مختار الماجري
كاتب تونسي
تتفرَّد شخصيّة "مرزوق" في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" بغناها الدرامي، وانغماسها الكلّي في الهَمّ الإنساني. وهو أمر يختلف عن فرادة الشخصيّات المحوريّة لأبطال الرواية العربية الكلاسيكية (أحمد عبدالجواد، مصطفى سعيد، زكريا المرسنلي، وغيرهم)، فـ"مرزوق" يمثّل الجوهر الأصيل للشعب، للحياة، للعمل، للأصالة، للشموخ، إنّه الإنسان الذي تكمن الأسطورة الحقيقية في حياته. وهو أيضًا شخصيّة رامزة، بل قطب الشخوص بما فيها الشخوص الرمزيّة؛ "مرزوق" يساوي كل الشخوص التي يعرضها الكاتب عبدالرحمن منيف في غربتها وانتمائها، في خوفها وجرأتها، كاشفًا علائقها بالتاريخ والواقع ليمنح القارئ كشفًا لذاته ولعالمه بعد تجربة الشخوص المماثلة.
لئن شمل "التعدُّد" العديد من العناصر الأسلوبية في الرواية الحديثة، فإنّه لم يستثنِ أيضًا عنصر الشخصيّة التي تبدو في ظاهرها واحدة من بين الشخصيات العامة لا تلك المتفرّدة التي تنشد الظهور والتميُّز من خلال الفرادة البطولية في الرواية الكلاسيكية. وهي شخصيات محورية تشدّ اهتمام القارئ كشخصية "أحمد عبدالجواد" في "ثلاثية" نجيب محفوظ، وشخصية "مصطفى سعيد" في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صالح، وشخصية "زكريا المرسنلي" في "الياطر" لحنّا مينة، وشخصية "مرزوق" في "الأشجار...واغتيال مرزوق" لعبدالرحمن منيف. وإن كان "أحمد عبدالجواد" رمزًا للبرجوازي المنقسم على ذاته، و"مصطفى سعيد" رمزًا للمثقف الممزّق بين الشرق والغرب، فإنّ شخصية "مرزوق" تختلف عن هاتين الشخصيتين من حيث أبعادها المترامية الأطراف، كما أشار إلى ذلك عبدالرحمن منيف على لسان إحدى شخصيّاته "مرزوق ليس واحدًا، مرزوق كل الناس، مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"(1). فمن يا ترى مرزوق؟ وكيف يكون متعدّدًا؟
إنّ "مرزوق" شخصية محورية في رواية عبدالرحمن منيف "الأشجار...واغتيال مرزوق"، ولعلّ ذكر اسمه في هذه الرواية دليل على أهميته. لكنّ الغريب في الأمر أنَّ هذا الاسم "مرزوق" لم يظهر إلّا حين تشرف الرواية على الانتهاء، وبالتحديد في قسم اليوميّات، وإذا أردنا أن نكون أكثر دقّة نقول: ظهر هذا الاسم في اليومية الرابعة عشرة المؤرخة بيوم "الجمعة 14 نيسان". وقسم اليوميات هو قسم يأتي قبل القسم الأخير المُعَنْون بالخاتمة، وبعد القسم الأوّل والقسم الثاني اللذين يمثلان الجانب الكبير من الرواية إن لم نقل الرواية كلها.
نقول –مبدئيًّا- إنّ ظهور "مرزوق" هو ظهور ذكري فحسب؛ أي لم تظهر لنا هذه الشخصية متحركة ملموسة كما نلمس وجود الفواعل الأخرى في الرواية كما هو الشأن في ظهور "إلياس نخلة" و"منصور عبدالسلام" مثلًا، أو ظهور "الشخصية الرمزية" بتعبير "فيليب هامون" مثل "الشجرة" أو "الأشجار" التي نلحظ حضورها المكثف داخل الرواية حتى صارت لازمة إيقاعية تتكرر من حين لآخر. أمّا شخصية مرزوق فهي "غائبة" -من هذا المستوى- بالمقارنة مع الشخصيات التي أشرنا إليها. فكيف يُعلن المؤلّف –على الرغم من هذا "الغياب"- على لسان إحدى شخصياته في جملة اسمية تقريرية "مرزوق ليس واحدًا، مرزوق كل الناس، مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"؟
نلاحظ أنّ كلمة "مرزوق" قد تكررت خمس مرّات في مقولة الكاتب المذكورة، إنّها الكلمة المفتاح، غير أنّها اقترنت بـ"كل الناس"، بـ"شجرة"، بـ"ينبوع، بـ"إلياس نخلة"، إذ لا وجود لمرزوق ولا قيمة له دون تلك الشخصيات، فمرزوق يحيلنا على الشخصيات، هو شخصية حبلى بالرموز، مثقلة بالمعاني، مشحونة بالدلالات، شخصية متجلية خفية، ففي خفائها موجودة، هي البُنى الصامتة في النص التي نقرؤها من بين السطور "مرزوق كل الناس"، أليست وجهًا لشخصيتيْ "منصور" و"إلياس"؟ أليست حلقة تصل بين عالم الشخوص في الرواية؟
جاءت شخصية "مرزوق" موصولة باغتيال الأشجار لأنّ اغتيال الأشجار هو اغتيال الإنسان، هذه الأشجار التي تبدو عروقها ضاربة في الأرض وجذوعها ممتدّة نحو السماء إنما تحكي قصة الإنسان، عزّة الأبطال وشموخهم، رغم الانهيارات والتشوّهات في الواقع، هي رمز النماء والتجدّد "مرزوق شجرة" بل قل هي رمز الحياة، ولذلك يتعلق بها "إلياس نخلة"، بل نراه متشرّدًا منذ اللحظة التي قامر فيها على الأشجار. ونلاحظ في هذه النقطة دلالة خاصّة للزمن، زمن التشرُّد اقترن ببداية المقامرة على الأشجار. ومنذ اغتيال الأشجار تغيّر في قرية الطِّيبة وجه الأرض، أصابت اللعنة "الطيبة" بسكانها فلا الحياة تجري ولا السماء تمطر... كل شيء تغيّر في قرية الطيبة، لأنّ الأشجار ليست النبات فقط، بل هي الحياة.
ومن جهة أخرى لو نظرنا في لقب "إلياس" نجده يتّصل بعالم الشجرة الرمز، فلقبه "نخلة"، وللنخلة دلالات شتّى منها ما يتصل بالشموخ والقيم المتعالية الموحية بشِيم الإنسان العربي، ومنها ما يتّصل بالتجذّر والأصالة والالتصاق بالأرض. أمّا الاسم "مرزوق" فيحيلنا مباشرة على الرزق، والأشجار مصدر هام للرزق، وبين مرزوق والأشجار صلة حميمية. وبناء على هذا التأسيس يصبح "مرزوق شجرة... مرزوق هو إلياس نخلة" بل "مرزوق ينبوع" أليست الأشجار مصدرًا للحياة أو ينبوعًا لها؟ أليس مصدر "مرزوق" الذي هو "الرزق" ينبوعًا للحياة؟
إذا ما نظرنا بدقّة في المقولة المفتاح في هذا المبحث: "مرزوق ليس واحدًا، مرزوق كل الناس، مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"، نجدها وردت على شاكلة خمس جمل مستقلة نحويًّا ومرتبطة معنويًّا. هي جمل قصيرة تتميّز بوحدة المبتدأ الذي هو "مرزوق" وتنوُّع الخبر. لكن هذه الأخبار المختلفة من جملة إلى أخرى هي في الحقيقة ترتبط معنويًّا ارتباطًا وثيقًا. ويمكن تقسيم تلك المقولة إلى جزئين مختلفين نسبيًّا؛ الجزء الأوّل "مرزوق ليس واحدًا، مرزوق كل الناس" والجزء الثاني بقية المقولة "مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت". وحين نتأمّل الجزئين نجدهما يفسّران بعضهما بعضًا؛ فمثلًا في الجزء الأوّل نجد الطرف الثاني يفسّر الطرف الأوّل، وكأنّ القول إنّ "مرزوق" ليس واحدًا غير كافٍ لإفهام المتلقّي، فيأتي الطرف الثاني ليوضّح "مرزوق كل الناس". ثمّ نجد أطراف الجزء الثاني من المقولة تفسّر بعضها بعضًا أيضًا "مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت". فكأنّ مصطلح "الينبوع" يوضّح لنا مصطلح "الشجرة" ولفظتيْ "إلياس نخلة" تفسّران الشجرة والينبوع، فإلياس يختزل في ذاته المفهومين السابقين. و"مرزوق" هو شجرة، ينبوع وإلياس نخلة الذي لا يموت. ثلاثة مفاهيم مختلفة البناء تشكّل شخصيةً واحدة هي شخصية مفعمة بإمكانية الفعل التاريخي تمتدّ جذورها في عمق الكينونة التي لا تُحدّ متوّجة بنداوة الحلم الذي هو آتٍ. تتداخل العناصر الثلاثة مشكّلة بنيان الشخصية دون أن تختلّ المعادلة في صياغتها، ومن هنا تكتسب فعلها الملحمي المتميّز.
وتبعًا لهذا النسق يتسنّى لنا القول إنّ الجزء التركيبي الثاني للموضوع الذي يشتمل على الشجرة والينبوع وإلياس ورد لتفسير الجزء الأوّل من المقولة التي صيغ عنصراها في شيء من الغموض، فهل أنّ "الشجرة" و"الينبوع" و"إلياس نخلة" هذه العناصر الثلاثة كافية للتدليل على مفهوم "مرزوق" خاصة إذا ما قرأنا "مرزوق كل الناس"؟
إنّ عبارة "كلّ" تجعلنا نتجاوز كل التحديدات التي نصّت عليها المقولة خاصة عند اقترانها بـ"الناس". نعم "مرزوق" هو "إلياس نخلة" ذلك الشخص الذي ضرب في الأرض سنين باحثًا عن لقمة العيش، يتنقّل من مكان إلى آخر لا ينزل بمكان إلّا ليفارقه، هو رجل يرفض الاستقرار ويأبى السكون، فبعد فقدان الأشجار التي قامر عليها تعاطى مِهَنًا عديدة: عمل عند دهّان، عمل بمقهى، عمل بالفرن، اشتغل بحمّام، اشتغل بنزل... تقلّب في حِرَف عديدة لكنّه لم يستقرّ في إحداها، لأنّه يؤمن بالحركة المستمرّة التي تنجيه من الموت، ألم يقل "منصور عبدالسلام": "إنّ إلياس مثل أمواج البحر لا يستقرّ لحظة واحدة لأنّه إذا استقرّ يكون قد مات"(2)؟
إنّ "إلياس نخلة" شخصية متحوّلة، بل هي الشخصية الفعل التي تأبى الركود، وتكابد ما تكابده من أتعاب وعذابات متنوعة من أجل الإيمان بأشياء عديدة. نعم هي شخصية متعبة عبّرت عن ذلك بنفسها حين سأل منصور إلياس: "وواصلْتَ الحياة في المدينة؟"، يجيب إلياس: "نعم واصلتُ العذابات"(3).
شخصية مهمومة تنوء بعبء الحياة، حيث أصبحت الحياة لديها مرادفة للعذاب، هي شخصية مسكونة بهاجس التحوّل ولا تخشى المغامرة، هي لا تخشى هذا العذاب ولا تحبّه، بل تنظر إليه من زاوية مخصوصة، هي شخصية متفردة على عكس عامة الناس، يقول "إلياس نخلة" مخاطبًا "منصور عبدالسلام": "لا تتصوّر أنّني لا أحب الشوك، أنا عكس كثير من الناس، أرى في الشوك عبقرية من عبقريات الطبيعة"(4).
نعم إنّ "مرزوق هو إلياس نخلة" وهو "شجرة" كما نصّت على ذلك المقولةُ، ويتأكّد هذا المعنى على لسان "إلياس" وهو يخاطب أبناء بلدته: "إنكم تقطعون أرزاقكم وأنتم تقطعون الأشجار..."(5). أمّا "مرزوق كل الناس" فأمر يتجاوز المعطيات المذكورة، ولكن في تجاوزها يمثّلها من وجوه أخرى مختلفة، فـ"مرزوق" الذي هو "إلياس" هو أيضًا "منصور عبدالسلام"، وبين "مرزوق" و"منصور" علاقة حميمية لا تنفصم، يقول "منصور عبدالسلام" في قسم اليوميات: "لم أنم الليلة الماضية لحظة واحدة، قتلوا مرزوق..."(6). فمنصور عبدالسلام "قد حوّل خيباته إلى إرادة حيّة تدفعه إلى مواجهة أعداء المجتمع والحياة وتحثّه على الانحياز إلى برنامج الفعل الذي يبشّر بميلاد جديد، فيواصل الطريق من حيث انتهى مرزوق"(7)، ومرزوق لئن "انتهى" -بلغة بن حميد- وهو كذلك من خلال اليومية الرابعة، فإنّه لم يمت كرمز. فموته المعلَن عنه هو موت لإنسان عادي يُسمّى "مرزوق" لا رمز له، أمّا مرزوق الرمز لم يمُتْ ولن يموت ولا يموت، يقول "منصور عبدالسّلام": "ومرزوق... مرزوق الضحكة الشفافة بالحزن.. العيون المتعبة.. القلب الوردي الذي يلمع في الليل، مرزوق لا يموت"(8). هذا الوصف يحيلنا على معرفة الواصف للموصوف. وطريقة الوصف أو أسلوبه ينمّ عن نوعية العلاقة، فألفاظ من هذا القبيل: الضحكة الشفّافة، العيون، القلب، هي كلمات توحي بعلاقة وطيدة، متينة لا تنفصم عُراها ولا تشوبها شائبة، علاقة ذات وشائج عميقة، ولكن فيم تتجلّى هذه العلاقة؟ أو ما هي مظاهرها في رواية "الأشجار... واغتيال مرزوق"؟
لئن كان "إلياس نخلة" وجهًا من وجوه مرزوق، فإنّ "منصور" يمثّل وجهًا آخر من وجوه "مرزوق"، نقول "آخر" لأنّ هناك اختلافًا بين ما يمثّله "إلياس" من جهة وما يمثّله "منصور" من جهة أخرى، ولئن تباعد الوجهان فإنهما يقتربان إلى حدّ التداخل والتمازج ليعبّرا عن القضية الأم، بل يمثلان رمز القضية الشاملة الذي هو "مرزوق".
ولئن مثّل "إلياس" جانب من جوانب الإنسانية الموسومة بالعمل اليدوي الخاضع للطاقة الجسدية، فإنّ "منصور" يمثل جانبًا آخر للإنسانية وهو العمل الفكري. والشخصيتان لا تمثلان العمل كقضية مطروحة، ولكن ما ينجرّ من شقاء وأتعاب وراء البحث عن هذا العمل. والعمل المبحوث عنه إنّما هو العمل الذي يرتضيه صاحبه، بمعنى العمل المتّسم بحرية العامل. ومن هنا يتحوّل العمل إلى مطيّة بواسطتها يطرق المؤلّف عبدالرحمن منيف قضية مهمة هي الحرّية.
وكما تشرّد "إلياس" وتعذّب، يتشرّد أيضًا "منصور" ويتعذّب وراء البحث عن لقمة العيش؛ فشأنه شأن "إلياس" كلاهما خضع لمنطق الفشل والإحباط. فكما فشل "إلياس" في إيجاد عمل يستقرّ فيه و يروق له، كذلك "منصور" يُسرّحُ من الجامعة ولا يجد عملًا، يقول: "طرقتُ أبوابًا كثيرة ولكن لم أجد أحدًا يجيبني"(9). لقد فشل "منصور" حتّى في نشر ترجمة كتاب "كمونة باريس" لأسباب سياسية.
لقد طلب "منصور" الرزق بطريقة تريحه وترضي ضميره فلم يُوفّق، أراد أن يدرّس التاريخ الحقيقي لا "التاريخ المزيّف" فطرد من الجامعة. إحالة على واقع قهري يستحيل معه الحوار، واقع بهذه الدرجة من البشاعة يستلب أي إحساس بجدارة فتح الحوار معه، فغول الواقع الشرس يلتهم أيّ تصوّر حالم للمستقبل، فلا يبقى سوى الماضي تبحث في نفاياته عن لحظات أمن هاربة، توقفها لتستمدّ منها العزاء والرحمة. إننا نلاحظ اغتيال "منصور" منذ تسريحه من الجامعة كما اغتيل "مرزوق". كان "منصور" يشتغل أستاذًا جامعيًا فطُرد من العمل الذي كان مصدر رزقه، فبتسريحه من الجامعة ينضب معين الرزق لديه، بل يموت، وبموت الرزق يموت الإنسان. لقد كان "منصور" يرتزق من عمله، لقد كان مرزوقًا به. وإذا ما نظرنا في بنية كلا الاسمين "منصور" و"مرزوق" من حيث الصيغة الصرفيّة لوجدنا كلاهما اسمَ مفعول لا اسم فاعل، فكلاهما وقع عليه الفعل، وكلاهما اغتيل. أليس "منصور عبدالسلام" هو "مرزوق"؟ و"مرزوق" هو "منصور عبدالسلام"؟
"مرزوق كل الناس" مقولة جريئة وخطيرة في آن، فإذا كان "مرزوق" هو كل الناس، فالأمر لا يُحدّ بإلياس أو بالشجرة أو بالينبوع أو بمنصور فحسب. لكن أيّ نوع من الناس يقصد صاحب المقولة؟ يبدو أنّ صاحب المقولة يتعامل مع مفهوم مخصوص للإنسان وإلّا فلِمَ يختم مقولته بتعريف تقريري بمثابة الاستنتاج أو التلخيص لما سبق "مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"؟
إنّ مفهوم الإنسان لدى صاحب المقولة هو ذاك الذي يمتاز بخاصيات معيّنة لا نجدها إلّا عند "إلياس نخلة" أو أمثاله، بل عند "إلياس نخلة" الذي لا يموت. فهل أنّ الموت المقصود، هنا، هو الموت المادّي أم المعنوي؟ إنّ "إلياس" يُعتبر ميّتًا بعد فقدانه للأشجار التي تمثّل مصدر رزقه/ حياته. ونقول أيضًا: إذا ما رمنا التصاقًا بالنسق القصصي في النص المصدر أنَّ إلياس قد مات منذ انتهاء القسم الأوّل من الرواية، منذ أن نزل من القطار، منذ أن ودّع صديقه منصور، والوداع علامة الذهاب بلا رجعة، هي في نهاية المطاف علامة الموت.
بناء على ما تقدّم يبدو أنّ إلياس نخلة قد مات، ومرزوق لا يُشاكل هذه الشخصية التي تموت، وإنّما هو "إلياس نخلة الذي لا يموت"، وبين الذي يموت والذي لا يموت مسافة لا تُحدّ. فمن هو هذا الذي لا يموت حتّى نعرف من خلاله مفهوم الإنسان المتجسّد في "مرزوق"؟ إنّ "إلياس نخلة الذي لا يموت" هو تلك الشخصية الرمز المعانقة للذاكرة دون انقطاع، هو ذلك البطل الإشكالي "الذي ينشد قيمًا أصيلة في مجتمع متدهور القيم" بتعبير "جورج لوكاتش". هو تلك الشخصية المنبجسة من صميم الحياة تحمل نبضها وألقها، تلتحم بشكل خلّاق بالشؤون البشرية، وتمارس تميّزها لأنها تلامس الأرض بكل أجزائها. ولذا، فإنها تنقذف للعراء حارّة كدفقة الكون، نابضة، مشعّة، تمتصّ لون الحياة وبريقها. تلك هي الشخصية التي تحمل ملامح "مرزوق".
فعبارة "كل الناس" لا تتصل بعامة الناس الذين هم داخل الرواية، وإنَّما بالوجوه التي لا تعدو أن تكون رمزًا للإنسان العربي في حركة التاريخ، لأنّها شخصيات تكشف لنا عن وعي جنيني هش يكشف أسوار عالم أبكم فترتدّ الأبصار خاسئة حاسرة تستجدي أطياف ماضٍ أكثر مرارة.
إذن "كل الناس" هي من جهة شخصيات تمثّل تعرية شديدة اللهجة للواقع الإنساني عبر مقابلته بصورته الفطرية النقية، لصيغة لوحة التضادّ بين النقاء الأصلي والتزييف الطارئ، مقابلة تضادّ لا تتفق مع ديمقراطية "روسّو" التي تعلن "وُلد الإنسان حرًّا"، أو المفهوم الذي طرحه عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟". ومن جهة أخرى هي شخصيات تعيش المعاناة والمكابدة من جرّاء الوسط التاريخي الذي تحكمه قوانين التشيّؤ وعوامل المصادرة والاستلاب. فهذه الأنماط من الشخصيات هي "كل الناس" وهي "مرزوق" الذي ما انفكّ يعاني من كتلة آدميّة سديمية تُسكنه حماقة الواقع وضروراته المستعصية على وعيه الجنيني، فيواجه الواقع كلعنة قدريّة لبدائية فهمه. فيخضع لمنطق الفشل، ولكنّه يُكبر عليه كإنسان يجترّ مع "سنتياغو" مرارة إخفاق المواجهة، لكنّ الهزيمة لا تحبطه، بل ينهض من جديد لمواجهة الحوت الذي يهاجم شطآن البلدة.
ذلك هو "مرزوق"، هو الشخصية التي تتفرّد في الرواية بغناها الدرامي، بانغماسها الكلّي في الهم الإنساني. فـ"مرزوق" يختلف عن الأبطال الذين ذُكروا في بداية هذا المبحث كنماذج لأبطال الرواية العربية (أحمد عبدالجواد، مصطفى سعيد، زكريا المرسنلي، وغيرهم). "مرزوق" يمثّل الجوهر الأصيل للشعب، للحياة، للعمل، للأصالة، للشموخ، إنّه الإنسان الذي تكمن الأسطورة الحقيقية في حياته.
إنّ "مرزوق" هو إنسان الفعل، وإنسان الفعل وحده قادر على الثبات في شريط الزمن الفار، لذلك مرزوق "لا يموت". هو حيّ مدى الحياة، حيّ في الذاكرة الفردية والجماعية. هو شخصية رامزة، بل هو قطب الشخوص بما فيها الشخوص الرمزية، مرزوق يساوي كل الشخوص التي يعرضها الكاتب في غربتها وانتمائها، في خوفها وجرأتها، كاشفًا علائقها بالتاريخ والواقع ليمنح القارئ كشفًا لذاته ولعالمه بعد تجربة الشخوص المماثلة.
ذلك هو "مرزوق"، بحسب محاولتنا الاستقرائيّة لنصّ المقولة وعلاقته بالرواية، على الرّغم من أنّ الراوي الشخصية (منصور عبدالسلام) قد وعدنا بالكتابة عن مرزوق "سوف لن تضيع يا مرزوق. إذا لم أستطع أن أثأر لك، فسوف أكتب عنك"(10)، فإنّ ذلك لم يحصل، وتبقى الآن قصّة "مرزوق" هي قصة القارئ في تعامله مع الرواية.
• الهوامش
1- عبدالرحمن منيف، "الأشجار... واغتيال مرزوق"، ط13، 2008، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص349.
2- المصدر السابق، ص112.
3- المصدر السابق، ص102.
4- المصدر السابق، ص118.
5- المصدر السابق، 47.
6- المصدر السابق، ص301.
7- د.رضا بن حميد "الخيبة ووعي الخيبة في عالم منيف الروائي" (بحث جامعي)، ص219.
8- عبدالرحمن منيف، "الأشجار... واغتيال مرزوق"، ص321.
9- المصدر السابق، ص322.
10- المصدر السابق، قسم اليوميات بتاريخ الثلاثاء 17 نيسان، ص349.