّك الشاعر خلالها أفقيًّا تارة، وعموديًّا تارة أخرى، من دون أن يخرج منها، أو عليها.
• أسئلة البدايات
في "غزلان الدّم" يتأمّل الشاعر ذاته، أو يحاول اكتشافها، كما في أولى قصائد الديوان "قراءات لوجه مهمل"، فنجده يتناسل "في: شهوةِ النارِ للريحِ"، ثم يسرد الشاعر مشهدًا مليئًا بالتفاصيل، يجسِّد عبوره من الغيب إلى الوجود، من الخيال إلى الحقيقة:
"يشتق وجهي تضاريس غير التي../ نبتت في المرايا../ بقّعتها الجرائدُ واعتُصرتْ/ في جوازِ السفر/ وأشتق اسمًا من اللغةِ البكرِ/ لم تعتمره الأغاني/ ولم يتغرغرْ به العازفون/ على وتر من دمي/ يتهجّاه نهر شريدٌ/ فيعود إلى البحرِ/ ترضعه شَجْرةُ النارِ../ تمتدّ.. تمتدّ.. حتى تصيرَ على عتمةِ العصرِ/ خيمة/ أتناسل في الأعين المترقبةِ الخائفةْ/ وتطرّزني العاشقاتُ نجومًا/ على معطف الليل في ليلة مطفأةْ/ هكذا../ تتوالدُ فيّ الفصولُ/ وتحبلُ بي كلّ أنثى.."(الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2006، ص19 وص20).
هكذا سيظلّ الشاعر مشغولًا بهاجس البداية/ الولادة، أولى الخطوات على درب الحقيقة، كما في قصيدته "غزلان الدّم"، حيث ثمّة "أسئلة تورق في الصحراء/ ولا ماء/ سنبلة تنثر في الريح ضفيرتها وتصيح: تعالوا/ هذا وجه يعرفني/ يتهجّاني جرحًا جرحًا ويناديني/ أتذكّر ماء غير الماء/ عشبًا غير العشب/ وليلًا يتناسل أيامًا موحشة/ ترعى ظلّي.."، وفي نهاية القصيدة يقف الشاعر أمام الحقيقة وجهًا لوجه، ليعلن كينونته، وأنه "منذور للصَّوت الآتي/ ودمي غزلان مُتعَبَة.."(الأعمال الشعرية، ص22، وص23).
ويظلُّ سؤال البدايات حاضرًا في "غزلان الدم"، وكأنَّ الشاعر إذ يطارد بداياته/ طفولته يطارد الحقيقة، تلك التي "في البدء يكون اسمها" (وهو عنوان واحدة من قصائد الديوان)، في ظلِّ ما يعتور الراهن المعيش من تزوير وتزييف، ففي قصيدته "طفولة"، يستعيد خيري مشهدًا من طفولته في محاولة لاستعادة البراءة: "مطر.. في الشوارع يعدو الصبي/ يكوّر في راحتيه المسافات/ والسفن الورقيّة../ كان الزقاق نحيلًا كخيط دم/ نزُّهُ شارع واستدار/ إلى العتبات التي شيدتها يداه/ وما وطأتها خطاه/ غافل أمه باع الدجاجة ثم انحنى/ يتحسّس جوربه الأخضرَ/ مطر في الشارع كهل تكوّم في معطف/ ليس يعرف صاحبه/ وارتداه الرصيف المبلّل كان المساء/ دافئًا في الأسرّة قرب النساء/ وكان المساء/ باردًا كالرصيف الذي يرتديه/ موحشًا كالرصيف الذي غادرته النساء/ مطر/ والشوارع مأهولة بصبيّ يكوّر في راحتيه/ المسافات والسفن الورقيّة/- إن مزارعنا في خطاه/ والشوارع خضراء.. مذ لامست/ جوربا/ تمنّاه طفل بقريتنا وارتداه"(الأعمال الشعرية، ص 40، وص41).
• قمر البقاع ببدلة الكاكي
في الديوان الثاني للشاعر يحضر الشهيد، من خلال عنوان الديوان بداية، "لا مراثي للنائم الجميل"، وتحضر المقاومة من خلال ذلك المفتتح الذي يتصدَّر الديوان: "قمر البقاع ببدلة الكاكي/ يطوف على متاريس الصُّمود/ خلع اسمه../ صار اسمه الحركي (نشأت)/ صار اسمه الحركي (نحن)"(الأعمال الشعرية، ص106).
وتطلّ أولى قصائد الديوان "كل قبر كمين"، مفعمة بروائح فلسطين، التي ستحضر في القصيدة من خلال قناع الأمّ، ليحدثنا الشاعر عن (أمّين) اثنتين: الأمّ الحقيقية التي تعتني بالأبناء والأحفاد، وفلسطين التي تعدّ الرجال للشهادة، كما تعدّ أبناءهم للسير على الطريق ذاتها، يقول الشاعر مصوِّرًا جانبًا من عملية استشهادية لأحد أبطال المقاومة: "..عندئذ/ خلع السترة المشتهاة/ الحذاء الأنيق/ ونام عميقًا/ على ضفة النهر/ قيل: الشجرْ/ غافل الحرس البربري/ فتح الجسر ليلًا/ ولملمه/ إصبع/ إصبعًا/ ومضى عائدًا/ مثقلًا بالثمرْ/ بين أُمَّيْن/ واحدةٌ تعصر القلب/ تبني لأحفادها الغائبين/ وواحدةٌ تعصر الشهداء لتبتاع خيمة طين/ وتبيضُ بها اللاجئين/ وُلِد الطفل ملتحيًا/ وعلى راحتيه بلاد تلوّح للقادمين.."(الأعمال الشعرية، ص107-109).
يواصل الهمّ الوطني حضوره في مجمل قصائد هذا الديوان، الذي كتبه الشاعر خيري منصور عقب الاجتياح الصهيوني لبيروت في العام 1982، على غرار قصيدة "فلسطين وأخواتها"، و"المسيح شهيدًا"، و"علي فودة"، التي يقول فيها: "الأرامل: سرب أرامل يعوينْ/ الأرامل: سرب أرامل يعوينْ/ الحبر: سرب أرامل يعوينْ/ الخبز: سرب أرامل يعوينْ/.../ إنهم يسجنون الصدى/ فالعواء خيانةْ/ وأنا يا بلاد الرّدى/ في يديْ قاتلي/ تركوني أمانةْ"(الأعمال الشعرية، ص115). وفي القصيدة إدانة لكل خائن وعميل وقاتل، فالقتلة متعدّدون، أمّا القتيل/ الشهيد/ الوطن.. فواحد.
وتتقلّب صور الشاعر في هذه المرحلة، فهو تارة شهيد، وأخرى شاهد على المجزرة، ومنحاز للحقيقة التي سيناضل لتصل للأجيال المقبلة، سيناضل من أجل أن يشعل القنديل، كما يقول في قصيدته "الشاهد": "دعيني أشعل القنديلْ/ وأعدو في ظلام الموتْ/ خذي عينيّ في قنديلْ/ لأجيال/ ستولد بعد هذا الصمت"(الأعمال الشعرية، ص117).
ويقلّب الشاعر مفردات المقاومة في هذه المرحلة، بوصفها خلاصًا من نير الاحتلال، فالقادة الحقيقيون، على أرض الواقع، هم الشهداء، لا الساسة ومن لفّ لفّهم، يقول الشاعر في قصيدته "رؤيا من الأعماق"، وكأنه يقرأ الرّاهن ويستشرف المستقبل: "أنا المنفيّ.. والعائدْ/ أنا المقتول والشاهدْ/ أنا المهزوم قبل النفخ في الأبواق والصامدْ/ أنا الآتون من شفق القصائدْ/ من بلاد لم يطأها الناسُ/ إني البائد المجهول والخالدْ/ أنا حين المقابر تسرج الشهداء/ ثانية/ وثالثة/ .. وحتى النّشر يوم قيامة الموتى/ دمي.. القائدْ.."(الأعمال الشعرية، ص162).
• محاولة في الرَّسم
في ديوانه "الكتابة بالقدمين" يدخل الشاعر مرحلة جديدة في الكتابة، على صعيدي الشكل والمضمون، فنراه يتأمَّل مرحلة المقاومة والنضال من الخارج، في محاولة لإعادة تشكيل المشهد من جديد بشيء من الموضوعيّة، وبعيدًا عن أدوات النضال المباشرة، كما في قصيدته "محاولة في الرسم"، التي تندرج في إطار تجربة شعرية مهموسة، بعيدة عن صخب المعركة والجبهة:
"تهم يدي بكتابة (بيتٍ)../ فأرسم بوّابة ونوافذ/ كانت نوافذ بيتي أوسع من بابه/ فهبّت رياح الطريق مسمّمةً بالفضول/ تهمّ يدي بالإشارة/ أو باتّهام الذي خاط أكفان أخوته/ في الزفاف المحرّم/ تخرج منها الأصابع.. قد لا تعود وأهمُّ بتسمية الشيء/ ينزلق الشيء نحو السديم/ فهل سالت الكلمات على بعضها في القواميس/ -كيف أفرّق بين بلادين/ أو جثتين؟/ وكيف أفرّق بين الحصى ورؤوس الأصابع/.. بين العصا والوترْ/ وكيف سأعرف أنَّ الربيع ربيع بدون شجرْ؟"(الأعمال الشعريّة، ص343، وص344).
محاولة الرسم بالكلمات للوطن المستلب يواصلها الشاعر بغير أسلوب فنّي، فنراه يستعيد تفاصيل البلاد في مجمل قصائده في هذه المرحلة، كما في قصيدة "مدينة من الذاكرة"، التي تسير بإيقاع اعتيادي منذ بدايتها وحتى قبيل النهاية، لتكون المفاجأة في نهاية القصيدة، فتلك المدينة/ الحلم/ الأمل، في الحقيقة، لم تكن موجودة يومًا، وكأنَّ ذلك المقاوِم، والمناضِل، يرفع راية بيضاء، بعد أن أعياه التعب..، يقول في القصيدة:
"لها ما لكل المدن:/ شارعان قديمان/ قد يبطئان ولا يرجعان/ وبضعة أعمدة قشرتها أظافر أيامها/ لها ساعة في حجرٍ/ عقربان طويلان.. طاحونة للبشرْ/ لها مثل كل المدنْ/ نهار من العابرين/ لها كبرياء، وليل مضاءٌ/ وبحرٌ وبضع سفنْ/ لها ما لكل المدنْ/.../ غير أنَّ مساءاتها/ حين تغرق تحت المطرْ/ تجعل الحجر الصلد يبكي من العري/ يهرب من وحشة الليل حتى الشجرْ/ لها مثل كل المدنْ/ كائنات/ تدور وتأكل/ ثم تجوع فتأكل/ تصحو، تنام/ تعيش.. تموت/ تحبّ وتكره/ لكنها/ لم تكنْ!"(الأعمال الشعرية، ص522، وص523).
• النَّعجة النّائمة
في قصيدته "رميم" يدرك الشاعر الحقيقة المُرَّة، بعد مشوار حافل في (مقارعة الخطوب)، فالأمّة العربيّة لم تزل تلك "النعجة النائمة"، التي لم تقُم بعد من سباتها، على الرغم من الويلات التي حلّت بها، ولا أمل في أن "تقوم لها قائمةْ"، يقول الشاعر: "سأتَّضح الآن أكثر/ إنَّ الرواية شارفت الخاتمةْ/ وفي آخر الفصل تشتعل النار في الماء/ والماء أصلب من صخرة جاثمةٍ/ بين ذراعي نبيّ.. نبوءته/ كل هذا الذي يعتري النعجة النائمةْ/ نهشتها الضباع ولمّا تزلْ/ تتحسّس "إليتها" الناعمةْ/ سأتَّضح الآن أكثر/ هذي الجموع من السائمةْ/ لن تقوم لها قائمةْ.."(الأعمال الشعرية، ص610).
حالة اليأس من الأمّة تتواصل مع الشاعر، فيقدِّم لنا صورة "تراجيكوميدية" عن المواطن العربي الذي اختزله بـ(جبر)، الذي ما انفكَّ يفتِّش عن نفسه من خلال شهوته، يقول في قصيدته "تراجيكوميديا جبر": "في المسافة/ بين يديه وساقيه/ كان يفتِّش عن نفسه/ ويقيس بخطوات قزم خطاهْ/ علّمته المكوث على قارعات القرى أمّه/ وتقمّص يومًا أباهْ/ فحبا نحوها/ لم تطعه خطاه/ وانتهى/ في المسافة ما بين شاهدتين/ هكذا.. بين قوسين هلّت وغابت/ على وجه (جبر) الحياةْ.."(الأعمال الشعرية، ص613).