هاني محمد علي
كاتب أردني
وضَعَ الجاحـظ حدًّا للخُـلق فقال بإيجاز بديع: "متى أَعَدَّت النَّفس عذرًا، كانت إلى القبيح أسرع". وغنيّ عن البيان ما في هذا القول من دلالات، ذلك أنَّهُ يرتكز على الفكرة الجوهريَّة التي يقوم عليها الفعل الأخلاقي ويصدر عنها، وهي الرُّسـوخ في النَّفس والتَّلقائيَّة. والمقصود بذلك الوجدان والنِّيَّة، إذ الفعل الأخلاقيُّ العَرَضيَّ ليس موجبًا لوصـف فاعله بأنَّهُ أخـلاقيٌّ أو غير أخـلاقيٍّ، كما أنَّ إطالة التَّفكير وتَكَلُّف الجهد لدفع الذَّات إلى الفعل الأخلاقيِّ ليس كافيًا لعدِّ صاحب الفعل مُتَخَلِّقًا به.
ينفي أبو عثمان الجاحظ أن تكون القيمةُ الأخلاقيَّة ذاتيَّةً أو شخصيَّة المنشأ لأنَّ هذا الاعتبار لا يقيم فرقًا بَيْنَ الإنسان والحيوان، ويقود إلى احتقار الأخلاق بدايةً ويوصل في منتهاه إلى ارتكاب الفواحش والآثام والحرام من دون الخوف من عقابٍ أيِّ عقاب، لأنَّ الوازع الشَّخصي والرَّادع الخارجي غير موجودين، وهذا ما جاء في ردِّه على أحد الدَّهريين بقوله: "ولا ينبغي لهذا الدَّهري أن يعرض لكتابنا هذا وإن دلَّ على خلاف مذهبه، ودعا إلى خلاف اعتقاده، لأنَّ الدَّهريَّ ليس يرى أنَّ في الأرض دينًا أو نِحْلَةً أو شريعةً أو مِلَّةً، ولا يرى للحلال حرمةً ولا يعرفه، ولا للحرام نهايةً ولا يعرفه، ولا يتوقَّع العقاب على الإساءة، ولا يترجَّى الثَّواب على الإحسان، وإنَّما الصَّواب عنده والحق في حكمه، أنَّه والبهيمة سيَّان، وأنَّهُ والسَّبع سيَّان؛ ليس القبيح عنده إلا ما خالف هواه، وأنَّ مدار الأمر على الإخفاق والدَّرك، وعلى اللذة والألم، وإنَّما الصَّواب فيما نال من المنفعة، وإن قتل ألف إنسان صالح لمنالة درهم رديء".
أدرك أبو عثمان أنَّ ربط منشأ القيم الأخلاقيَّة بالإنسان، الفرد على الأقل، كما فعل المغالطون قديمًا، والنَّفعيُّون والوضعيون وكثيرٌ من الوجوديين حاليًا، سيؤدِّي بالضَّرورة إلى القضاء على الأخلاق، ورُبَّما القضاء على البشر لأنَّ ضوابط السُّلوك ستكون ذاتيَّة فقط ولا يوجد أيُّ ضامنٍ لتوجيهها نحو الأفضل أو نحو الخير بالمعنى الأخلاقي. ولذلك راح يبحث عن مصدرٍ آخر للقيم الأخلاقيَّة. ولَعَلَّهُ تساءل في قرارة نفسه عمَّا إذا كان حكم ما مضى من كلامه مقتصرًا على الملاحدة والدَّهريين أم يندرج المؤمنون تحته أيضًا، حَتَّى اضطر إلى البحث في طبائع النَّاس وشهواتهم. ووجد أنَّ النَّاس مجبولون على الشَّهوات والطَّبائع القابلة للتَّقلب من حالٍ إلى حالٍ، بل إنَّها أَمْيَل إلى الانقلاب نحو ما يهلك ويفسد، بغضِّ النَّظر عن التَّفاوت في الفروقات الفرديَّة والجمعيَّة؛ الفرديَّة كالإيمان والكفران، والنَّفسية وغير ذلك، والجمعيَّة كالعوام والخواص وما إليها، ولذلك أصبح من المتعذَّر أيضًا فيما يرى الجاحظ أن ننسب نشأة القيم الأخلاقيَّة إلى البشر بالإطلاق؛ فرادى أو جماعات. ولم يبق أمامنا إلا الله عز وجلَّ مصدرًا للقيم الأخلاقيَّة، فيقول:
"إنَّا لما رأينا طبائع النَّاس وشهواتهم من شأنها التَّقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم وذهاب دنياهم، وإن كانت العامَّة أسرع إلى ذلك من الخاصة، فلا تنفكُّ طبائعهم من حملهم على ما يرد بهم ما لم يردوا بالقمع الشَّديد في العاجل ومن القصاص من العادل، ثُمَّ التَّنكيل في العقوبة على شرِّ الخيانة، وإسقاط القدر، وإزالة العدل مع الأسماء القبيحة والألقاب الهجينة، ثُمَّ بالإخافة الشَّديدة والحبس الطَّويل والتَّغريب عن الوطن، ثُمَّ الوعد بنار الأبد مع فوات الجنَّة، وإنَّما وَضَعَ الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوَّة العقل مادَّةً، ولتعديل الطبائع معونةً، لأنَّ العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه أُلفي بصيرًا بالرُّشد غير قادرٍ عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله وأوامر رأيه، فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشَّهوات وحبِّ العاجل فضل على زواجر العقل وأوامر الغيّ، كان العبد ممعنًا في الغيِّ والنساء والمكاثرة، والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها واشتدت جواذبها لصاحبها، ثُمَّ لم يعلم أنَّ فوقه ناقمًا عليه، وأنَّ لـه منتقمًا لنفسه من نفسه، أو مقتضيًا منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطَّبيعة ودواعي الشَّهوة طبعًا لا يمتنع معه وواجبًا لا يستطيع غيره".
يبدو من هذا النَّص أنَّ الجاحظ قد حلَّ مشكلةً مركَّبَةً قد تُثار حولها التَّساؤلات أو الاعتراضات، وذلك عندما أبان أنَّ الطَّبائع قابلةٌ للتَّعديل وليست ثابتةً جامدةً، ولا معدَّة وَفْقًا أو عكسًا لأوامر الله ونواهيه وهي ما يمثِّل عند الجاحظ القيم أو المثل الأخلاقيَّة الإيجابيَّة والسَّلبيَّة، ليخرج بذلك من دائرتي التَّسيير والتَّخيير المتفاصلتين ليكونَ الإنسانُ كما أكَّد مفكِّرنا في موضع آخر "مسخَّرًا لأَمْرٍ ومخيَّرًا في آخر"، ويعقِّبَ قائلًا: "ولولا الأمر والنَّهي لجاز التَّسخير في دقيق الأمور وجليلها، وخفيِّها وظاهرها، لأنَّ بني الإنسان إنَّما سُخِّروا لعائدة عليهم، ولم يُسَخَّروا للمعصية كما لم يسخَّروا للمفسدة، وقد تستوي الأسباب في مواضع وتتفاوت في مواضع، كلُّ ذلك ليجمع الله تعالى مصالح الدُّنيا ومراشد الدِّين".
ولكن على الرَّغْمِ ممّا مضى، لا بدَّ أن نجد مَن يتساءل هنا قائلًا:
طالما أنَّ الله عزَّ وجلَّ -كما يقول الجاحظ- يريد أن يجمع للإنسان مصالح الدُّنيا ومراشد الدِّين، فلِمَ لم يجعل الطَّبائع موافقةً لأوامره ونواهيه، بحيث لا يفعل الإنسان إلا ما أمره الله به ويجتنب كلَّ ما نهاه عنه فتسود ضروب الخير وتنتفي أشكال الشَّر؟
إضافة إلى ما تقدَّم، فقد أجاب الجاحظ عن هذا السُّؤال إجابةً رائعةً بارعةً تنفرع إلى شفعين متباينين، لا يخلو كلاهما من الطَّرافة والجدَّة والأهميَّة. نحا في أولهما منحًى فلسفيًّا في تحديد نسغ جوهر الفعل الأخلاقيِّ ونسيج مادته، واستقلَّ في الثَّاني بوجهة نظرٍ غريبةٍ في ظاهرها، تدعو إلى وقفة تأمُّلٍ وتفكيرٍ، وإن كانت عين الصَّواب في رأينا.
ويمكننا عامَّة أن نجمل الحديث عن إجابته هذه تحت العنوانين التاليين: الخلق بَيْنَ السَّجيَّة والرَّويَّة، وضرورة الشَّر. ولكن لا بُدَّ من أن نشير قبل أن نلج إليهما إلى مسألةٍ مهمَّةٍ أثارها أبوعثمان في سياق النَّص السَّابق والتي تمسُّ الفعل الخلقي من حيث الأمر والنَّهي. إذ يبدو لمفكِّرنا أنَّ النَّهي عن الإتيان بطائفةٍ من الأفعال ليس مرتبطًا بالإساءة إلى الآخرين والتَّعدي على حقوقهم وحسب، وإنَّما يتجاوز ذلك إلى اعتداء المرء على نفسه وإساءته إليها، بمعنى أنَّ الذي ينتهك النَّواهي والمحرَّمات الأخلاقيَّة إنَّما يعتدي على نفسه بالدَّرجة الأولى، ولذلك فإنَّ المحاسبة أو العقاب إنَّما تكون للاعتداء على النَّفس أو على الآخرين أو على كليهما معًا، وهذا ما يبدو في قوله: "ومن لم يعلم.... أنَّ لـه منتقمًا لنفسه من نفسه، أو مقتضيًا منه لغيره...".
الحق أنَّ هذه الفكرة وإن كانت مستمدَّةً من روح الدين الإسلامي التي تؤكِّدُ أنَّ الرُّوح أو النَّفس إنَّما هي لله وليس للإنسان أن يعتدي عليها. وانطلاقًا من هذه الفكرة كان تحريم الانتحار والتَّشديد على هذا التَّحريم، إلا أنَّنا لا نستطيع إلا أن نعدَّها مأثرةً عظيمة للجاحظ لا ينبغي أن تُجحد.
• الخلق بـين السجيَّة والرَّويَّة
لا أعتقد أنَّ ثَمَّةَ اختلافًا في أنَّ الفعل ذا الصُّورة الأخلاقيَّة لا يمكن أن ينعت بأنَّهُ خُلُقٌ ما لم ينبثق من النَّفس على نحوٍ تَلقائيٍّ غير مُتَكَلَّفٍ، ليس بالمعنى الذي ذهب إليه "ليفي بريل" Lévy Bruhl في تحديد الأخلاق بمطابقة السُّلوك للواجب، وإنَّما بالمعنى الذي أطَّره الإمام الغزالي بقوله: "الخلق عبارةٌ عن هيئةٍ في النَّفس راسخةٌ، عنها تصدر الأفعال بسهولةٍ ويسرٍ من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويَّة... وإنَّما اشترطنا أن تصدر الأفعال بسهولة من غير رويَّة لأنَّ من تكلَّف بذل المال أو السُّكوت عند الغضب بجهد ورويَّة لا يقال خُلُقُهُ السَّخاء والحلم".
ولذلك ذهب "لالاند" Lalande في مفهومه الثَّاني للأخلاق بوصفها السُّلوك الواقعي للنَّاس إلى إمكان وسمها بعلم وصف السَّجايا أو الطبائع، وبمعنى مشابه تقريبًا عرَّف "فولكييه" Foulquie الأخلاق بأنَّهَا منظومة قواعد السلوك التي ينبغي على المرء اتباعها ليحيا وفق طبيعته.
أمّا الجاحـظ الذي سبق جميع هـؤلاء زمانيًا فقد سـبقهم فكريًّا أيضًا بوضعه هذا الحدَّ للخــلق فقال بإيجاز بديع: "متى أَعَدَّت النَّفس عذرًا، كانت إلى القبيح أسرع". وغنيّ عن البيان ما في هذا القول من دلالةٍ واضحةٍ على ما سـبق، ذلك أنَّهُ يرتكز على "الفكرة الجوهريَّة التي يقوم عليها الفعل الأخلاقي ويصدر عنها، وهي الرُّسـوخ في النَّفس والتَّلقائيَّة. وأعني بذلك الوجدان والنِّيَّة، إذ الفعل الأخلاقيُّ العَرَضيَّ ليس موجبًا لوصـف فاعله بأنَّهُ أخـلاقيٌّ أو غير أخـلاقيٍّ، كما أنَّ إطالة التَّفكير وتَكَلُّف الجهد لدفع الذَّات إلى الفعل الأخلاقيِّ ليس كافيًا لعدِّ صاحب الفعل مُتَخَلِّقًا به"، ولذلك يقف صاحب العثمانيَّة مندهشًا أمام مَن يكون على طبعٍ كيف يؤول إلى غيره، كأن يكون كريمًا ويموت بخيلًا... ويقول: "وليس العجب من رجلٍ في طباعه سببٌ يصل بينه وبَيْنَ بعض الأمور يحركه في بعض الجهات، ولكن العجب ممّن مات على أن يذكر بالجود، وأن يسخى، وهو أبخل الخلق طبعًا، فتراه كَلِفًا باتِّخاذ الطَّيِّبات ومستهترًا بالتَّكثير منها، ثُمَّ هو أبدًا مفتضحٌ وأبدًا منتقص الطِّباع، ظاهر الخطأ، سيِّئ الجزع عند مؤاكلة من كان هو الدَّاعي له، والمرسل إليه، والعارف مدار لقمه ونهاية أكله".
هنا يمكن أن نعرض جواب الجاحظ عن السُّؤال الآنف -المطروح قبل هذه الفقرة- فنقول: يلزم عمَّا أسلفنا ضرورةً وجود إمكانيَّة الاختيار بَيْنَ بديلين نقيضين لا رديفين لكلِّ سلوكٍ يندرج ضمن فئة الأفعال الأخلاقيَّة، كيما تكون ثَمَّةَ أفعال تصدر عنه تلقائيَّة الطَّبع أو السَّجيَّة -أو ما يمكن نعتها بالموافِقة للنيّة- يمكن وصفها بأنَّها أخلاقيَّة أو غير أخلاقيَّة فيثاب صاحبها أو يعاقب "ولذلك -كما يقول الجاحظ- وضع الله في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرِّضا والبخل والسَّخاء والجزع والصَّبر والرِّياء والكبر والتَّواضع والسُّخط والقناعة، فجعلها عروقًا، ولن تفي قوَّة غريزة العقل لجميع قوى طبائعه وشهواته حَتَّى يقيم ما اعوجَّ منها ويسكن ما تحرك دون النَّظر الطَّويل الذي يشدها، والبحث الشَّديد الذي يشحذها، والتَّجارب التي تحنِّكها والفوائد التي تزيد منها، ولن يكثر النَّظر حَتَّى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حَتَّى تكثر الحوائج، ولن تبعد إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة، ولو أنَّ النَّاس تُركوا وقواهم ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكير في معاشهم وعواقب أمورهم، وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولدها مباشرة حواسهم دون أنْ يُسمعهم الله خواطر الأوّلين وآداب السَّلف المتقدمين وكتب ربِّ العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما مَيَّزوا من الأمور إلا القليل".
وبهـذا المعنى نجـد أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يخلق الإنسـان ليلقي به في مهبِّ رياح تناقض الطَّبائع والأوامر والنَّواهي، وإنَّما آتاه العقل "للتفكير في معاشه وعواقب أموره". "وأسمعه خواطر الأوّلين وآداب السَّلف" ليدرك بذاته أنَّ عواقب الالتزام بأوامر الله ونواهيه خيرٌ، وأنَّ مخالفتها شرٌ، ولتغدو المعرفة بهذا المعنى خيرًا بالمعنى السُّقراطي من حيث لا يرتكب إنسانٌ الإِثْمَ والشَّر إلا عن خطأٍ وجهلٍ، أو كما يقول الجاحظ: "المعرفة كُلُّها بَصَرٌ، والجهل كُلُّه عمى، والعمى كلُّه شينٌ ونقصٌ، والاستبانة كلُّها خير وفضل".