د. نادية هناوي
ناقدة وأكاديمية عراقية
كان لمبادئ "واين بوث" حول العقل والواقع وأهميّة فهمهما ودور العواطف في هذا الفهم، الأثر الكبير في منظري السَّرد غير الطبيعي ومنهم الإنجليزي "ألان بالمر" الذي أفاد من مناهج علم النفس الإدراكيّة في دراسة عواطف الشخصيّات وتصرُّفاتها وسلوكيّاتها الفرديّة أو المشتركة، فأوْلى "بالمر" اهتمامًا بالفلسفة العقليّة وما طرحه فلاسفة العقل حول العواطف، وأنَّ لا إدراك من دون عواطف متغلغلة بعمق في تضاعيف الخطاب الرِّوائي إلى درجة يصعب فصلها عن عناصر السَّرد الأخرى، حيث لا يمكن فصل الوعي عن العاطفة؛ ذلك أنَّ العالم مرتبط ارتباطًا جوهريًا بطرق إحساسنا. وفي هذه المقالة تتخذ الكاتبة من رواية "حبّة بغداد" للرِّوائي جمال حسين علي نموذجًا تطبيقيًّا للاستدلال على العواطف ودورها في السَّرد.
يُعدُّ كتاب (بلاغة الفن القصصي) لـ"واين بوث" الأطروحة الكبري والمركزية التي عليها بنيت أغلب تنظيرات ما عُرف بعد تسعينات القرن الماضي بعلم السرد ما بعد الكلاسيكي عامة والسرد غير الطبيعي خاصة. والسبب هو ما في هذا الكتاب من توجُّهات نقدية تعارض طروحات نقاد السرديات البنيويين في نظرتهم التعميمية وغير المعيارية للواقع التي عدَّها "بوث" مشكلة و"كيف أنَّ الكثيرين منهم يفضلون الانتقال بكل سهولة من تعميم صارخ عن عمل معيّن إلى أعمال أخرى وكأنَّ كل تلميذ مدرسة يجب أن يعرف أنَّ كل رواية لا همّ لها إلا الانطواء تحت مظلة هذا التعميم. إنَّ مثل هذه العملية خطرة جدًا خصوصًا في النقد الموضوعي الذي يتيح لموضوع قابل للوصف أن يصبح معياريًّا"(1).
ولا يخفى أنَّ منظري البنيوية وما بعدها لا ينكرون نظرية المحاكاة في الأدب، وبعضهم يقرّ بوجود علاقة عكسية بين الأدب والواقع، وهم متفقون على أنَّ التمثيل الأدبي للواقع قائم على عملية الإيهام بالحقيقة أو ما سماه "رولان بارت" الوهم المرجعي حيث "المحكي الأكثر واقعية الذي تستطيع تصويره يتطوّر تبعًا لطرق لا واقعية. وهذا ما نستطيع تسميته "الوهم المرجعي"(2)، كما فسَّر "ريفاتير" دلالة المرجع هنا بأنه "كل ما يمكن التفكير فيه أو التلميح إليه.. المرجع هو الغياب الذي يعوّض عنه حضور الدلائل.. وتتحكم فيها خصائص النص التي تقوم أولًا على أنَّ النص يخضع لمجرى مزدوج"(3)، ولكن "بوث" رفض القول بالوهم، ونظر إلى المؤلف بوصفه كيانًا حقيقيًا ما زالت النظريات النقدية تتجاهله، وعنه قال "بوث": "إنَّ المؤلف عندما يكتب لا يخلق مثالًا إنسانيًا عامًا فقط، ولكنه يخلق نسخة ضمنية من نفسه(4)، وبوجود صورتين للمؤلف صورته الحقيقية وصورة ضمنية ثانية له صار تساؤل "بوث" منطقيًا، وهو: لماذا يفسد أي تعليق من قبل المؤلف العمل الذي يقع فيه ذلك التعليق؟ وماذا يفعل المؤلف عندما يتدخل ليخبرنا بشيء عن قصته؟(5)
أمّا الشخصية سواء كانت ساردة أو مسرودة فإنها -بحسب "بوث"- ذات صلة بالمؤلف والقارئ وشخوص القصة الآخرين، كما أنَّ للقارئ صلة عاطفية بالمؤلف والشخصيات مع اختلاف المسافات التي بينهم.. بيد أنَّ الأهم برأينا هو ما ذهب إليه "بوث" من أنَّ السرد لا يموِّه الحقيقة، وإنما يظهرها للعيان، وأنَّ العقل هو الأساس في تفسير الواقع السردي.
واعتداد "بوث" بالعقل جعله يرى السرد علمًا لا فنًّا، ومن هذا العلم تتشكل مبادئ(6) تخضع لمنطق الصدق والكذب والاحتمال والاستحالة. وكثيرة هي المبادئ العقلية التي وضعها "بوث" وتتضاد مع النقد البنيوي، منها أنَّ السارد على نوعين: سارد موثوق عندما يتكلم بالنيابة عن الشخصية أو عندما يتصرّف بالتطابق مع مقاييس العمل، وسارد غير موثوق عندما لا يفعل ذلك. وبحسب "بوث" فإنَّ السارد ليس هو العليم بكل شيء، بل العليم هو المؤلف الحقيقي الذي يكتب السرد الموضوعي بشكل ليس فيه مهرب من المعرفة(7).
ومن المبادئ العقلية أيضًا أن لا نقاء خالصًا للفنّ وذلك من ناحية وجود العواطف وما عليها من مؤثرات وما لها من تأثيرات -وهو ما نبغي التركيز عليه هنا- فـ"العواطف هي أهم الهبات بالنسبة للكاتب(8) وهي المصدر الرئيس لعدم الصفاء الأدبي. والمطلب العلمي من دراسة العواطف في السرد هو الكشف عن القيم الأخلاقية، من هنا افترض "بوث" أنَّ "هنري جيمس" سيغضب "من الاقتراح الذي يقول إنَّ أعماله القصصية يجب أن تصفّى من مشاكلها الأخلاقية والعواطف الإنسانية، ثم إنَّ سارتر صارم في هجومه على الحلم المستحيل الذي ينوّه بإعطاء صورة حيادية للمجتمع، والحالة الإنسانية بالنسبة لسارتر أنَّ الرجال يعبّرون عن أنفسهم بصدق فقط عندما تجدهم في مواقف حب وكراهية وغضب وخوف وفرح في الحزن والإعجاب والأمل واليأس"(9).
واستعار "بوث" مصطلح (المعادل الموضوعي) من "ت.س. إليوت" لأنَّ به يمكن التعبير عن العواطف من خلال موقف أو سلسلة حوادث تكون معادلة لتلك العاطفة الخاصة. وأيّة تجربة حسيّة لا بدّ أن تسفر عن عواطف. وهو بهذا الاهتمام بالعاطفة إنما يدلل على إيمانه بأنَّ الأدب لا يتصنّع واقعيّته، بل هو عقلي في إدراك رمزيّته، ومثاله (جوجول) "عندما اخترع أكاكي أكاكيافيتش الموظف المسكين في قصة المعطف والمختفي وراء اسمه والذي كان ضحيّة للقدر ثم للبيروقراطية.. فإنه قام بأكبر دور في عمله البلاغي. وعندما ركّز جوجول على فكرة استعمال المعطف كرمز لطموح بطله.. فإنه اختار الموضوع الطبيعي السهل حتى يفي بفرضه(10)، بهذه التعادليّة تطوَّر المعطف في عقل البطل فصار رمزًا للأمان والمكانة الاجتماعية؛ ولهذا كانت سرقة المعطف تعني موت أكاكي.
إنَّ عدم إدراك الواقع يعني أن لا عواطف فيه، وإهمال العواطف يجعل الموضوعية صارمة، وأيّ عمل غير محتمل الوقوع أو متصنع أو فارغ أو مستحيل فلن يُتجاوب معه ولا يُستمتَع به بوصفه فنًّا. وضرب "بوث" مثالًا على ذلك بـِ"برخت" الذي قدّم مسرحيات ليست من النوع الأرسطي، مسرحيات تستند إلى التفحُّص العاطفي كشكل متطرِّف لما أراد كثير من الفنانين البحث عنه محاولين بذلك الانفصال عن الواقعيّة الصارمة(11)، وأهميّة هذا الطرح في علاقة الإدراك العاطفي بالواقع هي ما سيتخذ منها أحد منظري السرد غير الطبيعي مادة خصبة لأطروحته حول العقل الاجتماعي كما سيأتي لاحقًا.
والاهتمامات العقلانية أو المعرفية هي التي تجعل الفرد يشعر بلذة بلوغ الحقائق وتحصيل التفسيرات بالوقوف على الأسباب أو الأصول أو الدوافع أو على حقيقة الحياة نفسها، يقول "بوث": "هناك لذة في تعلم الحقيقة البسيطة وهناك لذة في تعلم أنَّ الحقيقة ليست سهلة.. لذا فإنَّ الفنان يجب أن يختار بطريقة واعية ولا واعية"(12).
واللذة عاطفة مكانها الوعي الذي مركزه العقل، والشعور بالعاطفة قد يتحقق من خلال سارد ثقة أو سارد غير ثقة، ويضرب "بوث" مثلًا بمسرحيّة هاملت "عندما يقص هوراشيو مقابلته الأولى مع الشبح في هاملت فإنَّ شخصيته وهو يتكلم مع الشبح مهمة بالنسبة لنا بالرغم من أنَّ ذلك لم يذكر في المسرحية، وعندما نقابل الأنا في الفن القصصي نكون على بيّنة من عقل يمرّ في تجربة عقل ستحول آراؤه عن التجربة بيننا وبين الحدث(13).
وكان لتأكيدات "واين بوث" على دور العقل أثرها في مُنظِّري السرد ما بعد الكلاسيكي ومنهم "ديفيد هيرمان" منظِّر السرد المعرفي، وكذلك أثرت في "براين ريتشاردسون" وغيرهم من المنظِّرين الذين وجّهوا أبحاثهم نحو دراسة العلاقة بين العقل والسرد وركزوا على المهارات في إدراك القيم من ناحية القدرة الفردية على فهم الآخرين نفسيًّا أو من ناحية السلوك الاجتماعي الذي يجعل الناس منخرطين في أمور كثيرة ومعقدة بالكلام أو من دون الحاجة إلى الكلام، فكان ذلك كله بمثابة المنعطف المعرفي الكبير الذي حصل في السرديات ما بعد البنيوية أبان تسعينات القرن العشرين.
• من مبادئ "بوث" العقليّة إلى إدراكيّة "بالمر" العاطفيّة
كان لمبادئ "واين بوث" حول العقل والواقع وأهمية فهمهما ودور العواطف في هذا الفهم، الأثر الكبير في منظري السرد غير الطبيعي ومنهم الإنجليزي "ألان بالمر" Alan Palmar الذي أفاد من مناهج علم النفس الإدراكية في دراسة عواطف الشخصيات وتصرفاتها وسلوكياتها الفردية أو المشتركة بكتابين الأول هو "العقل الخيالي" Fictional Minds; frontiers of narrative 2004 والصادر عن جامعة نبراسكا، والثاني هو "العقل الاجتماعي في الرواية" Social Mind in the novel 2010 والصادر عن جامعة ولاية أوهايو -وسيكون هذا الكتاب موضع الرصد هنا- وفيه اهتمَّ "بالمر" بالطريقة التي بها تفكر الشخصيات في الرواية والعلاقة بين العقول الاجتماعية والفردية في النظرية السردية.
ويقوم الكتاب على فكرة أنَّ العقل الاجتماعي مفهوم ثقافي لكيان معرفي خيالي، وظيفته تأطير الرواية بمنظور معيّن. وأنَّ ما من سبيل لفهم الأبنية السردية ما لم نفهم العقل الاجتماعي على أساس أنَّ الأفكار مرئيّة من خلال الشخصيات(14)، وقد استهل "بالمر" كتابه بقول "أوسكار وايلد": "إنَّ الأشخاص السطحيين لا يحكم عليهم بالمظاهر، وإنَّ السر الحقيقي للعالم هو وجهه المرئي" مبيّنًا أنَّ هناك أوجه شَبَه في العقول الاجتماعية للشخصيات، وأنَّ العقول الخيالية لا تعمل في الفراغ بمعزل عن العقول الاجتماعية، كما أنَّ عملية تفسير السلوك الاجتماعي لكل شخصية يظلّ غير مكتمل ما لم نأخذ في الاعتبار الجوانب الفنية التي تشكل عقلها الفردي.
وأغلب تمثيلات "بالمر" كانت على الرواية الأنجلوأميركيّة كروايات "ديكنز" و"جين أوستن" و"جورج إليوت" و"أنتوني ترولوب" و"فرجينيا وولف" و"هنري جيمس" و"كونراد"، فضلًا عن قصص وروايات حداثية منها "وردة لإميلي" 1979 لـ"فولكنر"، و"الغرفة الصينية" لـ"جون سيرل" 1980.
وتتبَّع "بالمر" تاريخ توظيف العقل الاجتماعي في الرواية الأنجلوأميركيّة بدءًا من روايات القرن الثامن عشر إلى روايات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، وتوصَّل إلى أنَّ هناك تطورًا في درجة الاهتمام بالعقل الاجتماعي، ليكون سمة فريدة من سمات روايات القرن التاسع عشر، وفيها كانت الشخصيات تقرأ عقول الآخرين بمعنى قراءة الوجوه والأجساد. ومن الآثار المترتبة على مثل هذه القراءات أن تتشكل منظورات خارجيّة بينما صارت الشخصيات في روايات تيّار الوعي والروايات متعددة الأصوات وما بعد الحداثية أكثر تعقيدًا؛ فالشخصية على استعداد للاعتراف وقراءة عقلها أخلاقيًّا وأنثروبولوجيًّا واجتماعيًّا ولغويًّا قراءة تكشف عن منظورها الداخلي باستعمال تقانات تيّار الوعي كالحوار الحُرّ المباشر والحوار غير المباشر والحوار المروي والمونولوج الداخلي التي تساهم جميعها في تكوُّن وجهة نظر أيديولوجية يكشف عنها الخطاب السردي من ناحية وعيها وشعورها العاطفي وغرابة أطوارها أو خطأ افتراضاتها.
وتساءل "بالمر" كيف نعرف أنَّ الشخصية تفكر؟ وما الوظائف التي يؤدّيها العقل الاجتماعي؟ وهل تكون له أشكال مختلفة أو عناصر يتشكّل منها؟
وأجاب إنّنا عندما نتحدَّث عن العقل الاجتماعي فإنَّنا نتحدَّث عن فكر مشترك وجماعي inter mental وعن مجموعة المهارات والروابط والقدرات والميول والعادات والتصرفات، وهو ما يتمظهر في الرواية بصور كثيرة، فالشخصية قد تعرف أنَّ غيرها يفكر سواء أكان هذا الغير معروفًا وقريبًا أو كان غريبًا وبعيدًا لكن مجرّد تفكيرها فيه يجعل عالمها متماسكًا ببعض المعرفة التي تجعلها في الأقل تعرف ما الذي يفعله الآخرون من دون أن يضطروا إلى قول أي شيء أو يحاولوا إخبارنا بشيء يخالف ما لديهم من أفكار سريّة لا يعرفها أي شخص آخر أو تخمين ما يمكن لشخصين أن يقولاه في محادثة من خلال بعض المعرفة بفكر أحدهما.
وركّز "ألان بالمر" في دراسته للعقل الاجتماعي على مسائل كانت البنيوية قد أهملتها كثيرًا، منها أنَّ لكل شخصية تأثيراتها العاطفية على القرّاء ومنها أنَّ للعواطف قيمة معرفية تجعل للشخصية وظائف عقلية يمكن أن ننسبها إلى العقل الخيالي ممّا له صلة بالعواطف التي هي محرّكات السرد بقوّتها أو فوضويتها أو تعقدها؛ فالمرء لا يعمل بلا عواطف ولا هو خالٍ منها، وقد تكون لها في العقل الخيالي مكانة ربّما هي أكبر ممّا في العقل الاجتماعي، وقد تتعارض عاطفة ما مع مجموعة من العواطف التي تظهرها شخصيات فاعلة ذات أدوار محددة بعناية داخل النص.
ولا خلاف في أنَّ البنيويين درسوا الوعي وتمثلاته في الرواية باستعمال تيار الوعي والمونولوج الداخلي أو الأسلوب غير المباشر الحُرّ، لكنهم لم يضعوا تصورات لوظائف العاطفة في السرد فظلّت الخلفية النظرية عائمة وغير محددة.
وقد أولى "بالمر" اهتمامًا بالفلسفة العقلية وما طرحه فلاسفة العقل حول العواطف، وأن لا إدراك من دون عواطف "متغلغلة بعمق في تضاعيف الخطاب الروائي إلى درجة يصعب فصلها عن عناصر السرد الأخرى. ولا يمكن فصل الوعي عن العاطفة ذلك أنَّ العالم مرتبط ارتباطًا جوهريًا بطرق إحساسنا"(15)، كما أفاد "بالمر" أيضًا من علماء النفس وما قالوه في ضوء علم الأعصاب عن الإدراك والعاطفة وأنهما مترابطان ارتباطًا وثيقًا، ونقل عن عالم النفس (كيث أوتلي) "أنَّ العواطف ليست على الهامش، بل هي كامنة في مركز الإدراك البشري"(16).
وبسبب ما وجده "بالمر" في النظرية السردية من قلة اهتمام بالعواطف، لذا ركّز اهتمامه على دراستها في عقول الشخصيّات الروائية من ناحية الخبرات الذاتية واضطراباتها الجسدية العامة المتعلقة بحركات الوجه والإشارات والإيماءات وردود الأفعال وغيرها.
والعواطف على أنواع؛ منها الإيجابية ومنها السلبية كالحماقة والجنون والغضب والألم والندم والذهول والارتباك. وهو ما يؤثر في الشخصية وحكمها الإدراكي على الاشياء من ناحية شعورها بالارتياح أو الانزعاج ومدى قدرتها أو عدم قدرتها على فعل شيء ما، وقد تنتج عن إدراكها ردود أفعال مستقبلية، يقول "بالمر": "أنا أزعم أنَّ الكثير من الوظائف العقلية التي تؤديها الشخصيات في الرواية تتكوّن من العواطف"(17).
وقد تصل الشخصية إلى درجة الإفراط في العواطف فلا تتمكن من السيطرة عليها أو لا تعرف ما يحدث معها وما حولها، ومن ثم تكون سببًا في سلبيتها ولا توافقية تجربتها وما تؤديه من وظائف. وللعواطف علاقة بالأمكنة التي تلعب دورًا مهمًا في توفير السياق الاجتماعي الذي فيه يعمل عقل الشخصية ضمن نطاق محدد بقدراتها الفردية. وما قد يتمخض عن الارتباط بالمدينة من عواطف يعبّر عنها بأنماط سلوك متوقعة أو غير متوقعة.
وهو ما نجده متجليًا في رواية "حبّة بغداد"(18) لجمال حسين علي التي تؤدي فيها بغداد دور المعادل الموضوعي للإنسان العراقي المستلب والمقهور، أمّا الحبّة فهي الدالة الرمزية على الاعتلال الذي أصاب المكان/ الإنسان وما يرتبط به من أبعاد عاطفية تمنح السرد منطقية وتجعله قادرًا على توصيل مضامينه الفكرية إلى القرّاء.
ويدلل المستهل (أعظم قصة يمكن تأليفها من النسيان) على مكمن الاعتلال وهو الذاكرة التي أصابها المحو والإلغاء. وهذا بالضبط هو محور الفكرة التي حولها تدور الرواية وموضوعها ما جرى في ظلّ الاحتلال الأميركي عام 2003 من عمليات تخريب للمكتبات ونهب للمخطوطات وسرقة للآثار وعنف وإرهاب طال جميع مرافق الثقافة والتراث.
الأمر الذي أدّى إلى تشويه الذاكرة وضياع التراث الثقافي لاسيما بعد ما طال المتحف العراقي والمكتبة الوطنية من عمليات نهب وحرق وسرقة. وبعد أن اغبرّت البلاد وهاجت العاصفة حصل أمر غريب سيحوِّل مجرى السرد من الواقعية إلى الرمزية. وهذا الأمر الغريب هو ظهور (حبّة بغداد) على جبهة كل فرد من أفراد الشعب "فما عادوا يعرفون مَن هم وأين يقعون وماذا ينبغي أن يفعلوا.. ظهرت في وجوه الشعب برمّته دمامل كما لو كانت الوصفة التي يتعرّف فيها كل واحد على الآخر"(19).
ومن بعدها فقد سكان البلاد ذاكرتهم وانحدروا إلى الجحيم على خطا "إنانا" السومرية نسوا أسماءهم والأرقام والألقاب وانتزعت ذاكرة الشعب بسرقة آثاره. صار الشعب بأشكال جديدة "بعضهم يمشون باختيارهم والآخرون آليًّا بلا هدى ربما اعتمادًا على ذاكرة أقدامهم التي تستدلّ إلى الشوارع والأمكنة"(20)، فالعاطفة التي يظهرها السارد بطريقة ساخرة إنما هي نظام إنذار يرسل إشاراته التي تشي بمآل خطير سينتهي إليه حال هذا الشعب.
وهذا يعني أنَّ العواطف لا يعبَّر عنها بالكلمات، وإنما هي إشارات ذات شفرات هي بمثابة رد فعل على الحدث الرهيب الذي هو الاحتلال وما نجم عنه من خراب ودمار ونسيان، أثَّر في بغداد/ الإنسان.
ولكن الأخطر ممّا تقدّم أنَّ هناك ذاكرة أخرى مضادة صارت تضخ للشعب، ذاكرة بتاريخ مغاير، ولم ينجُ من ذلك الخطر إلا شخصان ظلّا محتفظين بذاكرتهما هما الرجل الذي ما أعطاه السارد الموضوعي اسمًا كي يصير رمزًا لكل من وجد هويته في خدمة بلده. لذا أخذ على عاتقه مطاردة اللصوص الغزاة الذين نهبوا ذاكرة البلاد، مكرسًا حياته من أجل استرجاع المنهوب من الكتب والمخطوطات والتماثيل وغيرها. ولكي يتمكّن الرجل من فعل ذلك كله صنع الشاب "أمارجي" من جثث الضحايا المغدورين "كائن تشكّل من أشلاء القتلى وتراب الجرحى وسقته أمطار البلاد أربعين يومًا لتمنحه الحياة" وقدّمه كنموذج للحياة العراقية "كان هذا الكائن يطوّر نفسه باستمرار ولم يبق كما انبعث"(21) وكان في الأصل تجربة من ضمن خطة مستقبل ما بعد البشر حين يتعرّض الكوكب إلى فيروسات مجهولة.
وتجدر الإشارة إلى ان فكرة الإنسان المتفوق والجينات ودورها في تحسين البناء الاجتماعي كان الكاتب قد وظفها في رواية سابقة عنوانها "رسائل أمارجي"(22) وفيها ابتكر الرجل كائنًا جديدًا من أشلاء الضحايا وسماه "أمارجي" وهو اسم سومري يعني الحرية. أمّا مهمّته الجسيمة فسيقوم بتنفيذها في رواية (حبّة بغداد) التي فيها نصل إلى عقل شخصية أمارجي ونتبيّن منظورها الداخلي الذي تشكله العواطف بوصفها هي المحركة للتفكير والموقظة للإدراك. الأمر الذي يسهِّل على الشخصية التكيف مع محيطها واتخاذ القرارات بعقل فردي داخلي خاص لا يشترك مع العقل الجماعي من الناحية الأخلاقية.
وإذا كانت الواقعية قد تفندت بصناعة الرجل لهذا الكائن العجائبي، فإنَّ العاطفة ستعطي للسرد عقلانية بما سيتولد من علاقة "أمارجي" مع "أمالي جميل" الباحثة الجامعية من أصول عراقية وطالبة الدكتوراه التي تظهر عاطفة قوية تجاه العراق تعكسها في أبحاثها سواء حين ترافقه أو حين تلتقط الصور والأفلام الوثائقية التي بها تساعد أمارجي على أداء مهمته في استعادة الإرث العراقي المنهوب وإرجاعه إلى أهله.
ولأنَّ "أمارجي" الناجي الوحيد بذاكرته وعليه وحده تقع مهمة استعادة ذاكرة البلد تتكوّن وجهة النظر المركزية في الرواية منسجمة داخليًّا وخارجيًّا من مجموعة عواطف. وأولها عاطفة الأبوّة التي منطقت علاقة الرجل الذي أوصى الكائن العجيب أمارجي: أنَّ الحشود في الشوارع ليست سوى أجساد حيّة تحمل أرواحًا ميتة. وأنه إذا التزم بتنفيذ ما أوصاه الرجل فإنه بذلك سيكون خير ابن لأبيه، وهذه هي العاطفة الثانية، عاطفة البنوّة التي تؤدي دورها في الإقناع بحقيقة الكائن وإدراك منطقية الأحداث وتقبُّل مجرياتها.
أما العاطفة التي تتجلى خلال أداء "أمارجي" لمهمته السرية إلى المتحف وتوخيه الحذر من سلطة الاحتلال ممثلة بـ"جورج راسل" فهي عاطفة الأمومة التي تبدو على "ساندرا" -السيدة التي لديها تمويل جيد لتدريب الآثاريين العراقيين- فتعطف على "أمارجي" وتشعر إزاءه بالألفة. وإذا كانت فيما مضى قد لاحقت الرجل أثناء تكوين "أمارجي"، فإنَّ ذلك لم يمنع عاطفة الأمومة من أن تبدو عليها "يا إلهي لقد استنسخك مثله جعلك تشبهه بكل شيء من أين لك القدرة على نسف الآخرين بالحجج الفظيعة"(23).
ولعاطفة الحب دور مهم في التخلص من (وهم الذاكرة) واستعادة الذاكرة الحقيقية من خلال تتبُّع "أمارجي" للتاريخ وما فيه من نكبات حلّت ببغداد وجعلتها تسقط بأيدي الغزاة.
وقد أدرك "أمارجي" وهو الكائن العجيب الذي لا يطاله حرق ولا غرق ولا طمر "كلما مزقك تتوحّد أصلب"(24) أنَّ تاريخ النهب والسرقة قديم وأنَّ بلاد سومر هي أرض الكتابة المستباحة "حاميها حراميها" بدءًا من ملحمة الخلق البابلية ووصولًا إلى ابن الساعي الشاهد على ما قام به المغول في بغداد، واستمرارًا إلى العصر الحديث. فيتعمق شعور "أمارجي" بالروح الوطنية.
وبسبب مشاعر "أمارجي" الجياشة وبناء على إدراكه الواقعي للحياة، باشر الكتابة متذكرًا قول الرجل: "الكتابة ستحسِّن ذاكرة شعبك"(25) ويرسم طريقة لبناء الذاكرة فيبدأ من الجذور، جامعًا شتاتها المعطوب، وتساعده مرافقته "أمالي جميل" التي بدت في مهمّتها وهي تكشف حقيقة المحو كأنها "شمخة" التي عرَّفت "أنكيدو" بحقيقة نفسه "امنحني أفكارك التي شكلتها في قمة توهجك الوقاد وخذ بيدي لنعبر القنطرة إلى الضفة الأخرى مخلفين وراءنا شاطئ الخوف والحرمان"(26)، وتنتهي الرواية وقد صار الرجل وآمالي وأمارجي ثالوث استعادة الذاكرة العراقية المنهوبة.
وما كان للرواية أن تؤول إلى هذه النهاية وتغدو مقنعة، لولا العواطف ودورها التأثيري الذي أعطى لهذا الكائن -الذي أدرك قيمة تراث بلاده الثقافي واستمات في سبيل إرجاعه والحفاظ عليه- بُعدًا رمزيًّا ليكون الإنسان بعواطفه وأفكاره هو المعادل الموضوعي للمكان الذي هو العراق.
• الهوامش:
(1) بلاغة الفن القصصي، واين بوث، ترجمة أحمد خليل عردات، (الرياض: جامعة الملك سعود، 1994)، ص35. ويمكن أن نضم إلى بوث منظرين انجلوأميركيين آخرين مثل جيرالد برنس وكينث بروكس.
(2) الأدب والواقع، رولان بارت وهامون وايان وات ميكائيل ريفاتير، ترجمة عبدالجليل الأزدي ومحمد معتصم، (الجزائر: منشورات الاختلاف، ط2، 2003)، ص43.
(3) المصدر السابق، ص46-47. وعنوان مقالة ريفاتير هو (الوهم المرجعي).
(4) بلاغة الفن القصصي، مصدر سابق، ص83.
(5) المصدر السابق، ص9.
(6) المصدر السابق، ص192.
(7) المصدر السابق، ص188.
(8) المصدر السابق، ص115.
(9) المصدر السابق، ص112.
(10) المصدر السابق، ص115.
(11) المصدر السابق، ص142.
(12) المصدر السابق، ص157.
(13) المصدر السابق، ص176.
(14) Social Mind in the novel(theory interpretation narrative), Alan Palmar,Ohio state university press,2010, p 23
(15) See; P159
(16) See; P167
(17) See ; P44
(18) حبّة بغداد رواية، جمال حسين علي، دار المدى، بغداد، 2021.
(19) الرواية، ص11-12.
(20) الرواية، ص24.
(21) الرواية، ص26.
(22) رسائل أمارجي رواية، جمال حسين علي، دار المدى، 2019. ومن المقاطع التي تصف ولادة الكائن (ظهرت كف الكائن أعقبتها الكف الأخرى أزاحت ما تبقى من سعفات ثم جلس مشعًّا ذلك الوهج الذي يتوقعه الرجل.. أحس أن المهمة الحقيقية بدأت الآن وعليه أن يخبر هذا العراقي الجديد بما ينتظره) ص9-10 ومن بعدها اعتقل الرجل ودخل في سلسلة مغامرات ثم عاد التواصل بين الكائن والرجل عبر الطائر الزاجل الذي كان ينقل الرسائل بينهما.
(23) الرواية، ص39.
(24) الرواية، ص14.
(25) الرواية، ص22.
(26) الرواية، ص49.